الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة
لغز ضباب لندن القاتل
تحتوي الجسيمات الدقيقة أو الدقائقيات PM خليطًا معقدًا من المواد العضوية وغيرِ العضوية، وتُعَدُّ الكبريتات من الدقائقيات الأساسية ذاتِ الانتشار الواسع في الجو، ويُعدُّ رذاذ الكبريتات الرطب نواةً لتكاثفٍ نشطٍ للسحب، فهو بذلك يؤثر في تشكُّل السحب، والهطولات، والمناخ، وتُعزى الكثير من الهطولات الحامضية التي تُضرُّ بالأنظمة البيئية إلى وجود الكبريت في أجوائها.
وتُسببُ المستويات العاليةُ من الدقائقيات تأثيراتٍ خطيرةً على الصحة البشرية والبيئة، ولا سيَّما ظروف التلوث الشديد التي تعيق الجهودَ المبذولةَ؛ لتخفيف آثارها المحلية والإقليمية والعالمية. ويُعدُّ الضباب القاتل الذي غطى لندن في القرن الماضي من أبرز الأحداث التي لفتت النظرَ إلى حجم الخطرِ الذي مِنَ الممكن أنْ تُسبِّبه تلك الدقائقيات.
انعطافٌ مميتٌ لموجة ضباب عابرة!
اجتاح الضبابُ بريطانيا لآلاف السنين؛ فلا عجبَ إنْ لمْ يولِ الناسُ اهتمامًا للضباب الذي تشكل في لندن في أوائل كانون الأول/ديسمبر عام 1952؛ لاسيَّما أنَّ لندن مشهورةٌ عالميًا بأنَّها "مدينة الضباب". لكنَّ الظروفَ تدهورت في الأيام التالية، فأصبحت السماءُ مظلمةً، وانخفضَ مجالُ الرؤية في أجزاءٍ عديدةٍ من المدينة إلى أقلِّ من مترٍ واحد، وتوقفتْ وسائلُ النقل كافةً، وواجه عشراتُ الآلاف من السكان مشاكلَ تنفسيةً متنوعة، لتنقشعَ موجة الضباب الشديدة في التاسعِ من الشهر ذاته، وقد لقيَ 4000 شخصٍ على الأقل حتفَهم، وأُدخِل أكثرُ من 150000 شخصٍ إلى المستشفيات، ونفقت آلاف الحيوانات في المنطقة.
مفردات اللغز:
رجَّحت الدراساتُ السابقةُ أنَّ سببَ تشكُّل الضباب القاتل هو الانبعاثاتُ الناجمةُ عن حرق الفحم ذي الجودة المنخفضة، والمستخدمِ في البيوت وفي الصناعة ومحطات الطاقة وتحديدًا غاز ثنائي أكسيد الكبريت؛ وذلك لأنَّ الكبريتات كانت مُركبًا أساسيًا ضمنَ الضباب القاتل، وهي التي أعطته سماتَه من حيث الكثافة والرائحة الكريهة والسُّمِّية.
ولمْ تتمكن تلك الدراساتُ من الإجابة عن الكثير من الأسئلة المحيرة المحيطة بالضباب القاتل ومن هذه الأسئلة: كيف تشكل؟ وما العمليات الكيميائية الدقيقة التي أدّت إليه؟ ما سبب حموضته العالية؟ وكيف تحول غاز ثنائي أكسيد الكبريت إلى حمض الكبريت؟ وهنا يكمن اللغز الشهير!
ويعتقد فريقٌ دوليٌّ من الباحثين في بحثهم الذي نُشِر في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences (PNAS)؛ أنَّهم تمكنوا من إيجاد إجاباتٍ للأسئلةِ السابقة. فقد حاكى الفريقُ عملية تشكُّل ضباب لندن مخبريًا، وقارنه بالقياسات الجوية المسجلةِ لاثنتين من المدن الصينية الكبرى الأشد تلوثًا وهما بكين وشيان.
حلُّ اللغز:
تنبعثُ مركباتُ الكبريت من مصادرَ طبيعيةٍ وأخرى بشرية، وتتميزُ الدول ذاتُ النمو الاقتصادي المتسارع كالصين بانبعاثاتٍ عاليةٍ لغاز ثنائي أكسيد الكبريت نتيجةَ احتراق الفحم والبترول، والذي يتحول إلى دقائقياتٍ كبريتاتيةٍ من خلال الأكسدة التي تحدثُ في الطِّور الغازي لها، أو من خلال التفاعلات المائية.
وأظهرت النتائجُ أنَّ أكسدةَ غاز ثنائي أكسيد الكبريت والتي تحدث بوجود غاز ثنائي أكسيد الآزوت؛ هي مفتاحُ تشكل الكبريتات الفعَّالة، وبالتالي الضباب الشديد، وتكون هذه العملية ممكنةً في إحدى الحالتين:
الحالة الأولى:
ضمن السحب كما حدَثَ في لندن:
فقد حدثت عملية أكسدة غاز ثنائي أكسيد الكبريت ضمن السحب بواسطة غاز ثنائي أكسيد الأزوت، وهو ناتجٌ ثانويٌّ آخر من حرق الفحم، ويوجدُ أوليًّا ضمن الضباب الطبيعي، والدليل على ذلك هو مستوياتهما العالية في وقتها عند احتراق الفحم. والأمر الذي سهَّلَ تشكلَ الكبريتات هو وجودُ الرطوبة النسبية العالية، وانخفاضُ درجات الحرارة ووجودُ قطراتٍ ضبابيةٍ كبيرةٍ في الضباب الطبيعي أكبرَ بعشراتِ الميكرومترات في الحجم، مما أدّى لتشكل مستوياتٍ عاليةٍ من حمض الكبريت.
ولأنَّ حموضةَ الجزيئات تُنَظَّمُ بواسطة درجةِ الحرارة؛ فقد أدَّى تبخر الماء من قطرات الضباب عند درجات حرارةٍ أعلى إلى تشكل جزيئاتٍ مركزةٍ من حمض الكبريت أصغرَ حجمًا غطت المدينة، وهذا ما يفسِّر الحموضة العالية لضباب لندن.
تشكل الضباب القاتل بالأكسدة ضمن السحاب في وسط حمضي وفق الحالة الأولى.
الحالة الثانية: رذاذٌ دقائقي برطوبةٍ نسبيةٍ عاليةٍ ووسطٍ معتدل، كما يحدث في الصين،
وتؤدي دورًا رئيسًا فيها كلٌّ من أكاسيد الكبريت المنبعثةِ من محطات الطاقة في الصين، إضافةً إلى أكاسيد الآزوت المنبعثةِ من محطات الطاقة والسيارات، وتضاف إليهما التراكيزُ العالية من الأمونيا المنبعثةُ من السيارات والاستخداماتِ الهائلةِ للأسمدة، والتي تعدّلُ من وسط الجزيئات؛ ليصبح معتدلًا تمامًا.
ويكمن الفرق بين الحالتين في أنّ الجزيئاتِ التي مِنَ الممكن أنْ تشكل ضبابًا قاتلًا في الصين أصغرُ بكثير من تلك التي شَكلت ضباب لندن القاتل، وأنّ وسطَ الجزيئات معتدلًا على خلاف ضباب لندن القاتل ذي الوسط الحمضي.
تشكل الضباب القاتل بالأكسدة وجود الدقائقيات الرذاذية برطوبةٍ نسبيةٍ عاليةٍ ووسطٍ معتدل وفق الحالة الثانية.
إذاً...
تمكن الباحثون في دراستهم من حلّ لغز ضباب لندن القاتل، وقدموا بعض الأفكار المهمة للحكومة الصينية؛ لتحسين جودة الهواء في الصين، وخاصةً في وجود 16 مدينة صينية تحتلّ قائمةَ المدن العشرين الأكثر تلوثًا في العالم، وذلك نتيجة النمو الصناعي والتحضر الكبيرين اللذين شهدتهما الصين على مدى الـ 25 عامًا الماضية.
إذ ينصح الباحثون بالتدخل مباشرةً في عملية تشكل الكبريتات؛ لتلافي تشكل الضباب القاتل، وذلك عبرَ تخفيض انبعاثات أكاسيد الآزوت والأمونيا، وتحقيقِ فهمٍ جيدٍ لكيمياء الهواء لكونه يحمل المفتاح لوضع إجراءاتٍ تنظيميةٍ فعالة لتحسين جودة الهواء.
المصادر:
هنا;
هنا;