البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
الشيخوخة من وجهة نظر بيولوجية - ج2
كما رأينا في المقال السابق فإنَّ التغيُّراتِ فوقَ المورثية لها دورٌ أساسٌ في تنظيم العمل المورثي (من خلال تفعيله أو إيقافه أو زيادته أو تقليله) ويجتمع كلا العاملين: المعلوماتُ الوراثية المُختزنة في الـDNA وتلك ما فوق المورثية ليُنظِّما عمليةَ التعبير المورثي ومن ثَمَّ عمليةَ الشيخوخة وعملياتٍ أخرى كالسرطنة.
ورغم عدم الفهم الكامل لآليات حدوث الشيخوخة -حتى الآن- إلا أنَّ أحدَ أبرز الآراء العلمية الـمُؤَيَّدة بالأدلة تقول إنَّ الجزءَ الأكبر من الشيخوخة عائدٌ إلى عملية التغيُّرات فوق المورثية، فبمرور الأيام تزيد آلياتُ التنظيم هذه في مورثاتنا وتنقص، مع العلم أنَّ من أهم ما يُسببها: التدخينُ والتعرُّضُ للتلوث والكثيرُ من العوامل البيئية والاجتماعية الأُخرى، وبتراكم هذه التغيُّرات فوق المورثية على مدى الزمن وتكاملها (أي تراكم خلل تنظيم التعبير المورثي وتكامله) تضعف عضلاتُنا وتتبلّد أدمغتُنا ونصير أكثرَ ضعفاً أمام الأمراض، لأنَّ الـ DNA في المراحل المبكرة من الحياة يكون خاضعاً لتنظيمٍ معينٍ يجعل الـDNA يُعبر عن المورثات الصحيحة في الوقت الصحيح، ولكن بمرور الزمن تقع مُنظمات الـ DNA في الفوضى ما يُعدُّ سبباً مهماً لحدوث الشيخوخة. لذا قد نجد وفياتٍ مبكرةً لدى بعض الأشخاص الأكثر التزاماً بنُظُمِ الحياة الصحية. لمعلومات أكثر شاهد مقالنا هذا: هنا
إلا أن دراسةً جديدة أثبتت أنَّ هذا غيرُ صحيح دائماً!
أُجريت الدراسةُ التي نُشرت في مجلة (Genome Biology) على أكثر من 3000 شخص، وقد كانت ثمرةَ تعاونٍ بين 6 معاهدَ مختلفةٍ وكادرٍ يضم 34 باحثاً يقودهم الدكتور Bas Heimans المختصُّ في علم التخلُّق (التغيُّرات فوق المورثية) في قسم علم الأوبئة الجزيئي في المركز الطبي لجامعة ليدن (Leiden University Medical Center) وقد أظهرت هذه الدراسةُ وجودَ أشخاصٍ يظهر لديهم الـDNA وكأنَّهم في ريعان الشباب رَغم تقدُّم أعمارهم! يقول Bas Heijmans معلِّقاً: "نعتقدُ أنَّنا قد أمسكنا بعملية الشيخوخة بالجرم المشهود! فعدمُ انتظام الـ DNA الذي اكتشفناه تناسبَ طرداً مع ازدياد الفعالية في مورثاتٍ تحاول باستمرارٍ إصلاحَ أعطال الخلايا، وهذه العمليةُ ليست فعالةً تماماً وبالتفعيل الطويل تسبِّب الشيخوخة."
جَدْوَلَ الباحثون مناطقَ تنظيم الـ DNA لدى 3000 شخص بوساطة قياس شدة المَثْيَلة أو Methylation وهي أحد أنواع الإشارات فوق المورثية التي تُوقف عملَ المورثة في قرابة نصف مليون موقع في الـ DNA البشري، وكان الفريق يبحث بوساطة دراسة شدة المَثْيَلة عن مواقعَ ازدادَ فيها اختلافُ التنظيم بين الأشخاص في خلال تقدم عمرهم، فوجدَ -خلافاً لما هو متوقع- أنَّ هذه المواقع قد رُبطت سابقاً عن قرب بفعالية مورثاتٍ عُرف -بدراستها في الديدان والفئران- أنَّها تؤدي دوراً مركزياً في عملية الشيخوخة، كما أظهرت النتائجُ اختلافَ نِسَب عدم انتظام الـ DNA المرتبط بالتقدم بالعمر لدى المشاركين، فكان الـ DNA لدى بعض كبار السن مُنتظمٌ وكأنَّهم في الخامسة والعشرين من العمر! وكانت خصائصُ مورثاتِ عملية الشيخوخة أقلَّ تفعيلاً بكثيرٍ لدى هؤلاء.
تدعم هذه الأبحاثُ حجةَ بعض العلماء بالتفريق بين العمر الزمني والبيولوجي؛ فالآليات الوراثية وفوق المورثية قد تفسِّر ظاهرةَ الشيخوخة المبكرة، أو الهرم المتأخر، كما يُمكن أن تكونَ باباً لعلاج اضطرابات تقدُّم العمر.
سيسعى الباحثون في الخطوة القادمة لمعرفة إن كان هؤلاء الأشخاص سيعيشونَ أصحاءَ مدةً أطول، إذ تعتمد صحتنا على أكثر من تنظيم الـDNA ، لكن يُعتقد أنَّ عدمَ انتظام الـDNA عمليةٌ جوهريةٌ قادرةٌ على دفع خطر أمراض مختلفة في الاتجاه الخاطئ، فمثلاً وُجِد في الخلايا السرطانية أنَّ تغيراتِ تنظيم الـDNA تحصل بطريقة تشير إلى أنَّ حصولَ التغيُّرات فيها مع تقدم العمر قد يكون إنذاراً للمرض، لذا يسعى الباحثون لمعرفة إن كانَ عدمُ انتظام الـDNA يَزيد خطرَ عدة أنواعٍ من السرطان، أو العكس، فربما يكونُ انتظام الـ DNA الشبابي هو الواقي!
المصادر:
Guyton and Hall Textbook of Medical Physiology. Thirteenth Edition (2016).
Thompson & Thompson Genetics in Medicine (eighth Edition 2015) by Robert Nussbaum et a