العمارة والتشييد > الترميم وإعادة التأهيل
الدراسة المتحفية لموقع براكا نوفاPraça Nova في قلعة خورخي
هل علينا أن نعيد الموقع الأثري إلى حالته الأصلية؟ أم نكمل بناءه بأسلوبٍ عصري؟ أم ربما شيءٌ من هذا وشيءٌ من ذاك؟ إنّها من الأسئلة الأكثر طرحاً في مجال ترميم وتأهيل المواقع التاريخية، وبين هذا وذاك دعونا نرى كيف تعامل معمارنا مع موقعه التاريخي المتراكم والمميّز.
قامت شركة JLCG المعمارية في عام 2010 بوضع دراسة لموقع أثري في مدينة لشبونة في البرتغال وذلك بقيادة المعماري جُواي لويس كاهيلو دا غراس João Luís Carrilho da Graça بفريق عمل مكوّن من مجموعة من المهندسين المختصين، حيث بلغت ميزانية المشروع مليون يورو على مساحة 3500 م2. وتم عنونة المشروع تحت عبارة :
“Language is an archaeological vehicle... the language we speak is a whole palimpsest of human effort and history.”
"اللغةُ وساطةٌ أثرية ... فاللغة التي نتكلمها مخطوطٌ كاملٌ ينقل لنا تاريخ الإنسان والجهود الّتي بذلها ".
تشكّل التلة التي تشغلها قلعة ساو خورخي São Jorge موقعاً لأول مستوطنة بشرية تعود للعصر الحديدي بإطلالة إستراتيجية على نقطة مصب نهر تاغوس Tagus والأراضي المحيطة به، وتعتبر هذه المستوطنة النواة التي تشكّلت منها مدينة لشبونة. تحيط بالقلعة الأسوار الدفاعية من الشمال والغرب، وكنيسة سانتا كروز Santa Cruz من الجنوب. ولا تحجب الأسوار الشرقية الإطلالة على المدينة ومصب النهر.
منذ بداية التنقيب الأثري في عام 1996، تم الكشف عن فترات متعاقبة من الاستيطان البشري التي تمتد جذورها إلى العصر الحديدي، ثم إلى السيطرة الإسلامية في العصور الوسطى، ووصولاً إلى القصر الذي يعود للقرن الخامس عشر الميلادي. تم نقل القطع الأثرية المميزة المكتشفة من الموقع للحفاظ عليها ومن ثم عرضها في متحف القلعة، بذلك أمكن تفعيل الموقع كمساحة متحفية محمية ومحافظ عليها.
اعتمدت منهجية العمل في الحفاظ والمداخلات على قراءة المخطوطات والألواح التي وُجدت وعلى توضيح التراكمية للمراحل المتناوبة على الموقع وكيفية تفعيل اللاحق للسابق بفعالية، وذلك عن طريقة محاولة فهم هياكل المنشآت الموجودة بتوزيعها الفراغي.
كانت المرحلة الأولى توضيح حدود الموقع بدقة تشبه دقة كبيرة. استُخدم غشاء من الفولاذ المقاوم للصدأ لتغطية الأسطح المحيطية ولا توثر على المشهد فلا تقطع الحركة أو الرؤية المحيطية في الموقع. تتميز هذه المادة بالتغيّر البطيء مع الوقت باعتبارها مادة حية. تمّ توخّي نفس الدقة في العناصر المُضافة والّتي تسمح للزوار بحركة طواف مريحة، كاستخدام الحجر الكلسي في التباليط والأرصفة والمقاعد، ووُضعت بعيداً عن الجدران الخشنة.
بالعودة إلى الموقع وسويّاته التاريخية، تترافق طبقات المراحل المبكرة مع المتأخرة (بقايا تباليط تعود لقصر أسقف لشبونة من القرن الخامس عشر)، وحُميَت اللوحات الفسيفسائية عبر تغطية جانبها السفلي بزجاج عاكس أسود اللون يسمح للزائر برؤية المنظور الرأسي المنعكِس للتباليط نظراً لصعوبة تمييزها من ارتفاع مستوى العين الطبيعي.
يزداد قدم المرحلة التي عاشها الموقع مع ازدياد شدة الإنحدار فيه، وكان من الضروري استخدام مظلات لحماية الآثار الإسلامية التي تعود للقرن الحادي عشر والمتضمنة رسوم جصية fresco، والّتي اعتُبرت فرصة - عبر استنساخها بناءً على تفاسير تخمينية - لإعادة استحضار التجربة الفراغية لسلسلة من الغرف المحيطة بفناء داخلي يُدخِل الضوء والتهوية لهذا المسكن المعزول خارجياً. صُمِّم المكان ليكون واضحاً، مجرّداً، ومجسداً بالجدران البيضاء المثبتة بعناية لتطفو فوق الجدران الأثرية الأصلية معيدة بذلك الحياة لها. وجرى ذلك في منزلين كانا الأكثر وضوحاً بعد التنقيب. حُملت الجدران البيضاء بواسطة ركائز أرضية فقط لا تلامس الأثر وإنما ترتكز في نقاط تغيب فيها الدلائل عن وجود أي مادة أصلية، وتم إكساء الجدران بمادة نصف شفافة من البوليكربونات وشرائح خشبية تعمل على تخفيف الإضاءة دون منعها.
تكشّفت دلائل لوجود استيطان يعود إلى العصر الحديدي تحت الموقع بأكمله. استطاعت هذه المستوطنة ولفترة طويلة من الزمن الحفاظ على أصالتها بالأشكال والحجوم التي تمدّدت بحركة دورانية من المحيط إلى أعماق الموقع مما أوجب إظهارها والتنقيب عنها. مجموع الكتل الضخمة المكتشفة مثير للجدل، ووُضِع مخطط الزيارة لإضفاء عامل الفضول لدى الزائر لاكتشاف الفراغ الداخلي والالتفاف حول حفرة التنقيب واستعراض التراكم التاريخي للموقع.
قُدّمت ضمن الدراسة الرُّقم والمخطوطات المكتشفة في الموقع لتقديم القراءة التاريخية للأثر، وبالتالي تفعيلها كجزء من الشرح الذي يقدَّم في المواقع التاريخية، مما أعطى الموقع قيمةً أكبر عبر الحفاظ على مقتناياته وإعادة تأهيله واستخدامه كمساحة عرض متحفية مفتوحة للزوار.
تبقى خواص الموقع هي المحدد الأول لكل الخطط اللاحقة ولجميع دراسات التفعيل وإعادة التأهيل، فالتراكمية المكانية والزمانية وتنوّع الموقع فرضت على المعماري حالة فريدة من نوعها لا تتكرّر كثيراً.
المصدر: