البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات
التحفيز الجيني وتطور الدماغ
أجرى فريقٌ من الباحثين في قسم البيولوجيا العصبيَّةِ في جامعة "هارفرد" دراسةً بحثيةً جديدةً، وُجِدَ من خلالها أنَّ المورِّثة المسؤولة عن تنظيم نموَّ العظام وعمليات الأيض (الاستقلاب) في عضلات الثديات، تلعب دوراً إضافياً، كمحفِّزٍ لنضوج الدماغ والمعرفة والتعلُّم عند الرئيسيات بأنواعها المختلفة، بشراً أو غير بشر.
وصف الباحثون نتائج دراستِهِم بأنَّها تعطي توضيحاً درامياً لعملية إعادة الاستخدام الإبداعي للجينات والاقتصاد التطوري، وهي آلياتٌ تساهم في إحداثِ التنوُّع الهائل بين الأنواع التي تتشارك مجموعةً متشابهةً تقريباً من المورثات، ولكنها تختلف بشكلٍ عميقٍ في عملها الوظيفي.
يكشف البحث أنَّهُ وبعد تنشيطٍ شديدٍ لمورثة Osteocrin والموجودة في العضلات الهيكلية، عند جميع الثديات والمعروفة بدورها في نمو العظام ووظائف العضلات الاستقلابية، جرى تحوُّلٌ كاملٌ لدورها في أدمغة القوارض، لتقوم بدورٍ جديدٍ ومختلف في أدمغة الرئيسيات بشكلٍ عام.
والجدير بالذكر أن مورِّثةَ Osteocrin وُجدت في القشرة المخيَّة الحديثة، وهي الجزء الأكثرُ تطوُراً في أدمغة الرئيسيات والتي تقوم بتنظيم عمليَّات الإدراك الحسي، والمنطق المكاني، ومستويات التفكير العليا، واللغةِ عند الانسان.
توجد هذه المورثة بشكلٍ ملحوظٍ في مناطقِ الدماغ المسؤولةِ عن المستويات العليا للوظائف والتفكير، ويشير الباحثون إلى وجود دورٍ محتملٍ لهذه المورثة في تنمية الإدراك وهي سمةٌ أساسيةٌ تميزُ دماغ البشر وغير البشر من الرئيسيات.
ولا بد من الإشارةِ إلى أنَّ تطور الدماغ، عند البشر والرئيسيات الأخرى، يتأثَّرُ بعمق التجارب الحسية والتفاعلات الاجتماعية، وقد سعى العلماء ومنذ فترة طويلةٍ، لحلِّ لغزِ مورثات الدماغ، التي توضع في وضع التشغيل أو الإيقاف، تبعاً للخبرات، التي تُعدُّ وقودَ ارتقاءِ وظائف الدماغ الفريدة، في هذه الأنواع المعقدة.
كانت النتائج التي توصل إليها فريق جامعة هارفرد جزءاً من سعيها الدائم لتوضيح الآليات التي تكمنُ وراء تطور الدماغ البشري، والوظائف والأمراض، والكشف عن أن هذه المورثة Osteocrin واحدةٌ من المورثات التي يتم تفعيلها من خلال التحفيز الحسِّيِّ، ويضيف الفريق البحثيُّ أنَّ هذه هي المرة الأولى التي يتم خلالها إعادةُ تطويعٍ جينيٍّ لمنحىً تطوريٍّ في الدماغ، ويقول Michael Greenberg رئيس قسم الأعصاب في جامعة هارفرد: "لقد كشفنا ما كنا نعتقد بأنَّه يلعب دوراً حاسماً في تطور الدماغ البشري، وأعطانا هذا الاكتشاف لمحةً عن الآليات الوراثية التي تسبٍّب الاختلافات الإدراكية بين الفئران والبشر".
ففي هذا الإطار قام فريق البحث بتحليلِ مستوياتِ RNA البصمةِ الجزيئية للمورثات النشطة في خلايا دماغ الفئران والجرذان والإنسان. وعلى الرغم من أنَّ المورثات النشطة كانت متشابهةً في دماغ كلٍّ من الفئران والإنسان، إلا أن الباحثين لاحظو أن مجموعةً فرعيةً من المورثات تم تنشيطها في خلايا دماغ الإنسان فقط، ولمزيد من المفاجآت، كانت المورثة Osteocrin من أكثر المورثات تعبيراً (نشاطاً) في دماغ الإنسان ولكنها بالمقابل كانت في وضع الإيقاف التام في خلايا دماغ الفئران.
وفي خطوةٍ أكثر تقدماً، وضع العلماء خلايا دماغٍ من الأنواع الثلاث السابقة في أطباقٍ مخبرية، وبطريقةٍ كيميائية، أُعيدَ إنشاء ظروفٍ تحاكي التحفيز الحسي الذي يحدث في الدماغ، وكانت النتيجة أنَّ مورثة Osteocrin فُعِّلت بشكلٍ انتقائي في الخلايا العصبية المُثارة، مما يوضح دور التحفيز الكيميائي في تفعيل هذه المورثات انتقائياً، عوضاً عن الدور العام الذي تقوم به الإشارات العصبية.
كما لُوحظ أمرٌ أخر، وهو أنَّ المورثات التي فُعِلت كانت أكثر نشاطاً في خلايا القشرة المخية الحديثة، وهي طبقة الخلايا التي تغطي الدماغ والتي تعتبر مسؤولةً عن مستويات الإدراك العليا، كالذاكرة طويلة الأمد والتفكير واللغة وبنفس الوقت كانت مورثة Osteocrin غائبةً في أجزاءٍ أخرى من الدماغ، كتلك المسؤولة عن الوظائف اللامعرفية، والتحديد الفراغي، والتوازن والتنفس ومعدل ضربات القلب، إضافةً إلى التحكم بدرجات حرارة الجسم.
ما الفرق بين البروتينات الناتجة عن مورثة ال Osteocrin وغيرها من البروتينات الدماغية الأخرى؟
بمقارنة مستويات البروتينات الناتجة من التعبير الوراثي للمورثةosteocrin بمستويات بروتين دماغي آخر يسمى BDNF، (عامل التغذية العصبي الدماغي) (Brain Derived Neurotrophic Factor) هنا الذي يُعرف بدوره في نمو وإصلاح الخلايا العصبية، وخاصةً المحاور العصبية منها، ويؤثر على عمل المشابك العصبية، كان الفارق مدهشاً بينهما، فبينما وجد BDNF في جميع أجزاء الدماغ، اقتصر وجود بروتينات Osteocrin في القشرة الدماغية الحديثة، وبشكلٍ أقل في المهاد، وهي منطقةٌ من الدماغ يُعتقد أنها تلعب دوراً في تشكيل الذاكرة، واتخاذ القرارات، والاستجابة العاطفية، كما وُجدت بشكلٍ ملحوظ في الفص الصدغي، الذي يُعد مسؤولاً عن وظائف متعددةٍ مثل التعلم والذاكرة والمعالجة السمعية والبصرية، وفي الفص القفوي الذي يضم القشرة البصرية المسؤولة عن معالجة المعلومات البصرية، والتواصل القوي بين الخلايا العصبية.
وكشفت تحليلات متقدمة أنَّ التحفيز الحسي لتشغيل مورثة Osteocrin، في دماغ الرئيسيات، كان يتمُّ من خلال محسنٍ لـ DNA لم يكن معروفاً سابقاً، هذه المحسنات التي تعتبر مواقع صغيرة من سلسلتي DNA تقوم بدور منظم عملٍ للجينات وكأنها مفاتيح يتم من خلالها تشغيل بعض المورثات وإيقاف تشغيل مورثات أخرى، ومن هنا يمكن القول أن للمحسنات دورٌ في إحداث تغير عميق في التعبير الوراثي وزيادة الاختلافات المثيرة بين الكائنات الحية التي تتمتع بمادةٍ وراثيةٍ متطابقةٍ تقريباً.
وتقول Gabriella Boulting المُساهمة في البحث أنه رغم تشارك البشر مع القوارض بما يقرب 90% من كامل المادة الوراثية إلَّا أنه يمكننا أن نرى في هذه الحالة كيف يمكن للتغير في التعبير الوراثي لبعض الجينات في مواقع مختلفة أن يؤدي إلى تغيراتٍ متسارعةٍ ومثيرةٍ في وظائف خلايا الدماغ.
وكشفت التحاليل أن تفعيل Osteocrin يكبح نمو المشابك العصبية الشجرية المسؤولة عن نقل الإشارات من خلية دماغية إلى أخرى، وتعتبر آلية تقييد نمو التفرعات الشجرية أساسيةً لضمان عدم حصول تقاطعاتٍ ونقلٍ لإشاراتٍ عصبيةٍ غير مكتملةٍ من خليةٍ إلى أخرى كما يشير Bulent Ataman الباحث في جامعة هارفرد، ويضيف إنَّ تلك الملاحظة تفيد بأن نشاط وتفعيل المورثة Osteocrin يساعد ربما في تقرير رشاقة الخلايا العصبية وضبط النقل لضمان التواصل القوي بين الخلايا العصبية.
وللتأكُّد من أنَّ تفعيل التعبير الجيني، الذي حدث في الخلايا العصبية مخبرياً، يمكن أن يحدث وظيفياً (تلقائيا) في الدماغ السليم، قام الباحثون بتعطيل الرؤية مؤقتاً في عينٍ واحدةٍ من عيون قرد المكاك (macaque)، وتعتبر هذه الطريقة تقنيةً معروفةً لدراسة آثار التفعيل الدماغي المرن، والرؤية التي يمكن أن تُنتج من التفعيل الجيني في القشرة الدماغية. وهذه التجربة هي لإثبات فيما إذا كان الظنُّ بأن مورثة Osteocrin قد استيقظت وفُعلت من خلال التحفيز البصري، وأُوقفت عن العمل بغيابه، صحيحاً.
وبعد مرور يوم على التجربة، لاحظ الباحثون، أن التعبير الجيني للمورثة Osteocrin كان أعلى بشكلٍ ملحوظٍ في الأجزاء السليمة من دماغ قرد macaque مقارنةً مع خلايا المناطق المحرومة من الرؤية.
توضِّحُ النتائج السابقة مبدأً أساسياً في علم الأعصاب، وهو أنَّ التجارب والخبرات البصرية غير الطبيعية يمكنها أن تتداخل مع تطور وظائف خلايا الدماغ في القشرة البصرية.
وقد وصفَ كلٌّ من David Huble وTorsten Wiesel، الأعضاء المؤسسين في قسم علم الأعصاب في جامعة هارفرد، هذه الظاهرة منذ أكثر من 50 سنة مضت، وتقاسما جائزة نوبل عام 1981 بعد اكتشافهما لطرق معالجة الدماغ للمعلومات البصرية الطبيعية، وتفاعلات التربية والتنشئة التي تصل إلى الدماغ، والرؤية غير الطبيعية، والتي بمجملها يمكن أن تغيِّر أسلاك التوصيل حسب وصف Livin gstone الذي يضيف بأنه اصبح لدينا ملاحظات تكشف الأساس الجزيئي لما لاحظه كل من Huble وWiesel قبل نصف قرن، ويشير الباحثون القائمون على التجارب السابقة أن نتائجهم أثارت العديد من التساؤلات، بما في ذلك كيفية تفاعل Osteocrin مع الخلايا العصبية، وخاصةً مع العوامل التي تنظم التعبير عنها، والأهم من ذلك كيف يمكن أن تغير من وظائف الدماغ في حلات الصحة المرض.
المصدر: هنا
الورقة البحثية: هنا