العمارة والتشييد > العمارة والسينما
السّر وراء واقعيّة عملٍ من نسج الخيال!
لطالما أسَرتنا الصروح ُالمعمارية المحيطة بمشاهد مسلسل Game of thrones وعلى الرغم من كون قصة المسلسل من نسج الخيال، إلا أن ذلك قد يغيب عن بال البعض أثناء مشاهدته، فما السّر وراء واقعيّة مَشاهده؟ وهل مواقعُ تصوير هذا المسلسل هي من نتاج المؤثرات البصرية أم أنها فعلاً موجودة في عالمنا؟
لقد تطرّقنا في مقالات عديدة سابقة لدور العمارة في إثراء المشهد السينمائي، وعلاقتِها الوطيدة بالحبكة، والبيئة البصرية المحيطة بأحداث الفلم.
Hitchcock رمزُ عمارة التشويق
هنا
العمارة والسينما، علاقةٌ متبادلة
هنا
Batman والعمارة!!
هنا
واليوم نعود إليكم لنكشفَ أسرارَ عمارةِ المسلسل الشهير Game of Thrones.
تقول Deborah Riley مصمّمةُ الإنتاج والمخرجة الفنية للمسلسل: "إذا أردتَ من الجمهور أن يصدّقَ وجودَ الذئاب الضخمة، والتّنانين والعمالقة، فعليك أن تجعل العالم الذي يحتويها أقربَ ما يمكن إلى الواقع".
غالباً ما تستعين Riley بمواقعَ معماريةٍ حقيقية من جميع أنحاء العالم خلال عملية تصميم البيئة البصرية، الأمر الذي يساهم بشكلٍ كبير في جعل المسلسل أكثر واقعيةً، كما يساعد في تنوع مواقعِ التصوير المختلفة مما يسهّل عمل القيّمين على المونتاج في الانتقال بين مشهدٍ وآخر، خلال سردِ أحداثِ المسلسل في بيئاتٍ وأماكنَ مترامية الأطراف.
يتطلّب بناءُ الموقع في غالب الأحيان الدمجَ بين الواقع، والمؤثرات البصرية، فعلى سبيل المثال استُخدمت المؤثراتُ البصرية في دمج بقايا حجرية من موقع في إيرلندا، مع نموذجٍ مصنوع من البوليستيرين المغطى بالشمع الساخن، من أجل إخراج مشاهد السور والقعلة السوداء أي ما يعرف بـ (the Wall - Castle Black).
تقول Riley: إن العديدَ من النقاد يهزؤون منها عندما تستحضر نماذجَ معمارية من العالم الحقيقي إلى عالمٍ خيالي، وفيما يلي بعضُ التصاميم المعمارية التي استُخدمت كمصادرَ إلهامٍ لجعل نتاج الخيال الجامح، أكثر ألفةً:
1- قصر Meereen، منزلٌ داخل هرمٍ، تصوّرٌ أجابت عليه تصاميم فرانك لويد رايت بين العمارة السكنية وعمارة حضارة المايا:
تعتقد Riley بأن رايت هو صاحبُ التأثير الأقوى في تصميم مدينة Meereen ومنزل دينيريس داخل الهرم الكبير. وترى في عمارته، في فترة إحياء عمارة المايا، طريقاً لجعل السكن داخل الأهرام منطقياً، فعلى الرغم من أن تصميماته في تلك الفترة كانت بمقياسٍ سكني أليف، إلا أنها تمتلك تأثيراً يعود إلى فترات التاريخ القديم في أميركا، فكانت أعمال رايت المفتاح الأساسي الذي مكّننا من اكتشاف طريقة العيش داخل الهرم.
صورة لبيت المايا لفرانك لويد رايت:
صورة لبيت دينيريس في أهرام ميرين:
2- بنك برافوسBank of Braavos، الهيمنة في النسب:
أراد مُنتجا العمل David Benioff و D.B. Weiss أن يُظهرا بنك برافوس في قوته وغِناه على أتمِّ وجه، وهنا وجدت Riley أن في عمارة ألبيرت شبير Albert Speer، معماريِّ الرايخ الثالث، الرعبَ والهيمنة الضروريين لإظهار البنك وقوّتهِ في عالم "لعبة العروش".
الدرس الذي يمكننا تعلّمه من الممر الطويل للمعماري شبير هو: النسبة، إنها نسبةٌ مطلقة وإحساسٌ نفسيٌّ عميقٌ بأبعاد الفراغ المعماري. وعلّقت Riley على سبب اختيارها لعمارة شبير بأن نِسَبُه تساعد على التأثير المباشر على الزائر والتأكيد على أمرٍ مهم: بيد من يقع زمام الأمور؟!
صورة لممر شبير:
هنا
ممرٌّ طولُه أضعافُ عرضه، وفي طرفه على الضلع القصير طاولةٌ فارغة لا تحوي شيئاً سوى ورق برشمان المصنوع من الجلد وريشة ومحبرة في حال الحاجة للكتابة وثلاث مقاعد، نظام وانضباط، وعلى الزائر أن يمشي مئات الخطوات للوصول إلى نهاية القاعة، ونظره مثبت إلى وجهة واحدة: الطاولة التي تدير أموالَ العالم كله.
صورة لممر بنك برافوس:
صورة لبيت المايا لفرانك لويد رايت:
3- بيت الأبيض والأسود House of Black and White ، مغلق نحو الخارج:
في شرحهما، وضّح منتجا العمل، بأن بيت الأبيض والأسود، مسكنُ الإله المتعدد الوجوه والرجال عديمي الوجوه، يجب أن يكون كتلةً ضخمة ًواجهاتُها الخارجية لا تحوي أيةَ فتحةٍ سِوى بابٌ مركزي، حيث Arya (إحدى شخصيات المسلسل) لن تعرف ما الذي يدور في الداخل عند وصولها، لذلك على المبنى أن يكون عديمَ الوجه أيضاً، إن صحّ التعبير.
وتمكنت Riley من إيجاد ضالّتها في المباني الصاعدة من مياه الغانغ في مدينة فاراناسي في الهند.
صورة لضفة نهر الغانغ في فاراناسي:
صورة لبيت الأبيض والأسود:
أما عن قاعة الوجوه the Hall of Faces، أرادت Riley أن تجعل الوجوه جزءاً من المبنى وليس قاعة عرض كمكتبة، فوجدت رايلي في كهوف Ellora في غرب الهند ونقوشِها الحجرية القديمة، ومعبدِ العشرة آلاف بوذا The Temple of Ten Thousand Buddhas في هون كونغ، الذي يحتوي فعلاً على عشرة آلاف تمثال لبوذا، وجدت مثالاً يُحتذى لتصميم قاعة الوجوه، وحسب تعبيرها، إذا قمنا بمزج معبد العشرة آلاف بوذا مع كهوف Ellora ستهظر قاعة الوجوه بشكل جليّ.
صورة لكهوف Ellora:
صورة لمعبد العشرة آلاف بوذا:
صورة لقاعة الوجوه:
4- قصر درون Dorne في جنوب ويستيروس، وقصر إشبيلية Alcázar في جنوب إسبانيا:
لم تجد Riley مكاناً أفضل لتصوير مشاهد قصر دورن سوى قصر إشبيلية في اسبانيا، وهو يعتبر نقطةُ جذبٍ سياحية مهمة، حيث زارته مصممة الإنتاج منذ سنواتٍ عدة كسائحة، تطلّب الأمر الكثير من المجهود لإغلاق قسمٍ من القصر أثناء أوقات التصوير، بالإضافة للحذر الشديد أثناء العمل منعاً لأي ضرر قد يلحق بالقصر، فضلاً عن الموافقات والأوراق القانونية، لأن الموقع مسجل على لائحة التراث العالمي في اليونيسكو UNESCO.
صورة لقصر "القصر - Alcazár" في إشبيليا:
5 - مكتبة القلعة Citadel فيOldtown:
لمن لم يتابع المسلسل، يتم إرسال أحد الشخصيات الذي يدعى سامويل من قلعةCastel Black على الجدار الشمالي للدراسة في مكتبة في مدينة Oldtown، ليصبح ما يُسمى بـ Maester (العملية أقرب لإرساله إلى جامعة النخبة لتحصيل درجة الدكتوراه في جميع العلوم، من التاريخ إلى الطب إلى العلوم السياسية) وعند وصول سام إلى مشارف المدينة، يتمكن من رؤية القلعة :
وهي عبارة عن منشأة ضخمة واضحة، وربما تثير الإعجاب أكثر من قلعة Red Keep في King’s Landing، بسبب عدم وجود أي منشأة عالية في محيطها.
معمارياً، يُعتبر طرازُها المعماري غامضاً، كما يُعدُّ واحداً من ألمع إنجازات فريق تصميم مواقع التصوير في المسلسل، بقيادة مصمّمة الإنتاج ديبورا رايليDeborah Riley، حيث استطاع الفريق أن يطبّق بنجاحٍ خليطاً من الطرز المعمارية القديمة في العالم الحقيقي: الرومانية والمصرية وحضارة المايا والمغربية والإغريقية والجرمانية والهندية.. إلخ، على الأقل بواسطة الأجواء التي يتم خلقها عن طريق الكومبيوتر، فتمكّن المصمّمون بذلك من إقناع المشاهدين بأنهم يرون عالماً موازياً، وذلك بتفاديهم التشابه التاريخي مع العالم الحقيقي، حيث أن المشاهد لن يرى أيَّ علامة تشي بطرازٍ معين، كالطراز الإغريقي أو الروماني، في أقواس المكتبة، حيث يظهر التباين بين البيئة المبنية للمكتبة والعالم الحقيقي في مشهد دخول سام إليها.
من المُثير للدهشة حقاً، هو أن المصممين قد بذلوا وقتاً طويلاً ليفكروا كيف سيستغلون المساحة من وجهة نظر وظيفية، في حين أنها تضمنت في وقت واحد هذه العناصر المعمارية الخيالية.
بدايةً، المشكلة الأولى في مساحة هائلة كهذه، وعالم خالٍ عن الكهرباء هي: كيفية توفير الإنارة، كل الإنارة الداخلية، فكل المنشآت الضخمة في لعبة العروش تُنار بواسطة المشاعل والشموع، إلا أنه من غير المستسحن أن يُستخدم اللهب المكشوف في أكبر مكان في العالم مليء بالأوراق، وبالرغم من أننا نرى بعض الشموع في منطقة الاستقبال إلا أنه عندما دخل سام إلى قلب المكتبة عن طريق ممر مرصوف بالكتب من الجهتين، لم يُعط أي شعلة أو مصباح، كما نلاحظ عدم وجود مصابيحِ جدارية على طول الطريق.
عندما ندخل إلى القاعة الرئيسية، نرى أن الإنارة الطبيعية بالطبع مؤمّنة عن طريق نوافذ من الزجاج الملون متوضعة على جدران الغرفة ذات الأضلاع الثمانية، وهذا ما لا يتطابق مع اللقطة الخارجية للمبنى ذي المسقط المربع.
ولتوزيع الضوء على هذه المساحة الكبيرة، اخترع المصممون جهازاً جزء منه مأخوذ من جهاز Alexander Calder، والآخر Edwin Hubble: وهو جهاز متحرك هائل، مكوّن من عدسات كبيرة، مصممة لتكبّر وتعكس ضوء الشمس القادم داخل الغرفة.
ومن الأشياء الأخرى المضحكة التي تثير انتباهنا، هي المفروشات وتفاصيلها المعتمدة، فعلى الرغم من أنّ هذا عالم خياليّ، إلا أنه لم يتسنى للمصممين الحصول على ألواح بعرض 24 انش (60.96 سم)، هنا يمكنك أن ترى كيف أن سطح القراءة في المقصورة يتألف من لوحين متصلين، كما أنّ الإنشاء الداعم للمقعد يظهر أنه متصل بشكل متصالب.
كل هذه الطبقات بحاجة إلى وسيلة للصعود أو عدة وسائل، هذه الفوضى المعمارية الواضحة في المكان تبدو وكأن عدة أجيال من المعماريين، ومتعهدي البناء قد عُيّنوا وصرفوا في عدة مراحل من الإنشاء، فأحد المتعهدين كان بشكل واضح من مُحبّي الأدراج الحلزونية، حيث تم اختيارها بعد الأدراج التقليدية، بينما كان لأحدهم علاقة واضحة بأحد موزعي الحجر، وآخر قد أصر على العمل بالخشب الطبيعي.
لمحبي الكتب كيف لكم أن تدخلو إلى مكان كهذا دون أن ترتسم نفس نظرة سام على وجوهكم.
نهايةً، وعلى الرغم من أن البعض قد يعزون نجاح الإخراج الفني في المسلسل لخبيري التأثيرات البصرية، إلا أنّ الأرضية المعمارية الواقعية قد لعبت دوراً هاماً في تحقيق شعورٍ بالألفة تجاه هذه الأبنية الخيالية، مما جعلها وكأنها أماكن موجودةٌ فعلاً في عالمنا الحقيقي. فهل شعرتم بذات الشعور؟!
شاركونا بآرائكم
المصادر: