كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب (التعذيب عبر العصور): متعة الألم وقدرة الإنسان على الضراوة.
في الوقت الذي نكتب فيه هذه الكلمات هناك دٌم جديد يسفك في مكان ما من العالم. وهناك مهانات جديدة يوقعها بشر على رؤوس بشر آخرين.
يحاول الإنسان العادي الطيب أن يُظهر بأن الإنسانَ مخلوقٌ نبيلٌ متفوّق على غيره من الكائنات ويحاول أن يظهر الإنسان على أنه قديسٌ أو ملاك يختلف عن الحيوانات المتوحشة بالعديد من الصفات والميزات، ولكي يقال الحق، بالفعل هنالك مواصفات تميز الإنسان عن الحيوانات، فالحيوانات أو الوحوش لا تقتل غيرها من المخلوقات ((لمجرد الإبتهاج)). والوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب الوحوش أبناءَ جنسها إلى أن تهلكهم ألماً، ولا تستنبط الوحوش متعةً جنسية منحرفة من معاناة أقرانها وآلامهم. إن هذه الأشياء، فعلاً، تميز الإنسان عن الحيوانات.
وليس هنالك كتابٌ أفضل من كتاب ((التعذيب عبر العصور)) لمؤلّفه ((بيرنهاردت ج. هروود)) لوصف وتحليل فظائع البشر المرتَكبة خلال العصور.
يُقسم الكتاب إلى عدة فصول، بدءاً من التعذيب في العصور القديمة وصولاً إلى التعذيب في القرن العشرين، وسنقدّم في هذه المراجعة شرحاً كافياً نوعا ما عن محتوى أكثر الفصول أهمية.
* ((التعذيب في العصور القديمة)) :
ما من أحد يستطيع أن يحدد بثقة مطلقة متى مورِسَ التعذيبُ لأول مرة. فالبنسبة للاستخدام الرسمي لا ذكر للتعذيب في القانون البابلي أو الموسوي. غير أن كلاً من البابليين والعبرانيين القدامى كانوا يخصون الأسرى من الأعداء، ولعل أشهر المعذبين في العصور القديمة هم ((الفرس والإغريق والرومان)) إضافة إلى غيرهم الكثير من الشعوب.
كان الإغريق يعتبرون التعذيب وسيلة لانتزاع الحقيقة، وقد دعاه أرسطو " نوعاً من الدليل الذي يحمل معه مصداقية مطلقة لأن نوعاً من الإكراه قد تمت ممارسته ".
ومن الواضح أن ما غفل الفيلسوف عن إدراكه هو أن هناك الكثيرين ممن سيعترفون بأي شيء بعد أن يتم تمديدهم وتكسيرهم وهم أحياء.
هنالك العديد من المؤرخين والكتاب الإغريق الذين تكلموا وقاموا بتأريخ حالات من التعذيب أمثال: ((المؤرخ فلافيوس جوزيفوس)) والكتّاب من أمثال: أريستوفان - أناكريون - بلوتارك - و لوشيان الذي قدم وصفاً مفصلاً عن فنون التعذيب في ((محاوراته)).
ولتقديم صورة واضحة وصريحة عن التعذيب في العصور القديمة لا بد من ذكر أشهر وأكثر وسائل التعذيب القديمة وحشية وهو ((سكافيسموس)) أو ما يسميه بلوتارك (( العقاب بالقوارب))، وأدق وصف له ما جاء في ما كتبه ((زوناراس)) وهو مؤرخ بيزنطي من القرن الثاني عشر.
حيث يتم ربط قاربان معاً أحدهما فوق الآخر، وفيهما ثقوب تسمح لرأس الضحية ويديها وقدميها أن تظل خارجاً. ويوضع الرجل الذي ستطبق عليه العقوبة بين القاربين بحيث يكون ممدداً على ظهره ثم يثبت القاربان بالمسامير والأحزمة. وبعد ذلك يسكبون مزيجاً من الحليب والعسل في فم الرجل المنكود حتى يمتلىء إلى درجة الإقياء. ثم يدهنون وجهه وقدميه وذراعيه بالمزيج ذاته وبعدها يتركونه تحت الشمس. يتكرر هذا كل يوم وتكون النتيجة أن الذباب والدبابير والنحل، التي تجذبها الحلاوة، تحط على وجهه وعلى الأجزاء الأخرى من جسده المكشوفة خارج القارب فتعذب الرجل المنكوب وتلدغه حتى الإعياء. والأكثر من ذلك أن بطنه، المنتفخة بالحليب والعسل، تتبرز برازاً سائلاً تنتج عنه بعد التعفن حشود هائلة من الديدان من كافة الأنواع والأشكال. وهكذا فإن الضحية الممدة بين القاربين، والتي يتفسخ لحمها داخل قذارتها ذاتها وتتعرض لالتهام الديدان لها، تموت ميتة طويلة ورهيبة، وهذا غيض من فيض من أهوال التعذيب في القدم.
بالإضافة إلى فنون التعذيب والضراوة التي أقدم عليها حكام الإمبراطورية الرومانية إبان وصول أوكتافيوس قيصر – ومارك أنطوني – وماركو ايميليوس ليبيدوس إلى السلطة إضافة إلى طيباريوس والإمبراطور كايوس المشهور باسم ((كاليغولا)) ونيرون وغيرهم الكثير، والتعذيب الذي لاقاه المسيحين على أيدي الرومان.
* ((التعذيب حول العالم)) :
تبين بأن الناس لدى الشعوب كلها بارعون حين يتعلق الأمر بإيقاع الأذى والعذاب على أبناء جلدتهم. وتلك واحدة من بين المناطق القليلة التي يتساوى فيها الجميع. وإحدى الشائعات الرائجة في العالم الغربي هو أن ((الشرقيين)) عملياً، أشرس الشعوب على وجه الأرض وبالتالي فإنهم الأكثر خبرة في فن التعذيب. والحقيقة أن الشرقيين معذّبون ذو خبرة. ولكنه ليس صحيحاً أنهم، بأي شكل من الأشكال، أكثر قسوة من الغربيين، الفارق كامن في حقيقة أنه في الشرق هناك اعتراف أكثر أمانة بالقسوة الغريزية التي تعتمل في قلوب البشر كلهم.
وعند الحديث عن التعذيب حول العالم لا بد من ذكر إحدى أشهر الشعوب وأكثر الأنواع تفوقاً في التعذيب وهي أنواع التعذيب الصينية. تصنف أساليب التعذيب الصينية بين أبرع الأساليب التي صممت حتى الآن. فلكونهم أصحاب فلسفة قديمة استطاع الصينيون أن يطوروا التعذيب إلى درجة عالية من التعقيد والمنطق. وتكمن حجتهم في فلسفة جعل العقوبة تتلاءم والجريمة.
والعقوبة التي كان يعتبرها الصينيون الأكثر ترويعاً هي ((لينغ تشي)). وهي عقوبة مخصصة لقتلة الآباء أو الأمهات أو أية جريمة قتل لأكثر من طرف في عائلة واحدة. كانت تعتبر الأكثر إيلاماً والأكثر تحقيراً بين الميتات، لأنها كانت تشتمل بشكل أساسي على الربط إلى خازوق وتقطيع الأطراف قبل الموت. ولزيادة التحقير كانت ((لينغ تشي)) تنفذ دائماً في العلن وأمام الملأ وذلك من أجل الإلقاء بأطراف الضحية على الجمهور. والعقيدة الكامنة وراء لينغ تشي هي جعل الضحية في حالة تكون فيها غير لائقة إطلاقاً لملاقاة أسلافها في العالم الآخر. إضافة إلى أنه خلال التباطؤ في هذه العملية لا تعاني الضحية أبطأ تعذيب وأكثرها إيلاما فقط بل تواجه التحقير في حده الأقصى.
ومهما بدت صنوف التعذيب الشرقية وحشية، إلا أنها تبدو هزيلة بالمقارنة مع بعض الفظاعات المرتكبة في نيجيريا، ((الزنا)) تاريخياً هو من أكثر الجرائم التي تم تعذيب الناس بسببها، وفي قبيلة ((إبو)) في نيجيريا، كان المتهمان بالزنا يعريان من ثيابهما كلها ويجبران على المضاجعة أمام الجمع المحتشد. وأثناء مراقبة تمثيل الجريمة بمتعة كان الجمهور يغرق في حمى من الغناء وقرع الطبول والسخرية من الزانين المحكومين الذين يتلويان ويئنان وهما في ذروة نشوتهما الجنسية. ووسط ضجيج الراقصين والقرع الهستيري للطبول كانت العصا تغرز في جسدي الزانيين المحكومين، بعد ذلك يتم أخذ المحكومين إلى غابة من الأشجار المقدسة ، ويتم اختيار أشجار فتية ومرنة وتبعد كل منها عن الأخرى عدة أقدام. وهنا كانت المرأة تلقى على ظهرها ويديها ورجليها متباعدة إلى أقصى حد ممكن. تثبت في هذه الوضعية حتى يُجلب عشيقها ويُمدد فوقها بحيث يكون رأسه بين فخذيها. ويثبتان وهما على هذه الحالة إلى الأشجار بحيث يظل جسماهما ملتصقين بينما أيديهما وأرجلهما منفرجة لتعطي شكل × ويتركان على هذه الحالة تحت الشمس اللاهبة عرضةً للجوع والعطش ولسع الحشرات حتى الموت. عادة يموت الرجل أولا لأنه يكون معلقا بالمقلوب. وكثيرا ما تتشبث المرأة بالحياة يوماً أو ما يقرب من ذلك – وبما يكفي لأن تدرك أنها مقيدة حتى النهاية إلى جثة متفسخة.
* ((التعذيب وسيلة لتحقيق هدف)) :
لقرون خلت والفلاسفة وعلماء النفس يبحثون عن إجابة عن السؤال المحير حول السبب الذي يجعل الإنسان بكلمات ((جان بول سارتر)) " أكثر الحيوانات فحشاً وضراوة وجبناً ". والذين يبحثون عن الحقيقة كانوا غالباً يفشلون في التعرف عليها لأنها، كما أشار الشاعر ((ملتون)) غالباً ما تكون " أكثر تخفياً وأكثر ترويعاً من كثير من الأخطاء ". وبنهاية الأمر لسنا نحن في أكثر من بداية التعلم لماذا يتعاطف الإنسان مع العنف. وللأسف ما نزال بعيدين جداً عن أن نتعلم كيف نحمي أنفسنا منه بشكل دائم. وفي أحسن حالاتنا لا نبدو أكثر من قادرين على التنافس فيه فنقترف هذا الجرم ذاته الذي نقول لأنفسنا إننا نود أن نقمعه.
غالباً ما فُسرت وحشية الإنسان تجاه الإنسان، بأن التعذيب يعتبر وسيلة لانتزاع المعلومات. وهذا بالطبع، كان وما يزال أكثر المبررات شيوعاً لاستخدام التعذيب. والسبب في اعتباره مبرراً واهياً سبب واضح جداً. فالذين يرغبون في أن يكونوا شهداء نادراً ما يعترفون أو يكشفون عن أي شيء بالإكراه. وعلى العكس من ذلك كان آخرون قد عرف عنهم أنهم يعترفون بأية جريمة ويقدمون أية معلومات عندما يخضعون للتعذيب.
وهنا لا بد من طرح عدة أسئلة تخترق صميم وجوهر الموضوع، ولربما من الشجاعة في مكان هو أن نطرح هذه الأسئلة على أنفسنا، فالإجابات واضحة وبسيطة ولكننا غالباً ما نتجاهلها خوفاً من مجرد التفكير بموضوع ((التعذيب)) وكأننا نريد الحفاظ على صورتنا كملائكة في صميم عقلنا وقلبنا، وكأننا نخاف من الوصول لنتيجة أشارت إليها صحيفة اسكتلندية في أحد المرات " ذلك الحيوان الغريب المدهش الهمجي والمقرف والذي اسمه الإنسان ".
- هل هناك تعبير عن الكراهية أكثر وضوحاً من التعذيب؟
- هل هناك وسيلة أكثر فعالية لبثّ الذعر من التعذيب؟
- هل هناك وسيلة لإجبار الناس على التصرف بطريقة محددة أقوى من التعذيب؟
* ((أصول التعذيب في الأدب، المركيز دوساد، والشيفالييه فون ساشر مازوش)) :
كل من يستطيع القراءة هذه الأيام صار على صلة بكلمتي ((السادية)) و ((المازوشية)). وما لا يعرفه إلا القلّة هو أن كلاً من التعبيرين يمد جذوره العميقة في عالم الأدب. ولقد اشتُقّت الكلمتان من اسمَي نبيلين أوربيين هما ((الكونت دوناتييه ألفونس فرانسوا دو ساد)) و ((الفارس ليوبولد فون ساشر – مازوش)). ومن المستحيل البحث في الجوانب الأدبية للتعذيب دون التنقيب عن دوساد الفرنسي و ساشر – مازوش النمساوي. وليس فقط أن كتاباتهما تمثل الحد الأقصى المتطرف من حالة شذوذ جنسي محددة بل أن قصتي حياتهما الشخصيتين تساهمان في توضيح كيف أن اسميهما قد اندرجا بين التعبيرات العلاجية السريرة.
غرق الماركيز دوساد منذ بداية حياته في الملذات الجنسية التي ميزت فرنسا في القرن الثامن عشر ما قبل الثورة. وتحول إلى رحالة في دروب الجسد، وكان يقضي أوقاته بعد أن اشترك بحرب السبع سنوات في المباغي حيث كانت الممارسة الجنسية الغريبة تعمل على إثارة الشهوات المتخمة لدى الزبائن الارستقراطيين. كان شاباً شهوانياً فاسقاً همه الأول التجديد في السعي إلى المتعة. وكان التميز الطريف الذي سيخلده كفيلسوف للرذيلة في أدبه لم يظهر بعد.
صباح أحد عيد الفصح عام 1768 ارتكب احدى أسوأ أخطائه، إذ غرّر بأمرأة فقيرة اسمها ((روزكيلرا)) إلى بيته الصغير بدعوى أنه مالك سيؤجرها منزلاً، وما أن استفرد بها حتى نزع عنها ملابسها وقيدها إلى السرير ثم جلدها. وفيما كانت عاجزة عن المقاومة أخذ سكيناً صغيرة وجرحها في عدة أماكن من جسدها، وسكب الشمع على هذه الجروح كما ادّعت فيما بعد. وأخيراً دهن الجروح وتركها وحيدة، وعند هذا الحد استطاعت فك القيود والهرب. اعتقل دوساد وقدم للمحاكمة واعترف بمعظم التهم، وأشار أمام المحكمة بأن العالم يجب أن يكون ممتناً له لما فعله، وأوضح أنه لم يكن يفعل أكثر من ممارسة تجربة علمية عن مراحل عمل بلسم يقوم بشفاء الجراح، إلا أنه وبقليل من التفكير نرى أن تجربته كانت عن مراحل عمل ((الألم))، ولكن الهامش الهام هو أن المرأة أبلغت المحكمة أنه بعد تجريحها " بدأ الماركيز يطلق صرخات حادة مخيفة " وهذا ما يشير إلى أنه قد وصل لذروة جنسية عنيفة خاصة. وهذا ما أشار إليه دوساد فيما بعد حيث كتب " وبما أنه لم بعد هناك مجال للشك في أن الألم يؤثر فينا بشكل أقوى من المتعة، حين نولّد هذا الإحساس بالألم لدى الآخرين، فإن كياننا كله سيرتعش بقوة كبيرة من أثر الصدمات الناجمة ".
استمر دوساد في مباغيه طيلة حياته، ولكن في النهاية اعتقل في عام 1777 وسجن في قصر فنسان ليقضي أول فترة من فترات سجنه الطويلة. فمن سنوات عمره الأربع والسبعين قضى إحدى وعشرين سنة في عزلة قسرية. مع الأيام اعطي دوساد أوراقاً وأقلاماً. وكان قد تعلم أن يعزل نفسه عن الواقع من خلال خياله. وكانت متعته الكبرى هي في تصور وسائل ارتكاب أشنع الجرائم وممارسة أعجب فنون الفسق وإنزال أفظع أشكال الدمار الشامل. في عام 1785 كان قد كتب كتابه العجيب (( 120 رحلة إلى سدوم أو مدرسة الفجور)). ولو أن هذا الكتاب نشر وقت كتابته ( حيث أنه لم ير النور حتى عام 1904) لكان قد سبق ((كرافت إبنع، العالم والباحث المختص في علم نفس الأمراض الجنسية وعلم نفس الأمراض العصبية)) بما يزيد عن القرن. وعلى الرغم من أن ((120 رحلة إلى سدوم)) قد كتبت بأسلوب قصصي إلا أنها كانت في حقيقتها مجموعة دقيقة وتفصيلية من الإنحرافات الجنسية – مجموعها ستمئة وجه من وجوه الإنحراف. وبعد أن وجه دوساد نقداً عنيفاً لنابليون في كتابه ((زولوي ومساعداه)) قام نابليون بإيداع الماركيز في مصح عقلي في شارنتون. ومن الغريب أن دوساد التقى بأقرب ما يمكن من السعادة وهو محتجز في شانتون. ولقد أسس أيضا لما يعتبره الأطباء النفسانيون الصيغة الأولية للعلاج الجماعي. فنظم عروضاً مسرحية مستخدماً نزلاء المصح كممثلين. وصار لتلك العروض شعبيتها حتى أن نخبة مثقفي باريس كانت تواظب على حضورها.
بعد اثنين وعشرين عاماً من موت دوساد غير المعلن، ولد إنسان قدر له أن يرتبط به إلى الأبد. كان اسمه ليوبولدفون ساشر – مازوش. يعد مازوش من أشهر الروائيين في أوروبا كلها. وقد هلل له النقاد في بداية حياته الروائية واعتبروه أفضل ناثر واعد مؤثر في النثر الألماني منذ ((غوته)). كان مازوش نموذجاً عن ما يسميه علماء النفس ((الذكر الخاضع جنسياً)). كان مولعاً بصورة المرأة المتسلطة الأرستقراطية الملفعة بالفرو والحاملة للسوط حتى أنه كان يرسم صور نساء من هذا النوع على أوراقه الشخصية. ولكي نوضح النقطة الرئيسية في نقاشنا وهي ((التعذيب)) لا بد من ذكر ما قام مازوش بكتابته في أحد الأيام " ليست لدي الرغبة في أن يسيء معاملتي من يحبني كثيراً، بل أن يفعل ذلك من يحبني حباً قليلاً، وإنني أرى الغيرة ((مؤلمة)) جداً إلا أنني أحس بالنشوة حين تستطيع امرأة إثارة غيرتي وحين تخدعني وتسيء معاملتي. أن أحب امرأة يعني أن أخافها. معظم النساء يفضلن الرجال الذين يتفوقون عليهم، أما أنا فأرغب في المرأة المتفوقة علي، المرأة الشرسة، التي هي فكرتي عن المرأة، هي الأداة التي أخيف نفسي بها ". وهكذا عرفت المازوشية على أنها نقيض للسادية.
- فما الذي أراده دوساد ومازوش من وراء ربط الألم والتعذيب والجنس ((بالمتعة))؟
- هل من الممكن أن يولّد الألم هذه النشوة التي سكنت كلا الكاتبين؟
- هل كان الكاتبان حالتين استثنائيتين ، أم أن مجتمعات العالم ترى في غرابة وغموض العذاب شيئاً يبعث على النشوة والفرح؟
- وإذا كان التعذيب فعلاً موضوع ((سرور)) هل باتت النهاية قريبة عن طريق صرخة تعذيب مدمرة يدمر البشر فيها بعضهم البعض؟
كل هذا هو عبارة عن تساؤلات تتداخل وتتداخل في عقولنا، ولكن الشيء المؤكد هو أن الانهيار المؤسف والاحتجاز الكامل لكل من دوساد ومازوش، يثبت خوف المجتمعات والحكومات من هكذا نماذج بالرغم من أن أصبح لها مكاناً وفلسفة واعتباراً أدبياً لا يمكن لأحد نكرانه، ولربما قاموا بتأسيس مدارس نفسية وفلسفية كاملة مبنية على التجارب الفريدة لكل من دوساد ومازوش، واستطاعوا أن يكملوا الحلقة المفرغة ويثبتوا الرابطة التي لا تنفصم والقائمة في القيد الذي يربط أدب المتعة بالألم.
* ((التعذيب كعقوبة)) :
عملياً، كان هناك دائماً خطٌّ دقيق غير واضح بين التعذيب والعقاب. وعلى الرغم من أننا نستطيع أن نجد حوادث لا حصر لها كان التمييز فيها قائماً بينهما، إلا أن نظرة صادقة على الحقائق الجلية كثيراً ما تجعل هذا الفارق الضئيل مضحكاً. ووصية العهد القديم ((العين بالعين)) مثال كامل على ذلك. وما يزال هناك ناجون من معاملة كهذه في الشرق الأوسط، أما مسألة دفعهم إلى الكلام فتلك مسألة أخرى. وكلما توغلنا في الزمن نجد أن ((الانتقام)) هو القوام الأساسي للعقوبة، ويميل الإنسان إلى الثأر والعداء الدموي. وحين تتراخى قبضة السلطة المركزية فإن عقوبات المخطئين تفرض من قبل عائلات الأطراف المتضررة وأصدقائهم، ويتشابه المتحضرون وغير المتحضرين في وحشية عقوباتهم.
إننا نرتعش ذعراً اليوم من شناعة العقوبات، ونقنع أنفسنا بأننا ملائكة. ونقول لأنفسنا إننا أكثر ((تحضراً)) من أن نفعل مثلها وإننا حين نتعامل مع المجرمين إنما نفعل ذلك وقصدنا الإصلاح والردع. ونصر على أن ((الانتقام)) ليس غايتنا.
- ولكن صدقني عزيزي القارئ المتمسك بإنسانيتك ولطفك وتحضّرك، عندما يتحول الموضوع إلى شيء يمسك شخصياً، ستفاجئ مما تستطيع يداك أن تقوم به؟
* ((المضمون الجنسي للتعذيب)) :
أفضل مصطلح فني يمكن استخدامه لشرح مبدأ التمتع بالألم هو ((ألغولاغنيا)) وهي كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين هما ((ألغوس)) وتعني الألم و ((لاغنيا)) وتعني الإثارة الجنسية. وبشكل أوضح أن ((ألغولاغنيا)) - الشبق التألمي – تعني الرغبة في إدخال الألم كعنصر أساسي في العمل الجنسي. ولذا فإنها يمكن أن تعني المعذب والضحية. وقد قسمها المحلل النفسي الألماني ((شرينك نوتزينك)) إلى ألغولاغنيا سلبية وألغولاغنيا إيجابية لكي يتم تحديد كل جانب على حدة.
وسيان قبلنا الاعتراف بالأمر أم لم نقبل فإن في كل منا درجة معينة من ((الغولاغنيا)). ولو لم يكن هذا صحيحاً لما امتلأت وسائل الترفيه والتسلية بهذه الكمية من مشاهد التعذيب. ولو لم يعتبر الناس الأمر مساهمة في العنف بالنيابة لما احتوت الروايات والأفلام والمسرحيات والأعمال التلفزيونية على هذا العنف ولكن الحقيقة هي أننا جنس دموي يطالب بسفك دمه مثلما كان أسلافنا يفعلون. وما يود أن ينكره المعجبون (بكافة وسائط الإعلام والتسلية) هو حقيقة أن الإثارة التي يحسون بها وهم يتقمصون أبطالهم المفضلين (أو الأشرار) هي إثارة جنسية في الأساس. وحين تكشف لهم هذه الحقيقة الجوهرية يخافون. تقلقهم تلك الاضطرابات الغريبة في دواخلهم والتي هي متعبة وممتعة في وقت واحد. والحقيقة أنه لا مبرر لمخاوفهم. فأي طبيب نفسي سيخبرهم بأن ما تبدو مشاعر منحرفة لا تعتبر منحرفة ما لم تكن مسيطرة. وبهذا وفي نطاق موضوعنا، فإن الأشخاص الذين يجب أن يقوموا بالتعذيب أو يتلقوه لكي يحققوا الاكتفاء الجنسي هم وحدهم الذين يعانون من انحراف في غريزتهم الجنسية.
في النهاية لا يسعني سوى طرح عدة أسئلة تكاد تكون الأكثر صراحة وجوهرية تخاطب الماضي والحاضر والمستقبل:
- هل يتطور الإنسان، حقاً، نحو مستوى حضاري أسمى؟
- أم أننا اليوم متوحشون مثلما كنا في فجر التاريخ؟
- وهل هناك أمل بأن يتغير الإنسان؟
معلومات الكتاب:
- الكتاب: التعذيب عبر العصور.
- تأليف: بيرنهاردت ج. هروود.
- ترجمة: ممدوح عدوان.
- تصميم الغلاف: أ. علاء الدين.
- دار النشر: دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، اللاذقية.
- الطبعة الأولى: 1984.
- عدد الصفحات: 208 قطع متوسط.