كتاب > الكتب العلمية
مراجعة كتاب (النظرة العلمية): النظرة العلمية وصراع المنهج العلمي مع التاريخ
في كتابه "النظرة العلمية" يبدأ برتراند راسل بسردٍ تاريخيّ عن كيفية نشوء العلم في الحضارات القديمة ويبدأ بالحضارة الإغريقية معتبرًا أن نصيب الإغريق في نشوء العلم كان ضئيلًا بالرغم من شهرتهم في نواحي النشاط الإنساني، وكانوا ينظرون إلى العالم نظرة الشاعر لا نظرة العالم. أما عبقريتهم في الهندسة فكانت عبقريةً قياسيةً أكثر منها استقرائية، إذ سلّموا بالمقدمات الرياضية دون تجربتها. وكان لهم أثرٌ كبيرٌ في علم الفلك فكانوا أول من آمن باستدارة الأرض ودورانها. أما العرب فقد مالوا إلى التجريب أكثر من الإغريق، فكان لهم فضلٌ كبيرٌ في حصول بعض علماء القرون الوسطى على الكثير من المعارف العلمية.
وكان غاليلو من أبرز علماء العصور الوسطى وقد واجه الكثير من الصعوبات وتصادم مع محاكم التفتيش التي رفضت أفكاره، فقد دك غاليلو صرح معارف العصور الوسطى لأنه شكك في صحة أقوال أرسطو والكتب المقدسة، وقد صودرت كتبه وحكم عليه بالسجن وأُمر بالتخلي عن عقائده "الخاطئة" لاعتقاده بأن الأرض تدور حول الشمس وبأنها ليست مركز الكون، ويعتبر غاليليو أبا العصر الحديث لأنه خطا أول خطوةٍ واسعةٍ في عملية كسب المعرفة الاستقرائية وكان له دورٌ عظيمٌ في تقدم العلم وإخراج الناس من ظلام العصور الوسطى. ويضيف لنا أيضاً راسل متعةً جديرةً بالقراءة في هذا القسم بعرضه لرسالة الإدانة من قبل الكنيسة الكاثوليكية لغاليليو ورسالة رد غاليليو على الكنيسة.
أما في القرن السابع عشر فقد تغيرت النظرة العلمية، وحظي نيوتن باحترام العامة على نقيض سوء المعاملة التي قوبل بها غاليليو، ويعود ذلك إلى جهد العديد من العلماء وإلى الأحداث السياسية والحروب الأهلية التي أدت إلى تخفيف حماسة الناس الدينية. ولم يكن غاليليو وحده من اصطدم بآراء مجتمعه، فقد أتى داروين في القرن التاسع عشر وحارب يقينَ الناس بالعلوم القديمة ككلِّ مجدّدٍ للعلم.
ولا يتحدث الكاتب في صفحات كتابه عن تطور النظرة العلمية للمجتمع فحسب، بل يتناول كيفية تطور النهج العلميّ (الطريقة العلمية) خلال العصور، بدءًا بمرحلة ما قبل التاريخ ومرورًا بالعصور التاريخية ومن ثمّ العصور الوسطى. ويرى أننا لنصل لطريقٍ علمي علينا المرور بثلاث مراحل أساسية وهي ملاحظة الحقائق والوصول إلى فرض، ومن ثم استنباط النتائج بطريقةٍ قياسيةٍ يُمكن اختبارها بالملاحظة.
وقد سار العلم بتقدمٍ سريعٍ في القرنين السابع عشر والثامن عشر ولكنه لم يبدأ بالتأثير في نهج الإنتاج فعليًا إلا في أواخر القرن الثامن عشر. فقد كان يحرز تقدمًا بطيئًا ينسجم مع إطار الحياة اليومية. أما العصور الحديثة فشهدت تقدمًا آليًا سريعًا تناول الكاتب شرحه في القسم الثالث من الكتاب، حيث يقدم تصورًا للمجتمع العلميّ المستقبليّ الذي سيستخدم خيرَ منهج علميّ في الإنتاج والدعاية والتعليم، ويرى أنه سيتميز دون غيره من المجتمعات الماضية التي أوجدتها أسبابٌ طبيعية أن بُني على وجهٍ معين لتحقيق غايات خاصّة.
ويذهب راسل، في العام 1931، أي في العام الذي كتب فيه هذا الكتاب، إلى التنبؤ بشكل المجتمع المحكوم بالعلم الخالص مستنتجًا أنّ العلم سيقبض بقوة على التنظيم الاجتماعيّ وعلى الجوانب البيولوجية للحياة البشرية، فالدول بدأت بالفعل بتنظيم السكان من حيث الكمّ والنوع. وستكون هناك طبقات اجتماعية مقسمة حسب نوع العمل الذي تقوم به، فهناك وظائف ستقوم بها كائنات رفيعة الذكاء التي سيكون لها نوع خاصّ من التعليم كذلك وسيسمح لها بالتكاثر والإنجاب، وستُترَكُ الأعمال الشاقة لمن يتمتعون بقدراتٍ جسديةٍ قوية. ولن يكونَ هناك اهتمامٌ بالحب أو الفن أو غيرهما من المثل العليا إذ سيكون مجتمعًا علميًا خالصًا تُوَلِّدُ فيه القدرة العلمية حبّ السيطرة والديكتاتورية العلمية التي تسيطر حتى على مشاعر البشر.
فما هي النظرة التي ينظر بها برتراند راسل إلى المستقبل؟ هل هي نظرةٌ تفاؤليةٌ أم تشاؤمية؟ هل يرنو إلى التقدم البشري العلمي والأخلاقي إلى درجة يخرج فيها البشر عن الدائرة التي داروا فيها خلال ألفي عام خلت من القتل والدمار؟ أم أن الحضارة الكوكبية ستصبح حضارةً كونيةً قادرةً على تصدر المعرفة الإنسانية إلى الأكوان الأخرى؟ تستدعي نظرة برتراند راسل في نهاية الكتاب الجدل بشكلٍ كبير باعتباره من أهم فلاسفة القرن العشرين، إذ يستطيع كل إنسانٍ أن يرى في هذه النظرة ما يناسبه فقد جاء راسل بنظرته شاملاً لكل ما هو إنسانيٌ في هذا العصر.
معلومات الكتاب:
الكتاب: النظرة العلمية
تأليف: برتراند راسل
ترجمه إلى العربية: عثمان نويـه
دار النشر: المدى
طبع لأول مرة: 1931
عدد الصفحات: 258