الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة
لغز تجمّد القارّة القطبيّة الجنوبيّة
يُعتبر تشكّل الصّفائح الجليديّة في القارّة القطبيّة الجنوبيّة أحدَ أكبرِ الألغاز في الوسط العلميّ، وكانت تلك الصّفائحُ قد تشكّلت بسرعةٍ كبيرةٍ منذُ حوالي 34 مليونَ سنة بين العصر الأيوسيني والأوليغوسيني. ولطالما تنافستْ نظريّتان في محاولةٍ لتفسير سبب تشكّل جليد القطبيّة الجنوبيّة، لكنْ مؤخراً ظهرتْ تفسيراتٌ جديدةٌ تربطُ ما بين تلك النّظريّتين وتلقي مزيداً من الضّوء على تعقيد التّغيّر المناخيّ.
النّظريّتان المتنافستان:
تَستندُ النّظريّة الأولى على التّغير المناخيّ العالميّ، إذ بيّن الباحثونَ أنّ مستوياتِ ثنائي أوكسيد الكربون بدأت بالتّراجع بثباتٍ منذ بداية العصر السّينوزويكي قبلَ 66 مليونَ سنة وعندما انخفضت مستوياتُ CO2 تحتَ عتبةٍ حدّيّةٍ مُعيّنة؛ سمحتْ درجاتُ الحرارةِ العالميّةُ الّتي أصبحتْ أبرد بتشكّل الصّفائح الجليديّة للقارّة القطبيّة الجنوبيّة.
أمّا النّظريّة الثّانية فتُركّز على التّغيّرات الكبيرةِ في أنماط دورة المحيط والتي سبّبها ممرُّ درَيك Drake Passage، وهو مُسطَّحٌ مائيٌّ يقع بين الطّرف الجنوبيّ لأميركا الجنوبيّة والقارّة القطبيّة الجنوبيّة كانَ قد ازدادَ عمقُه بشكلٍ كبيرٍ منذُ حوالي 35 مليونَ سنة ممّا أدّى إلى إعادة تنظيمٍ كاملةٍ لدورة المحيط، حيث أنّ زيادة الانفصال بينَ القارّة القطبيّة الجنوبيّة وأميركا الجنوبيّة قادَ إلى خلقِ تيّارٍ قطبيّ جنوبيّ قويّ عَمِلَ كحاجزٍ مائيّ وحجبَ بشكلٍ فعّالٍ المياهَ الأدفأ والأقلّ ملوحةً القادمةَ من شمال المحيط الأطلسيّ ووسط المحيط الهادئ ومنعها من الاتجاه جنوباً نحو أراضي القطبيّة الجنوبيّة فخفّض بذلك درجاتِ الحرارة وهذا سمح للصّفائح الجليديّة بالتّشكّل.
لمْ يفكّر أحدٌ من قبل بإمكانيّةِ ربطِ هذين التّفسيرين مع بعضهما؛ لكنّ مجموعةً مِنَ الباحثين بقيادة علماءَ من قسم علوم الأرض والكواكب من جامعة McGill في مونتريال الكندية؛ يقترحون أنّ الطريقة المُثلى لفهم كيفيّة تشكّل صفائح الجليد تتمثّلُ في دمج التّفسيرين السّابقين معاً. ففي ورقةٍ بحثيّةٍ نُشِرت في مجلّة Nature Geoscience في كانون الثاني من عامٍ 2017؛ بيّن الباحثون أنّ زيادة عمق ممرّ Drake Passage سببّتْ تغيُّراً في دورة المحيط وهذا بدوره قادَ إلى توجيه المياهِ الدّافئةِ نحو الشّمال في أنماطٍ دورانيةٍ تُشبه الأنماطَ الموجودةَ في تيّار الخليج الّتي تُدَفّئُ شمالَ غربِ أوروبا حاليّاً.
هذا التّحولُ في تيّارات المحيط وتَوَجُّهُ المياه الدّافئة نحو الشّمال، قادَ إلى زيادةٍ في معدّلات هطول الأمطار منذ حوالي 35 مليونَ سنة مسبِّبةً تقليلَ مستويات ثنائي أوكسيد الكربون في الغلاف الجوّيّ، إذْ نقلت الأمطارُ CO2 من الغلاف الجوّيّ إلى الأحجارِ الكلسيّةِ التي قامت بحجزه، وفي النّهاية انخفضتْ مستوياتُ CO2 في الغلاف الجوّيّ نتيجةَ عمليّة تجوية* السّيليكات التي سبّبت تَخَرُّبَ الصّخور الحاملة للسّيليكات ببطءٍ بفعل الأمطار، وعندما وصلَ الانخفاضُ إلى عَتَبَتِه الحَديّة تشكّلت الصّفائحُ الجليديّة بسرعةٍ في القارّة القطبيّة الجنوبيّة.
دورة المحيط والتّغيرُ المناخيّ:
لمْ يفكِّرْ أحدٌ من قبل بالجمع بين النّظريّتين السّابقتين؛ لأنّه ليس من البديهيّ الاعتقادُ أنّ تغييراتِ أنماطِ المحيط الّتي تحدث خلال آلاف السّنين تُؤثّرُ على تجوية السّيليكات على المستوى العالميّ والّتي بدورها تتحكّم بالتّغيّر المناخيّ العالميّ على مدار مئات الآلاف مِنَ السّنين.
إنّ موضوعَ تَجَلّدِ القطبيّة الجنوبيّة يُلقّننا درساً مثيراً للاهتمام عندما يتعلّق الأمر بالتّغيّر المناخيّ لأنّ ما نحصل عليه هو تَحَوّلٌ مُصَغّرٌ بين حالتين مناخيّتين مستقرّتين في القارّة حيث انتقلت من عدم التّجمّد إلى التّجمّد. فيمكننا بذلكَ أنْ نلمس مدى التّعقيد الذي يمكنُ أنْ تصلَ إليه التّغيّرات المناخيّة ومدى تأثّر المناخ العالميّ بتغيّر أنماط دورة المحيط إذا نظرنا للأمر على مقياس الزّمن الجيولوجيّ.
هامش:
*التجوية: يتفاعل CO2 مع الماء مشكِّلاً حمض الكربون الضعيف الذي بدوره ينفصل إلى شوارد الهيدروجين وشوارد البيكربونات، تتفاعل شوارد الهيدروجين والماء مع المعادن الأكثر شيوعاً (السيليكات والكربونات) ممّا يؤدّي إلى تغيُّرِها وتفتُّتها. منتجات التجوية هي في الغالب الطين (مجموعة من معادن السيليكات) والشوارد القابلة للذوبان مثل الكالسيوم والحديد والصوديوم والبوتاسيوم.
المصدر: