العمارة والتشييد > عمارة سورية التاريخية
جدران العصر الحجري في بلاد الشام
تُعَدُّ العمارةُ المعاصرة نتاجًا لآلاف الأعوامِ من خبرة البناء والتشييد المتوارثة، فكيف كانت بدايتُها وما مقدارُ اختلافها عن العمارةِ التي نراها اليوم؟
للحصول على الإجابة تعالوا معنا لنتابع مقالنا هذا.
Neolithic مصطلحٌ صيغَ في نهايةِ القرن 19 إشارةً إلى العصر الحجري الحديث والذي شهد ثورةً أدت إلى تغيُّراتٍ ضخمةٍ في الحياةِ الاجتماعية كظهور الزِّراعة وتدجين الحيوانات، ممَّا شكَّل مقدمةً للانتقال إلى حياة الاستقرار التي أنتجت تطورًا كبيرًا في تقنيّات العمارة في بلاد الشام خصوصًا بين عامي 8000 - 10200ق.م.
تركَّزت الدِّراسة الحاليَّة في قرية كاراميل ومواقعَ أُخرى في بلاد الشّام، وهي نتاجٌ لعدّة سنواتٍ من العملِ الميداني الذي بدأ في العام 1999م في إطارِ مشروعٍ دولي عن طريقِ البعثة الأثريَّة السورية البولندية، إذ هدفت هذه الدّراسة إلى تحديدِ عناصر العمارة التي بقيت دون تغييرٍ آلاف السّنوات بمقارنتِها مع النَّماذج الحديثة لقرية كاراميل والتي تفسِّر لنا المزايا الهامّة لهذه العناصر التي يصعب فهمها من السجل الأثري دائمًا.
نشأت مستوطنةُ كاراميل في 8800 - 10900 ق.م في سوريا على حوض نهرِ القويق الذي يبعد قرابة 25 كم شمال حلب و65 كم جنوب جبال طوروس، واشتهرت بزراعتها وموقعها التجاري المتميِّز إضافةً إلى التاريخ المذهل لنشاطات الإنسان القديم.
كشفت التنقيبات الأثرية في الموقع عن وجود خمسةٍ من أقدم الأبراج في العالم وأكثر من ستين منزلًا دائريًّا وبيضويًّا وضريحين مذهلين مع المخازن والمواقد وحفر القمامة، بالإضافة إلى العديد من الهياكل العظميّة والبقايا الحضارية.
تقنيَّة إنشاء الجدران الحجرية:
- تقنية الصف الواحد: أبسط التقنيات المستخدمة، يُبنى الجدار من صفٍّ واحدٍ من الحجارةِ المتراكبة فوق بعضها إذ يتحقَّقُ ترابط الحجارة باستخدام المونة، وسَماكة هذه الجدران قليلة تتراوح بين 30 - 25 سم وتستند إمّا على الأرض مباشرةً أو على أساسٍ من الحجارةِ المسطَّحة الكبيرة، وتُستخدم هذه التقنية في المباني المؤلّفة من طابقٍ واحدٍ كالمخازن؛ إذ تُعَدُّ ضعيفةَ المقاومة للحمولات الكبيرة، وقد وُجِدت أمثلة لهذه الجدران في Hallan cemi في جنوب شرق تركيا عام 10000 ق.م، وظهرت في تل المربيط 2 في منطقة الفرات الأوسط بين عامي 9800 – 9200 ق.م، وظهرت في نفس الفترة في موقع جرف الأحمر وتل المربيط 3 حيث استخدمت كتلٌ من الحجر الكلسي المتطاول، وفي جلجال 9300 - 9000 ق.م ووادي بكر 8800 – 9000 ق.م في فلسطين.
- تقنية الصف المزدوج: تقنيةٌ أعقد تتضمَّن صفَّين من الحجارة المتراكبة فوق بعضها، إذ يشكِّل كلُّ صفٍ منها أحد وجهي الجدار، وتتراوحُ سماكة الجدران بين 30 - 50 سم ممَّا يمكِّنها من تحمُّل حمولاتٍ أكبر، فاستُخدِمت لوظائفَ أكثر تنوّعًا. وقد بُنيَت هذه الجدران في المنازل والمخازن على أساسٍ من الحجارة الكبيرة المسطَّحة، واستُخدِمت أسقف هذه المباني المستوية المستوية كترَّاساتٍ للأنشطةِ المنزليّة، واكتُشِف استخدامُ هذه الطريقة في موقع زاد 2 جنوب بلاد الشام 8550 - 9150 ق.م.
- تقنية الصفّ المزدوج مع تعبئة الفراغ بين الصفين: أكثر التقنيات تطورًا، تتألَّفُ من صفّين من الحجارة المتباعدة تشكِّلُ فراغًا يُملأ بالحجارة المحطّمة والطين، وتبلغ سماكة الجدران قرابة 60 - 50 سم أو أكثر، وتُبنى فوقَ أساسٍ من الحجارةِ الكبيرةِ المسطَّحة، وتتميَّز بقدرتها على تحمُّل حمولاتٍ كبيرةٍ إضافةً إلى عزلٍ جيدٍ للمبنى من العوامل الجوية. لُوحظت هذه التقنية في الأجزاء السفلية لبرجين بتل الكاراميل 1و 2، ويقدَّرُ تاريخ الثّاني 8255 - 8425 ق.م، وقد استُخدِمت هذه التقنية في المباني إلى جانب تقنية البناء بصفٍّ واحد، فبُنيت الجدران الخارجية بهذه التقنية والجدران الداخلية بتقنية الصف الواحد.
رُتِّبت حجارةُ الجدران في الطرق الثلاث السابقة عشوائيًّا في المراحل الأولى، إذ بُنِيت بأشكالٍ وأحجامٍ مختلفةٍ ومُلئت الفراغاتُ بينها بالحجارة الصغيرة لزيادةِ متانةِ الجدران في هذه المنطقة المعرَّضة لخطر الزلازل منذ القِدم، واعتُمِدَ لاحقًا التّرتيب المنتظم للحجارة المختارة بعناية ولكن غير المصقولة.
تقنية البناء Pise:
جدارٌ متراصٌّ من اللبنات الطينية (طينٌ ممزوجٌ مع الماء وبعض المواد العضوية)، وتوجد طريقتان لصناعة هذه اللّبنات:
- الطريقة الأولى: تصنع اللبنات يدويًّا بقياساتٍ مختلفةٍ وتُرتَّبُ بصفوفٍ أفقية، ويُترَك كلِّ صفٍ بعد بنائه ليجفَّ تحت أشعة الشّمس مدَّة ثلاثة أيام، ثمَّ يُبنى الصفُّ التالي من اللبنات وتُكرَّرُ العملية حتى الوصول إلى الارتفاع المطلوب.
- الطريقة الثانية: يُستخدم فيها قالبٌ خشبيٌ يُملأُ بالطين ثمَّ يُضرب بمطارق خاصّة لتقليل الفراغات وزيادة متانة اللبنات لتُستخدَم في المنشأة، وتُترَكُ لتجفَّ مدة 3 أيام، وتُستخدَمُ في الجدران قليلة الارتفاع عادةً والعريضة كالأسوار، وفي جدران المنازل التي يقع جزءٌ منها تحت الأرض.
بعد الانتهاء من بناء الجدار يُنعَّمُ ويُصقَلُ سطحه الخارجي لتصبح نقاط التماس بين اللبنات غير واضحة، ومن أشهر الأمثلة موقع نيمريك 9 في بلاد الرافدين في نهاية الألف التاسع ق.م، وتل الكاراميل وحاتولا في فلسطين والضّهرة في الأردن.
تقنية بناء الطوب الطيني:
تُعَدُّ تطويرًا لتقنية البناء Pise، وهي قطعٌ منتظمةٌ من الطين والقش المصبوب ضمن قوالب والمجفَّف تحت أشعةِ الشمس، وقد استخدمت في المنشآت بطرقٍ مختلفة، ولكنَّها شاعت خصوصًا في بناء القِبَابِ التي تميّزت بها العمارة السورية خلال حضارة حلف (نسبةً لتل حلف) 5100 - 6100 ق م، واستُخدِمت في المباني الحجرية لتشكل الطبقات العليا منها.
وتُرتَّبُ قطع الطوب بثلاث طُرُق:
الترتيب المتوازي: يتألف الجدار من صفٍّ أو عدة صفوفٍ من قطع الطوب المرتبة لتواجه جوانبها جانبي الجدار، ويرتبط عرضُ الجدار بعددِ الصفوف وعرض قطع الطوب المستخدمة.
الترتيب المتقاطع: يتألف الجدار من صفٍّ واحدٍ من قطع الطوب المرتبة لتواجه نهاياتها جانبي الجدار بعرض يبلغ قرابة 25 - 20 سم.
الترتيب المختلط: يتألف الجدار من قطع الطوب المرتب على نحوٍ متناوب (التوازي والتقاطع سويًّة)، وتُعَدُّ أقوى الطرق الثلاث، ويمكن أن يصل عرض الجدران إلى 1م.
أمثلةٌ عن استخدام الطوب الطيني:
يوجد أقدم دليلٍ في أريحا في فلسطين، حيث اكتُشِفت جدرانٌ لمنازلَ مبنيةٍ من ثلاثةِ صفوفٍ متوازيةٍ من الطوب الطيني المترابط باستخدام المونة كما في الجدران الحجريّة (المونة مصنوعةٌ من الطين الممزوج مع الرماد البركاني أو الحُمّص، ولوحِظَ بالتحليل الكيميائي استخدام بياض البيض أيضًا)، واكتُشفت في موقع وادي بكر في فلسطين والضهرة في وادي الأردن وفي شمال بلاد الرافدين في منزلٍ في موقع نمريك، بُنيت جدرانه من قطع الطوب على أساساتٍ من الصخور القاسية بترتيبٍ موازٍ للقطع.
غُطِّيت الوجوه الداخلية للجدران في بعضِ الأحيان بطبقةِ تلبيسٍ من الجص الطيني، مثل تغطية جدران المنزل الدّائري في lefaat‘M في الموصل.
شكل وقياس قطع الطوب الطيني:
اتخذت القطع القديمة شكل convex-plano (مسطحة من الأسفل ومحدبة من الأعلى) أو شكلًا طوليًّا يشبه قطع السّيجار وبأبعادٍ متنوعة، وظهرت الأشكال المنتظمة لاحقًا واستخدمت قطعٌ بأبعادٍ قياسية، مثل موقع تل بقرص وسط بلاد الشام إذ شاعت الأبعاد القياسية التالية للقطع 32 * 16 * 8سم.
تشير أساليبُ البناءِ المستخدمة في عمارة كاراميل الحديثة ومقارنتها بعمارة العصر الحجري الحديث Neolithic إلى بقاءِ بعضِ تقنيات البناء وخصوصًا جُدران المباني دون تغييرٍ يُذكر لأكثر من 10000 عام، وهذا يدل على أداء هذه العناصر لوظائفها على نحوٍ مثالي طول هذه العصور، وتشير إلى تعلُّق الناس بالتقاليد القديمة.
المصادر: