منوعات علمية > العلم الزائف
أسرار الحاسة السادسة، تحت مجهر العلم !!
منذ زمنٍ طويل، شغِف الناس وعلماء النفس والمهتمون بالماورائيات بما اصطلِح على تسميته بـ"الحاسة السادسة"، والتي يفترض أنها شعورٌ غير ناتجٍ عن أيّ مشاهداتٍ أو تحليلٍ أو تبريرٍ منطقيّ، بل هي خارقة لجميع حواسّ الإنسان وقوانين الطبيعة فهي تتجاوز المكان والزمان لتقود صاحبها إلى التوقّع الصحيح عن ماهيّة الأشياء والحوادث.
ولكن، هل يمكن أن يكون لهذه الظاهرة تفسيرٌ علميّ ومنطقيّ؟ هل يمكن أن ندرسها بشكلٍ يفصل الظاهرة الحقيقية عن الخرافات والمبالغات التي نسِبت لها، والتي طالما استغلّها المشعوذون لإيهام وخداع البسطاء؟
سنحاول في هذا المقال أن نستعرض أربع تفسيراتٍ منطقيّةٍ لكون الغالبية العظمى من حالات (الحاسة السادسة الحقيقية) ليست سوى ظواهر علميّة طبيعية، بل خاضعةٍ لقواعد علم الأعصاب والسببية والمنطق، وهي بذلك قابلة للفهم والدراسة.
تعود محاولة التفسير الأولى التي سنعرضها إلى عالم البصريات Howe من جامعة ملبورن باوستراليا، حيث قرّر بمساعدة زميلته Margret Webb أن يقوما بتصميم تجربةٍ علمية تثبت الفكرة التالية:
يستوعب اللاوعي البشريّ كماً هائلاً من البيانات عبر حواس الإنسان في كلّ لحظة، ولكنّ الدماغ يقوم بفرزها وتحويل جزءٍ منها فقط من "بيانات" إلى "معلومات مفهومة" وبذلك فإن الإنسان يرى مشهداً كاملاً في الطبيعة ولكنه لن يستوعب منه إلا أجزاءً معينة، رغم أنّ المشهد بكامل تفاصيله دخل إلى دماغه، ويطمح "هاو" لإثبات أنّ هذا ما يحصل عند نجاح أحدهم بإعطاء تنبّؤ معين، فهو قد اعتمد في هذا التنبؤ على معلومات يعرفها دماغه اللاواعي، ولكنّ وعيه لا يعرف أنه يعرفها!
قام العلماء بإقناع أصدقائهم بإرتداء بعض الملابس وأخذ لقطاتٍ لهم مع تغيراتٍ بسيطة في كلّ لقطة، كأن يلبس أحدهم نظارة ثم يخلعها، أو تضع إحداهن أحمر شفاهٍ ثم تزيله .
ثم عرِضت تلك الصور على متطوعين، بحيث تعرض كلّ صورتين متتاليتين لزمنٍ قصيرٍ يفصل بينهما فاصلٌ زمني، بعد ذلك تمّ سؤال المتطوعين عن وجود أي اختلاف بين الصور؟ وما هي تلك الاختلافات إن وجدت؟
أظهرت النتائج أنّ المتطوعين نجحوا في اكتشاف وجود اختلافاتٍ بصريّةٍ بين الصور، ولكنّهم فشلوا في تحديد ماهيّة تلك الاختلافات! فاللاوعي قد التقط أنّ هناك تغييراً ما، ولكنّ زمن العرض لم يكن كافياً للدماغ ليفهم ويعرّف ماهيّة ذلك التغيير.
وبذلك يكون التفسير الأول لظاهرة الحاسّة السادسة هو أنّ دماغنا يخدعنا، فعندما يلاحظ دماغك أبسط تغييرٍ في تصرّفات صديقك –رغم أنّ وعيك يعجز عن إخبارك بوجود هذا التغيير-، قد تسأل صديقك: ماذا يشغل بالك؟ فيجيبك مع اندهاش: هل تملك حاسة سادسة! كيف عرفت أني جائع مع أنني لم أخبرك!
تعود محاولة التفسير الثانية لظاهرة الحاسّة السادسة إلى "كارل ساغان" عالم الفلك المعروف، حيث يحكي لنا قصّة نبوءةٍ حصلت معه شخصياً، فقد استيقظ من نومه في منتصف الليل على كابوس، لقد حلم أن خاله قد مات! كان الحلم واقعياً ومخيفاً لدرجة أنه أمسك بالهاتف فوراً ليتّصل ويتأكد أن خاله بخير، ولكنه –لقناعته باستحالة تنبؤات كهذه- قرّر أن يؤجل الإتصال إلى اليوم التالي، وأيضاً بسبب خوفه من أنّ اتصاله نفسه قد يسبّب بطريقة ما موت خاله كأن يتعثّر بطرف السرير حين يستيقظ على رنين الهاتف في هذا الوقت المتأخر، وهذا من شأنه أن يؤكّد النبوءة رغم خطئها.
في اليوم التالي أجرى كارل ساغان الاتصال، ليكتشف أنّ خاله بخير، وهنا، طرح على نفسه السّؤال التالي: ما هي النّسبة الحقيقيّة للنبوءات الناجحة، إذا أخذنا بعين الإعتبار جميع النبوءات الفاشلة التي مرّت علينا؟
كلّما صعدنا إلى طائرة، يأتينا شعور أنّ هذه الطائرة قد تسقط، ولكنّها حين لا تسقط، لا نجد أياً من الرّكاب يسارع للإتصال بمركز دراسات العلوم ما وراء النفسيّة ليخبرهم أنّه أجرى تنبؤاً فاشلاً !
فقط تلك المرّات النادرة والعائدة إلى قانون الإحتمالات، والتي تنجح فيها نبوءتنا بالتحقق، نسارع إلى الحديث عنها وإعلانها بانتصار، والاقتناع بأنّها دليلٌ على امتلاكنا الحاسّة السادسة، وحتى لو توفّي خال كارل ساغان في تلك الليلة، لن يكون هذا دليلاً على شيءٍ لأن العلم الحقيقيّ يجب أن يأخذ بعين الاعتبار جميع التجارب، وليس فقط التجارب الناجحة ويهمل الفاشلة.
قد يكون التفسير الثالث هو أنّنا كثيراً ما نخدع أنفسنا بإجراء تعديلٍ بسيطٍ على ذكرياتنا غير الواضحة، وأوضح مثالٍ هو أنّنا حين يحصل معنا أيّ شيءٍ في الحياة العادية، نقوم فوراً باستحضار حلمٍ شاهدناه منذ عدّة أيّام، يحتوي مشهداً قد يكون مشابهاً -بدرجةٍ ما- لما حصل معنا، وبسبب عدم تذكّرنا الواضح له يتداخل الحلم والواقع ونقنع أنفسنا أنّ هذا المشهد بحذافيره هو ما شاهدناه في الحلم!
التفسير الرابع والأخير هو ظاهرة "ديجا-فو" أو "شوهد من قبل"، وهي –مرة أخرى- خدعةٌ من الدماغ تعود إلى ظاهرةٍ عصبيّةٍ تجعلنا نتوهّم أنّ المشهد الذي أمامنا مرّ علينا من قبل، أو أنّنا نعرف هذا المكان رغم أنّنا نزوره للمرّة الأولى، وهناك العديد من التفسيرات العلميّة لهذه الظاهرة التي تعود إلى ارتباكٍ في المستقبلات العصبيّة في الدّماغ، يجعلنا نعتقد أنّ ما نستقبله في هذه اللحظة كان موجوداً في ذاكرتنا مسبقاً، مع أنه لم يكن كذلك.
استعرضنا حتى الآن أربع تفسيراتٍ مختلفةٍ للحاسّة السادسة، بحيث أصبحنا نعلم أنّها لا تكسر قوانين الفيزياء والطبيعة ولا فيزيولوجيا الدماغ، والآن سنبرهن منطقياً على أنّ الحاسّة السادسة تخالف أحد أهم أسس المنطق:
السببيّة ! وهي الأساس في تفسير جميع الظواهر العلميّة.
السببيّة مبدأٌ بسيطٌ نعرفه جميعاً، فالسّبب –دائماً- يسبق الأثر (النتيجة)، ولا يمكن للنتيجة أبداً أن تسبق ما سبّب ظهورها:
وقع الكأس على الأرض، ولهذا انكسر، لا يمكن للكسر أن يكون هو ما سبّب وقوع الكأس،
اشتغل محرّك السيارة، وبالتالي تحرّكت السيارة، لا يمكن أن يسبق تحركُ السيارة تشغيلَ المحرك! ..وقس على ذلك.
تفترض نبوءات الحاسّة السادسة أنّ ما حدث لاحقاً (سقوط الطّائرة في مثالنا السابق) هو ما سبّب شعورنا المسبق بأنّها ستسقط !
وأنّ ما سيحدث معك مساء اليوم، هو ما سبّب رؤيتك لحلم الليلة السابقة! وهذا يخالف بديهياً مبدأ الأثر والنتيجة، وبالتالي لا يمكن أن يكون صحيحاً.
وبرغم تلك التفسيرات، فلا زالت الأبحاث جاريةً على قدمٍ وساق في محاولةٍ لسبر أغوار الدماغ البشريّ وفهم ما قد يكون مختبئاً في خفيةٍ عن العلماء حتى الآن.
وفي النهاية، ننصح قراءنا الأعزاء حين يصطدمون بحالةٍ مشابهةٍ، قبل أن يعزوها إلى الحاسّة السادسة، أن يجربوا تفسيرها بأحد الطّرق الأربعة السابقة، وفي حال فشلت هذه الفرضيات بتفسيرها، وتأكدتم من امتلاككم لقوى ذهنيّة خارقةٍ لقوانين الطبيعة، فعليكم التوجه مباشرة إلى جيمس راندي للحصول على جائزته الخاصة بالظواهر الماورائية من هنا: هنا
المصادر:
Carl Sagan - Reflections on the Romance of Science