البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات
تأثير البكتريا المعوية قد يصل إلى المورّثات!
يسكن أمعاءنا وأمعاءَ جميع الحيوانات نظامٌ بيئيٌ قويٌ، يتألّف من من ملياراتٍ من الكائنات المتنوّعة، كالبكتريا والفطريات والفيروسات، التي يُعرَف مجموعُها بما يسمّى microbiome، يقدّم هذا النظام الحيوي خدماتٍ هامّةً جداً لصحّة المضيف، تتراوح من معالجة العناصر الغذائية، وصولاً إلى تطوير الجهاز المناعي، وصيانته والمحافظة عليه.
أُجريت تجربةٌ في هذا البحث على مجموعتين من الفئران، رُبّيت إحداهما في بيئةٍ خاليةٍ من الجراثيم، والثانية في ظروفٍ مخبريةٍ نموذجيةٍ، وبعد مقارنة النتائج، تمكَّن العلماء من تحديد دورٍ أساسيٍّ جديدٍ للمجمّعات الحيوية التي تعيش معنا، وهو دور الوسيط في نوع من التعبير الوراثي، يطلق عليه مصطلح "التغيّرات فوق الوراثية"، ويقصد بها: التغيّرات الكيميائية التي تصيب DNA لكنَّها لا تؤثر على تسلسل مورثاته، بل على فعاليتها، إذْ ثمّةَ موادّ كيميائية يمكن أن تُضاف إلى الجينات المفردة فتنظّم فاعليتها تحديد الجينات النشطة. تدعى هذه العملية بالتعديل فوق الجيني (فوق الوراثي).
ونشر فريقٌ من الباحثين من جامعةِ ويسكنسن بحثاً جديداً، ساعد في وصفِ آلياتِ الاتّصال بين المجمّعاتِ الحيوية المعوية وخلايا مضيفها، لتشغيل أو إيقافِ عمل الجينات، ونتج عن هذه الدراسة أيضاً اتّهامٌ بالتأثير السلبي لما يسمّى "الحمية الغذائية الغربية"، وهي عبارةٌ عن نظامٍ غذائيٍ فيه مستوياتٌ عاليةٌ من الدهون المشبعةِ والسكّر واللحوم الحمراء، وكشفت أيضاً أنَّ النواتج الاستقلابية للبكتريا المعوية تتواصل كيميائياً مع خلايا المضيف، بما في ذلك الخلايا الأبعد من الكولون، لتمليَ عليها معلوماتٍ تتعلّق بالتعبير الجيني والصحّة في تلك الخلايا.
ويشرح John Deno كبير الباحثين في معهد ويسكنسن، أنَّ هذه الجراثيمَ يمكنها بطريقةٍ ما، أنْ تقود عملية التغيير في التعبير الجيني في خلايا المضيف. ويقول: "لقد بدأنا نفهم كيف ولماذا، وما هي آلية تأثير النظام الغذائي، والمجمّعات الحيوية المعوية، على التعبير الجيني."
لقد كشفت الدراسة التي أجراها Kimberly بين مجموعتي الفئران سابقتي الذكر،الاختلافاتِ الجوهريةَ في التنظيم الوراثي، بين المجموعة الأولى التي نشأت في بيئةٍ تقليدية، والأخرى التي نشأت في بيئة خاليةٍ من الجراثيم، فقد قُدِّم للفئران نوعين من الأنظمة الغذائية، كان الأوّل غنياً بالنباتاتِ والكربوهيدرات، وهو يماثل الفواكه والخضار المستهلكة من قبل البشر، وكان الثاني يحاكي النظام الغذائي الغربي من حيثُ غناهُ بالسكّريات البسيطة والدهون.
وشرح Federico Ray، أستاذ مادّة الجراثيم في جامعة ويسكنسن، أنَّ اتّباعَ نظامٍ غذائيٍ يعتمد على النباتات، يُنتج مجمّعاً حيوياً أغنى، وأفادَ: "إنَّ اتّباع نظامٍ غذائيٍ جيّد، يُترجَم إلى مجمّعٍ حيوي معويٍ micobiome جميلٍ ومعقّد، ونحن ندرك أنَّ هذه المجمّعاتِ الحيويةَ المعويةَ تؤثّر على المركّبات فوق الوراثية في المضيف، بحسب نمط النظام الغذائي."
ويبدو أنَّ النظام الغذائي النباتي يُدعِّم الاتّصالات بين هذه الكائنات من جهة، وخلايا المضيف من جهة أخرى، وتشير هذه الدراسة الجديدة إلى أنَّ البكتريا المعوية تستهلك وتستقلب وتخمّر المغذّيات ذات المصدر النباتي، وتنتج مجموعةً صغيرةً من سلاسل الأحماض الدهنية القصيرة، التي تُعدّ رسائلَ كيميائية هامّة للتواصل مع خلايا المضيف من خلال التغيّرات فوق الوراثية.
ويوضّح الباحث Denu ذلك، فيقول: "إحدى نتائج هذه الدراسة هي أنّ نواتجَ الاستقلاب والتخمير، الذي تقوم به الميكروبات المعوية على الألياف النباتية، تؤدّي إلى إنتاج سلاسل قصيرة من الأحماض الدهنية التي قد تعدّ مع كثير غيرها من الجزيئات، مسؤولةً عن التواصل مع التغيّرات فوق الوراثية."
وبالمقارنة، كان للمجمّعات الحيوية في أمعاء الحيوانات التي اعتمدت نظاماً غذائياً غنيّاً بالسكّر والدهون، ضعفٌ في قدرة التواصل مع الخلايا المضيفة، وربّما يكون ذلك إشارةً إلى أنَّ صحّةَ الإنسان الجيّدةَ ترافقت مع تشكيلةٍ للمجمّعات الحيوية أُنشِئت في الماضي البعيد، حين كانت النباتاتُ المصدرَ الأكبرَ للبروتين في النظام الغذائي، مع قليلٍ من السكّر والدهون، مقارنةً بالأنظمة التي تحتوي على المزيد من اللحوم والأغذية المصنّعة، ويضيف أنّه مع ابتعادنا عن الأنظمة الغذائية النباتية ربّما سنفقد بعض التواصل بين المجمّعات الحيوية المعوية والمضيف، فالأطعمة الغنية بالدهون والسكّريات، خاصّةً تلك المصنّعة منها، (التي قد يكون هضمها أسهلَ للمضيف)، قد لا تكون بالمقابل مصدراً جيّداً للجراثيم التي تعيش في القناة الهضمية. والنتيجة هي: كلما قلَّ تنوّع المجمّعات الحيوية المعوية، قلَّ التواصل مع المضيف.
ومن النتائج المفاجئة أيضاً أنَّ التواصل الكيميائي بين المجمّعات الحيوية المعوية وخلايا المضيف قد يكون بعيدَ المدى، فإلى جانب التواصل مع خلايا الكولون، يمكن لهذه المجمّعات أن تتواصل مع خلايا الكبد، وخلايا النسج الدسمة البعيدة عن الأمعاء، ويعدّ هذا دليلاً هامّاً إضافياً على أهمية المجمّعات الحيوية لصحّة وسلامة المضيف.
(يبقى لنا أنْ نشرحَ أنَّ الباحثَ Denu زوّد الفئرانَ التي رُبّيت في بيئة خالية من الجراثيم بثلاثة أنواع من سلاسل الأحماض الدهنية القصيرة، التي أظهرت الدراسة أنها رسائلٌ هامّةٌ للتغيّرات فوق الوراثية، كمكمّلاتٍ كافيةٍ لتعزيز التبادل الصحّي بين المجمّعات الحيوية المعوية وخلايا المضيف، فقد أثّرت هذه السلاسل على التبادل في الفئران المحرومة منها أساساً، بشكل مشابه لتأثيرها على مجموعة الفئران التي أُعطيت نظاماً غذائياً معتمداً على الألياف النباتية التي تملكها بشكل طبيعي، وساعد هذا في إثبات كونِ هذه السلاسل القصيرة من الأحماض الدهنية السابقة تعدّ موادّ اتّصالٍ رئيسة. ونثبت بالتالي أنَّ الاتّصال لا يعود فقط إلى الكائنات الدقيقة، بل إلى المركّبات الناتجة عن الاستقلاب فيها أيضاً.
ما زال أمامَنا الكثير لنكتشفه بخصوص الميكروبيوم، وإلى الوقت الذي نكمل فيه استكشافَ هذا المجهول، يبقى لنا أن نأملَ أنْ يساعدَنا على حلّ بعض مشاكلنا الصحّية، ونحاولَ ما أمكنَ الاهتمامَ بحمْيتنا الغذائية المتوازنة.
المصادر: