الرياضيات > الرياضيات
أنظمة العدّ عبر التّاريخ (الجزء الثاني): نظام العدّ المصريّ القديم
لم يعبّر البشر عن الأعداد بالطّريقة نفسها على مرّ العصور، وإنّما طوّروا طرائق مختلفةً تفيد في ذلك، ندعوها اليومَ "أنظمة العدّ"، فمن الحتميّ أنّ أوّل من ربَّوا المواشي من البشر لم يعبّروا عن الأعداد بالكفاءة نفسها الّتي عبّر بها المصريّون القدماء حين أبدعوا في الفلك والهندسة وغيرهما من مجالات العلم.
في الجزء الأول من هذا المقال -والذي يُنصَح بالاطلاع عليه (هنا) لاحتوائه على مفاهيمَ أساسيّةٍ سيتردّد استخدامها في هذا الجزء- تحدّثنا عن احتماليّة استخدام البشر الأوائلِ الحصى والعِصيَّ في العدّ عندما بدؤوا بزراعة المحاصيل وتربية المواشي. ولم يكن ذلك إلّا مجرّد مثالٍ لاستخدام البشر أنظمة عدٍّ غير تموضعيّةٍ. في الواقع، تدرّجت أنظمة العدّ في التّعقيد والكفاءة عبر الزّمن من مستوى العدّ بالعصيّ هذا إلى نظام العدّ الهندو-عربيِّ التّموضعيِّ بحسب تطوّر الحضارة البشريّة ونموّ حاجة البشر في مناطقَ مختلفةٍ من العالم إلى استخدام أعدادٍ أكبرَ. وهنا يجدر بالذِّكرِ أنّ بعض المجتمعات البدائيّة في يومنا الحاضر لا تختلف كثيرًا في بدائيّتها عن مجتمعات فجْر التّاريخ، وبالتّالي لا تحتاج هذه المجتمعات لاستخدام أعدادٍ كبيرةٍ، وكنتيجةٍ لذلك فإنّ هذه المجتمعات لم تطوِّر حتّى مفرداتٍ لغويّةٍ للتّعبير عن الأعداد الّتي يقع استخدامُها خارج حدود حاجتِها. فعلى سبيل المثال، توجد قرىً في غينيا الجديدة يستخدم سكّانُها جذرين لغويَّين فقط للتّعبير عن الأعداد، أحدُهما "إِيَا" للتّعبير عن العدد واحدٍ، والآخرُ "رارِيدُو" للتّعبير عن العدد اثنينِ، وهكذا فإنّهم يعبّرون أيضًا عن الأعدادِ الأكبرِ قليلًا من العدد اثنين باستخدام تراكيبَ مؤلّفةٍ من هذَينِ الجذرين، فمثلًا، يُعبَّر عن العدد أربعةٍ باللّفظ "راريدو راريدو"، وعن العدد خمسةٍ باللّفظ "راريدو راريدو إيا".
وبالعودة إلى تدرّج أنظمة العدّ في التّعقيد والكفاءة عبر الزّمن، فإنّ العدّ بالعصيّ الّذي يُمْكن أن يُعدّ نظام العدّ الأوّل أدّى إلى ظهور اللّبِنة الأساسيّة لأنظمة العدّ الّتي تلته زمنيًّا، ألا وهي التّجميع، ونظامُ العدِّ المصريُّ القديمُ إحدى أنظمة العدّ الّتي استخدمت هذه الآليّة بأبسط حُلَلِها، حيث إنّه ذو بنْيةٍ تجميعيّةٍ، وذلك يعني أنّه يحوي مجموعةً من الرّموز يمثّل كلٌّ منها عدد عناصر مجموعةٍ محددّةٍ. يمثّل هذا النّظامُ الأعداد في مجموعاتٍ من عشَرةٍ، أي إنّ هذا النّظام يعتمد العدد عشَرةً أساسًا له، وهكذا فإنّ رموزه الأساسيّة تمثّل القُوى السّبعَ الأولى الصّحيحة للعدد عشَرةٍ ابتداءً من قوّته الصّفريّة (أي العدد واحدٍ). وبالتّالي إن رتّبنا هذه الرّموز من الأعلى إلى الأسفل تصاعديًّا فإنّ أيّ رمزٍ منها يكافئ في القيمة عشْرةَ أمثالِ الرّمز أعلاه مباشرةً، وعُشْرَ قيمة الرّمز أسفلَه مباشرةً، مصطلِحِينَ في هذا المقال أنّ قيمة رمزٍ ما هي قيمة العدد الّذي يعبّر عنه الرّمز.
وكما يُعدّ هذا النّظام تجميعيًّا فإنّه أيضًا جمعيٌّ تكراريٌّ، ما يعني أنّه يعتمد في تكوين التّراكيب العدديّة على تكرار الرّموز وجمع القيم الّتي تعبّر عنها. فمثلًا ينتج التّركيبُ المعبِّر عن العدد 740,203 من تكرار رمزِ الواحد ثلاثَ مرّاتٍ، ورمزِ المئةِ مرّتينِ، ورمزِ عشْرةِ الآلاف أربعَ مرّاتٍ، ورمزِ مئةِ الألفِ سبعَ مرّاتٍ.
ونظرًا لكونه نظامًا تجميعيًّا تكراريًّا جمعيًّا غيرَ جُدائيٍّ يُمكن القول إنّه نظامٌ تجميعيٌّ بسيط. وهنا نلاحظ نقطتين:
● لا يمكن أن يتكرّر رمزٌ ما أكثرَ من تسع مرّاتٍ في تركيبٍ عدديٍّ ما، وذلك بسبب قابليّة استبدال كلّ عشْرةِ تكراراتٍ من ذلك الرّمز بالرّمز الّذي يكافئ في القيمة عشرةَ أمثاله. فمثلًا، إن أردنا التّعبير عن العدد 190 من خلال تكرار رمزِ العشَرةِ تسعَ عشرةَ مرّةٍ، سنجد أنّه بالإمكان استبدال عشْرةٍ من تلك التّكرارات برمز مئةٍ واحدٍ. وفي الحقيقة هذه هي أفضليّة هذا النّظام على نظام العدّ بالعصيّ، وإلّا فإنّه -كما نلاحظ- يشابهه كثيرًا في البُنْية إن أقصينا خاصّيّة التّجميع.
● كما نلاحظ، بسبب طبيعة بنية هذا النّظام، أنّه بغنىً عن رمزٍ يمثّل الصّفرَ، ومع ذلك يحتوي هذا النّظام على هذا الرّمز، إذ يبدو أنّه استُخدم للتّعبير عن مستوى الأرض في عمليّات البناء، كما وُجد أيضًا في بعض سجلّات المحاسبة الشّهرية لبعض ممالكِ مصرَ القديمةِ، معبّرًا عن الفرق بين الوارد والصّادر، مؤشّرًا إلى إتمام حسابات الشّهر بدقّةٍ وكما ينبغي، فارتبط الصّفر لديهم بمعنىً إيجابيٍّ، حتّى إنّ الرّمز الهيروغليفيّ* المستخدمَ للتّعبير عن الصّفر هو الرّمزُ نفسُه الّذي يعبّر عن الجمال والكمال "نَفَر".
وبالطّبع ليست الغايةُ من تطوير أيّ نظام عدّ إلّا تبسيطَ إجراء العمليّات الحسابيّة على الأعداد وتسهيلَ التّعامِل معها، وفي هذا السّياق نذكر أنّ هذا النّظام مكّن المصريّين القدماء من تطبيق كلٍّ من عمليّات الجمع والطّرح وحتّى الضّرب والقسمة على الأعداد.
عند القيام بجمع عددين يكون النّاتجُ العددَ الّذي يعبَّر عنه بتكرار الرّموز المستخدمة في التّعبير عن العددين المجموعين -أو بعضِها- عددَ مرّاتٍ يساوي مجموعَ عددِ مرّاتِ تكرارِها في العددين، وإن تكرّر رمزٌ أو أكثرُ في ناتج الجمع عددَ مرّاتٍ أكبرَ من التّسعة فتُستبدل كلُّ عشْرةِ تكراراتٍ لهذا الرّمز بمرّةٍ واحدةٍ فقط من الرّمز الّذي يكبُره مباشرةً.
أمّا عند القيام بطرح عددٍ ما من آخر فإنّ النّاتج هو العدد الّذي يعبَّر عنه بتكرار الرّموز المستخدمة في التّعبير عن العددين المطروحَينِ -أو بعضها- عدد مرّاتٍ يساوي عددَ مرّاتِ تكرارِها في المطروح منه منقوصًا منه عددُ مرّاتِ تكرارِها في المطروح، وإن ظهر رمزٌ في المطروح دون أن يظهر في المطروح منه، فإنّنا نقوم بعمليّة استلافٍ، إذ نبحثُ في المطروح منه عن الرّمز الّذي يكبُره مباشرةً، وعندما نجد هذا الرّمز قد يكون مكرّرًا عدّة مرّاتٍ، فنبدّل إحدى هذه التّكرارات بعشر تكراراتٍ لرمزنا المفقود، ثمّ نتحقّق من وجود الرّموز المستخدمة للتّعبير عن المطروح جميعِها في المطروحِ منه، وإلّا قد نضطرّ لإجراء عمليّة استلافٍ أخرى وهكذا حتّى يتحقّق هذا الشّرط، عندها يمكننا إتمام عمليّة الطّرح.
استخدمنا في الأمثلة رمزَيِ + و- للتّعبير عن عمليّتي الجمع والطّرح، وهذا ليس دقيقًا تمامًا لأنّ هذا النّظام يحوي رمزين خاصَّين لهاتين العمليّتين، ولكن رغبنا في استعمالهما لتبسيط القراءة لأنّنا إن أردنا الالتزام بنظام الكتابة الهيروغليفيّ فستتوّجّب أيضًا إضافةُ رموزٍ أخرى بمثابة الكلمات لتعطيَ العبارات الرّياضيّة سياقًا.
أمّا عمليّة ضرب عددين فيُعبّر عنها باستخدام الرّموز نفسها، وتُتّبَع الخوارزميّة** التّالية:
● بدايةً يُنشأ جدولٌ من عمودين، الأوّل يحوي العدد واحدًا والثّاني يحوي العدد المضروب الأوّل.
● يصطفّ تحت كلٍّ من القيمتين المذكورتين في العمودين ضعفُها، أي تحت الواحد يُكتب اثنانِ وتحت المضروب يُكتب ضعفه.
● تُكرّر العمليّة حتى ينشأ في العمود الأوّل أعدادٌ مجموعُها يساوي العددَ المضروب الثّاني الّذي لم يُكتَب في الجدول.
● يساوي ناتجُ عمليّة الضّرب المطلوبةِ مجموعَ الأعداد في العمود الثّاني الّتي تقابل الأعداد في العمود الأوّل الّتي مجموعُها يساوي المضروب الثّاني الّذي لم يُكتَب في الجدول.
فلنأخذ جُداء العددين 54 و13 كمثالٍ للخوارزميّة نفسها ولكن باستخدام نظام العدّ الهندو-عربيّ لتبسيط القراءة فحسب:
54 1
108 2
216 4
432 8
نلاحظ أنّ 13=8+4+1، ولكنّ الأعداد في العمود الثّاني الّتي تقابل الأعداد 1، 4، 8 بالتّرتيب هي 54، 216، 432، وبالتّالي فإنّ:
702=432+216+54=13×54
ويمكن إجراء عمليّة قسمة عددٍ على آخرَ وَفقًا للخوارزميّة نفسِها مع إجراء ثلاثة تعديلاتٍ بسيطةٍ عليها:
● يبدأ العمود الثّاني بالمقسوم عليه حصرًا.
● تُكرَّر عمليّة إضافة أضعاف كلٍّ من الواحدِ والمقسوم عليه إلى العمودين حتى يظهر في العمود الثّاني أعدادٌ يساوي مجموعُها المقسومَ.
● يساوي ناتجُ القسمة مجموعَ الأعداد في العمود الأوّل الّتي تقابل الأعداد في العمود الثّاني الّتي يساوي مجموعُها المقسومَ.
فلنأخذ قسمة العدد 162 على العدد 18 مثالًا للخوارزميّة نفسها ولكن باستخدام نظام العدّ الهندو-عربيّ لتبسيط القراءة فحسب:
18 1
36 2
72 4
144 8
نلاحظ أنّ 162=144+18، ولكنّ العددين في العمود الأوّل اللّذين يقابلان العددين 18 و144 بالتّرتيب هما 1 و8، وبالتّالي فإنّ:
9=8+1=18÷162
لم يمكّن هذا النّظام المصريّين القدماء من فعل ما تقدّم فحسب، فقد كانوا قادرين أيضًا على التّعبير عن الكسور من خلاله بالرّغم من أنّ ذلك قد يبدو مستبعدًا بعد الاطّلاع على بُنيَته. لقد استخدموا رمزًا هيروغليفيًّا آخر لهذا الغرض، عند وضع أيّ تركيبٍ عدديٍّ تحته ينتج تركيبٌ جديدٌ قيمته تساوي مقلوبَ*** قيمة التّركيب العدديّ قبل إضافة الرّمز، أي تصبح قيمة العدد بعد إضافة هذا الرّمز له تساوي واحدًا على هذا العدد. واستخدموا أيضًا رموزًا أخرى عددُها لا يتجاوز عدد أصابع اليد للتّعبير عن كسورٍ خاصّةٍ.
ولكن نلاحظ أنّ ذلك لا يشمل إلا تلك الكسورَ الخاصّة المعدودةَ والكسورَ الّتي تساوي بسوطُها الواحدَ، فكيف عبّروا عن الكسور الأخرى؟ لقد استخدموا الكسور الخاصّة والكسور الّتي تساوي بسوطها الواحد كلبناتٍ أساسيّةٍ في بناء الكسور الأخرى. لذلك نسمّي هذه الكسور الّتي تساوي بسوطها الواحد "كسور الواحدة". لقد عبّروا عن كلٍّ من الكسور الأخرى على شكل مجموع اثنينِ أو أكثرَ من كسورِ الواحدة. فمثلًا، العدد 7/2 كانوا يعبّرون عنه كمجموع العددين 28/1 و4/1، وهنا نلاحظ نقطتين:
● كلٌّ من العددين 28/1 و4/1 كسرُ واحدةٍ، أي بسطه يساوي الواحد.
● رَغم أنّ العدد 7/1 كسرُ واحدةٍ، وأنّه إذا ما جُمِع مع نفسه نتج العددُ 7/2، لم يعبّروا عن العدد 7/2 أو غيره من الأعداد الكسريّة باستخدام كسر الواحدة ذاته أكثر من مرَةٍ واحدةٍ، وما يزال السّبب وراء هذه القاعدة مجهولًا.
قد لا يبدو هذا النّظام بعد استعراض بنيته وآليّة عمله في العمليّات الحسابيّة فعّالًا بما فيه الكفايةُ إذا ما قارنّاه بنظام عدّنا الهندو-عربيّ، ولكنّ هذه ليست المقارنة الصّحيحة على الإطلاق، علينا أن نلاحظ الشّوط الكبير الّذي قطعته الحضارة البشريّة حتّى توصّلت إليه بعد أن كان البشر يعدّون باستعمال العصيّ ولا يفقهون معنىً للعمليّات الحسابيّة، بل علينا أيضًا أن نتأمّل المعجزاتِ العمرانيّةَ والمنجزاتِ الحضاريّةَ الّتي حقّقها المصريّون القدماء باستخدام هذه الأداة الّتي قد نعدّها بسيطةً بمقاييس يومنا الحاضر.
سنستعرض في مقالٍ لاحقٍ نظام عدٍّ آخرَ أو أكثرَ موضّحينَ مَعْلَمًا آخرَ على الطّريق الّذي سلكته الحضارة البشريّة من العدّ بالحصى إلى نظام عدّنا العشريّ الّذي لوِ اطّلع عليه أجدادُنا لربمّا ظنّوه سحرًا.
هامش:
*هيروغليفيّ: النّظام الهيروغليفيّ هو نظام الكتابة الّذي اعتمده المصريّون القدماء للتّعبير عن لغتهم، واشتُقّت هذه الصّفة من المفردة الإنكليزيّة المعبّرة عن الرّمز الواحد من هذا النظام "heiroglyph"، والّتي بدورها اشتُقَّت من المفردة الإغريقيّة "heiroglypho" المؤلّفة من القسمين "heiro" وتعني "المقدّس"، و"glypho" وتعني "النّقش" أو "الكتابة"، وذلك لاعتقاد الإغريقيّ هيرودوتس، مؤسّسِ علم التّاريخ، بقداسة هذه الرّموز.
**خوارزميّة: عبارةٌ عن سلسلةٍ من الخطوات الواضحة لحلّ مشكلةٍ أو مسألةٍ ما.
***مقلوب: إنّ مقلوب عددٍ ما هو العدد الّذي ناتج ضربه بذلك العدد يساوي الواحد، بتعبيرٍ آخرَ، هو الكسر الّذي يساوي بسطُه مقامَ ذلك العدد، ويساوي مقامُه بسطَ ذلك العدد.
المصادر: