الفنون البصرية > فن وتراث
سلسلة أصل الحكاية.. بيتر بان/ الطفل الذي رفض أن يكبر
تتميّزُ حكايةُ بيتِر بان بينَ قصصِ الأطفالِ الكلاسيكيّةِ ببطلِها الفريدِ وهو طفلٌ قرّرَ ألّا يكبُر ،هارباً من منزلِ والديه الى أرضِ الأحلامِ "Neverland"حيثُ عاشَ مُحاطاً بالجنيّاتِ والقراصنةِ وقادَ عصابةً من " الأطفال التّائهين" ليخوضَ معَهم أغربَ المغامرات.لا تعكسُ هذه الأجواءُ الحالمةُ الجذورَ المأساويةَ لهذه الحكايةِ سواءً المتعلّقةِ بالعائلةِ التي استوحى منها الكاتبُ حكايتَه أو تلك التي تخصُّ حياةَ الكاتبِ نفسها.
إذ تشاءُ الصّدفُ عام 1897 أن يلتقي الكاتبُ المسرحيُّ والرّوائيُّ الاسكتلنديُّ James Mathew Barrie بعائلةِ Llewelyn Davies ويتقرّبُ بأسلوبِه القصصيِّ من أطفالِها ليصبحَ مع مرورِ الوقتِ جزءاً من العائلةِ. كانت هذه العائلةُ قد فقدت ابنَها David في عمرِ الثّالثةِ عشرَ في حادثِ تزلّجٍ مأساويٍ كان له الوقْعَ الصّاعقَ على والدةِ الطفلِ فقامت باختلاقِ قصّةٍ عن "طفلٍ شبح" تخيلت فيها طفلَها المتوفّى – كما كلّ الأشباح – خالداً لا يتأثرُ بمرورِ الزّمن.
ولم تكن فكرةً الموتِ الساّبقِ لأوانه بغريبةٍ على Barrie إذ وُلدَ عام 1860طفلاً تاسعاً لعائلةٍ لديها عشرةُ أطفالٍ ماتَ عددٌ منهم في سنِّ الطفولة.ممّا جعلَ الوالدةَ المفجوعةَ تتعلّقُ به بشكلٍ زائدٍ وكانَ لها سيطرةٌ كبيرةٌ على طفولتِه اسمرّت حتى كبر، بمعنىً أو بآخر ،فقد أرادته هوَ الآخر أن يكونَ طفلاً أبدياً. وهنا يشيرُ كثيرٌ من النّقاد إلى فكرةِ عبادةِ الأمِّ المتأصّلةِ في قصّةِ بيتِر بان وعدّةِ أعمالٍ أخرى ل Barrie.
شكّل هذا المزيجُ من الأفكارِ والأشخاصِ الحقيقيين أساسَ شخصيّةِ بطلِ حكايتنا، حتى الاسم Peterهو اسمُ أحدِ أطفالِ عائلةِ Llewelyn Davies .وقد جمع الكاتبُ في هذه الشخصيةِ سماتِ أطفالِ العائلةِ الخمسةِ بمزيجٍ صارخ. عازياً صِبا بيتر الدّائم إلى تعرّضِه لغبارِ الجنيّاتِ السّحري. تطوّرت شخصيّةُ Peter سريعاً فأصبحَ عندَه صديقةٌ هي Wendy وأصبحَ بمقدورِه الطيرانُ من النّوافذ. كما اتّخذَ اسمَ Pan إله الموسيقى الإغريقي المفعم بالحياة. وفي عام 1902 قامَ الكاتبُ بإدخالِ هذه الشخصيّةِ في روايتِه " العصفورُ الأبيضُ الصغير" التي تحوّلت عام 1904 إلى مسرحيةِ "بيتر بان، الصبيُّ الذي رفضَ أن يكبر" والتي لاقت نجاحاً كبيراً على المسرح فقامَ Barrie بتحويلِها إلى عملٍ أكبرَ هو روايةُ "بيتر بان و ويندي" عام1911.
وبالرّغم من النّجاحِ الباهرِ للمسرحيّةِ والرّوايةِ فقد تلته مآسٍ متتاليةً في عائلة Llewelyn Davies إذ توفي الوالدان بالسرطانِ بفارقِ أشهر وعهدت الأمُّ بالوصايةِ على الأولاد ل Barrie. وتعرًض الأولادُ للسخريةِ من الأطفالِ الآخرين بسببِ الرّوايةِ المشهورةِ التي كان يشيرُ إليها أحدُهم وهو Peter ب " التحفة البغيضة" إذ كان له النّصيبُ الأكبرَ من السخريّةِ والتّندّرِ كون الروايةِ سُمّيت باسمِه. ليصبحَ لاحقاً مدمناً للخمرِ وينتحر كرهاً بهذه الشهرة! لم ينتهِ الأمرُ هنا فقد توفي الإبنُ الأكبرGeorge في ساحةِ المعركةِ في الحربِ العالميّةِ الأولى و ماتَ الأخُ الآخر Micheal غرقاً عام 1927.
وقد ظهرت بعد ذلك عدةُ إصداراتٍ لقصّةِ بيتر بان، مسرحياً وسينمائياً وكان أشهرُها فيلم ديزني " Peter Pan" عام 1953. كما قدّمت عدّةُ أفلامٍ مستوحاةٍ من القصةٍ ك "Hook، 1991"،فيلم ديزني "Return to Neverland، 2002"، و"Peter Pan، 2003" ل Universal Pictures.
شخصيّةُ بيتر بان / متلازمةُ بيتر بان :
كانت شخصيّةُ بيتر نموذجاً مُبالغاً به للطفلِ الطائشِ المتبجّحِ الذي يسارعُ إلى إظهارِ عَظَمتِه حتى في الوقتِ الذي تبدو فيها ادّعاءاتٍ كهذه موضعاً للشّك. كما أظهرَ ميلاً واضحاً إلى اللامبالاة والمجازفة وتعريضِ حياتِه للخطرِ دون أيِّ خوف. تجلّى ذلك في طيرانِه من النّوافذ على ارتفاعاتٍ عاليةٍ في مشاهدَ أثارت جدلاً حولَ جدوى عرضِ مشاهدَ كهذه في أفلامِ الأطفالِ خشيةَ أن يقومَ الأطفالُ بتقليدِها وتعريضِ أنفسِهم للخطر.
هذه السّماتُ الفريدةُ في شخصيّةِ بيتر بان جعلت علماءَ النّفسِ يطلقون اسمَ " متلازمة بيتر بان" على اضطرابٍ في الشّخصيّةِ يظهرُ عندَ الرّجالِ الذين يرفضون النّضوجَ، من ناحيةِ التطوّر النّفسيّ على الأقلّ. ولعلّ أشهرَ مثالٍ عليها هوMicheal Jackson الذي جعلَ من مزرعتِه الضّخمةِ Neverland ملجأه الحصينَ ومكاناً للهروبِ من الواقعِ والارتماءِ في حضنِ الخيال، مع ما رافقَها من اتهاماتٍ ل Jackson بالتّحرشِ بالأطفالِ طفت على السّطحِ وما لبثت أن اختفت.وبشكلٍ مريبٍ أيضاً طرحت علامات استفهامٍ حول علاقة Barrie بأطفالِ عائلةِ Davies Llewelyn ملمّحين إلى عدم سويّتها بطريقةٍ مماثلةٍ لما حصل معLewis Carroll كاتب أليس في بلاد العجائب وعلاقتِه ببطلته أليس. لكن ثبتَ أنّ هذه الاتهامات لا أساسَ لها من الصّحةِ وحافظ Barrie على صورتِه البريئةِ كشخص محبّبٍ للأطفال.
وعلى الرّغم من المآسي التي تكمُن خلفَ قصّة بيتر بان- من ناحيةِ أطفالِ عائلةِ Llewelyn Davies الذين أوحوا له بفكرة " الأطفال التّائهين"، أو من ناحيةِ والدتِه التي أسّست لفكرةِ الطفولةِ الأبديةِ- فإنّ إصداراتِ ديزني المختلفةَ استطاعت إخفاءَ هذا الوجه القاتم عن جمهورِها وتقديمِه بصورةٍ محبّبة للأطفال ( وإن طرحت بعض التساؤلات حول ملائمةِ بعضِ المشاهدِ للأطفال ) وساهمت بالحفاظ على أَلَقِ الحكايةِ لأكثرَ من قرن.