البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
الانتقاء الطبيعي يسبب تدنّياً في جينات التعلّم لدى البشر
ترتبط الرغبة والميل للتعلّم بالجينات التي يحملها الفرد، فحسب ما ورد في الدراسات الوبائية والدراسات المتخصّصة بعلم الجينات، يمكن لجينات محدّدة أنْ تلعب دوراً هامّاً في تحديد مستوى التحصيل العلمي الذي يستطيع الفرد تحقيقه خلال حياته. لكنْ يبدو أنّ هذه الجينات تتناقص مع الزمن! ...هل يمكن ذلك؟ ... تفاصيل أكثر في مقالنا التالي:
تلك الجينات التي تجعل منا نحن البشر ميّالين للوصول لمستويات عليا في التعليم قد تناقصت عبر الأعوام الثمانين الماضية، إذ يعتقد العلماء أنّنا نخضع الآن لتأثير الانتقاء السلبي، الذي قد يؤثّر علينا في المستقبل بشكل كبير.
يُحدّد مقدار قوّتنا نحن البشر على هذا الكوكب بمدى قدراتنا العقلية التي نتفرّد بها عن بقية المخلوقات، ويُعدّ التعليم الوسيلة التي ندرّب بها مهاراتنا العقلية والذهنية، ونوجّهها.
فمن المذهل أنْ نجد أنّ العوامل الوراثية التي تلعب دوراً هامّاً في إطالة المدّة الزمنية التي يمكن أن نقضيها في التعليم، قد أصبحت أكثر ندرةً في المحتوى الجيني بشكل عام.
لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ البشر يصبحون أكثر غباءً مع الوقت، فإثبات أمر كهذا يحتاج إلى العديد من الأدلّة قبل الوصول لاستنتاج من هذا القبيل.
وهناك أيضاً حقيقة أخرى يجب أخذها في الحسبان، وهي أنّه قد أصبح بمقدور المزيد من الناس الوصول لوسائل التعليم والمعلومات، من خلال المدارس أو مواقع الإنترنت بشكلٍ أسهل من ذي قبل، لذا فوجود مثل هذه العوامل غير الوراثية يمكن له أن يواجه ذلك التدنّي في الجينات بل قد يطغى أثره عليه حتّى.
يعتقد الباحثون أنّنا لو نظرنا بشكل تقدّمي إلى المستقبل، وتأمّلنا نزعة الانحدار تلك عبر مئات القرون القادمة، بغضّ النظر عن كثرة المدارس وتوفّر وسائل التعليم، لاستنتجنا أنّه يمكن أن يكون لهذا الانحدار أثر كبير على النوع البشري على المدى الطويل.
ويُعتقد أنّه من الهام جدّاً توثيق البيانات والدراسات التي تخصّ هذا الموضوع بشكل متكرّر ودوري، من أجل إعداد تقارير مفصّلة تصف جميع التغيّرات التي قيست خلال مدّة زمنية طويلة، وهذه الدراسة التي أجراها الباحث Kari Stefansson المدير التنفيذي لمؤسّسة الوراثة الأيسلندية (Icelandic genetics firm deCODE)، تقدّم مثالاً لوصف هذه التغيّرات.
وعند النظر لخطّ التطوّر الزمني، يمكن أن تمرّ هذه التغيّرات بلمح البصر، إلّا أنّ استمرار هذه النزعة على مدى قرون يمكن أنْ يؤدّي إلى نتائج وخيمة.
كيف أُجريت الدراسة؟
حلّل الباحثون معدّل الولادات ل 129،808 من الأفراد الذين وُلدوا في أيسلندا بين عامي 1910 و1990، وكان قد حُدّد التسلسل الجيني الخاصّ بكلّ منهم، ثمّ قارنوا ذلك بمستوى التعليم الذي أحرزوه أو وصلوا إليه.
فلاحظوا وجود عامل وراثي محدّد يرجّح التحاق الفرد بالمدرسة مدّة زمنية أطول، واستنتجوا أنّ الأمر ليس بسيطاً، وهو متعدّد العوامل الجينية، وقائم على 620،000 تسلسل جيني مختلف موجود في الجينوم البشري لتحديد ميل الأفراد لتحصيل العلم.
ويشير الفريق البحثي إلى أنّ النسبة الصحيحة لتأثير كلّ من العوامل الجينية والبيئية في تحديد مستوى التعليم لدى الفرد ما زالت مجهولة حتّى الآن. رغم إشارة دراساتٍ سابقة إلى أنّ دور العامل الوراثي الذي يحدّد مدى التحصيل العلمي للفرد يقدّر بحوالي 40%.
وجد الباحثون عندما ربطوا نتائج عملية المسح الجيني بعوامل أخرى مثل سهولة التحصيل العلمي والخصوبة وسنة الولادة، أنّ الأفراد الذين يمتلكون ميلاً جينياً أكبر لإحراز درجاتٍ أعلى في مراحل التعليم كانوا أكثر توجّهاً لامتلاك عدد أقلّ من الأبناء.
واكتشف الباحثون ايضاً أنّ المعدّل الوسطي للتغيّرات الجينية، التي تعدّ هنا أساس وجود التفاوت بين الأفراد فيما يخصّ الرغبة بالتحصيل العلمي، قد تناقص بشكل ضئيل نسبياً، إلا أنّ لهذا التناقص أهمّيةً كبرى على الصعيد التطوّري.
وجدوا أيضاً انخفاضاً في معدّل الذكاء IQ بمعدّل 0.04 درجة في العقد الواحد، ولكن إذا اُخذت بعين الاعتبار جميع العوامل الوراثية التي يمكن أن ترتبط بالتعليم، فقد يرتفع ذلك الرقم إلى 0.3 درجة في العقد.
هل توجد أيّة علاقة بين الجينات المسؤولة عن التعلّم ومستوى الخصوبة؟
من المثير للاهتمام أنّ الرابط بين الميل الكبير لإحراز تحصيل علمي أكثر وإنجاب عدد أقلّ من الأطفال، لم يكن لصعوبة ارتياد الجامعات، واستهلاكها وقتاً أكبر من الزمن المخصّص للاعتناء بالعائلة، إذْ يقترح فريق الباحثين أنّ الجينات المسؤولة عن التعليم تستطيع أيضاً التأثير على خصوبة الإنسان على مستوى حيوي.
فحتى أولئك الذين حملوا الجينات التي تزيد الرغبة والميل للتعلّم مدّةً أطول، ولم يستطيعوا الوصول لمستويات متقدّمة في المراحل التعليمية، لا زالوا يحققون معدّلاً أكبر في امتلاك عدد أقلّ من الأبناء مقارنةً بأولئك الذين لا يمتلكون العامل الجيني. أي كان الأفراد الذين امتلكوا جينات التعليم أكثر ميلاً لامتلاك عدد أقلّ من الأبناء، بغضّ النظر عن مستوى التحصيل العلمي الذي وصلوا اليه.
وقاد هذا كلّه العلماء إلى افتراض أنّ هذه الجينات قد أصبحت أكثر ندرةً ضمن التعدّاد السكاني، لأنّ الناس الأفضل تعليماً قد ساهموا بشكل أقلّ في تشكيل المحتوى الجيني الأيسلندي.
ونؤكّد مجدداً أنّ الافتراضات في هذه الدراسة مبنيةٌ على إحصائيات دولة واحدة، فمن الصعب جداً الجزم أو التنبّؤ بما سيحلّ بمستوى ذكاء الجنس البشري في المستقبل البعيد بناءً على هذه النتائج.
ولكنّه أمر هامّ بالتأكيد ويستحقّ المتابعة، ويوضّح أهمية استمرار الجهود الموجّهة لضمان توفير إمكانية التعلّم لكلّ إنسان، فذلك سيسهم في مواجهة الانتقاء السلبي الذي يمكن أن يظهر على الساحة في هذا المجال.
وبرغم المواجهة بين عملية الانتقاء السلبي والتغيّرات التسلسلية للجينات التي تزيد من نزعة الفرد لزيادة التحصيل العلمي، إلّا أنّ المستوى التعليمي قد ارتفع بشكل ملحوظ على مدى العقود الماضية، وبشكل عام يمكننا من خلال النظام التعليمي أنْ نتحكّم بالدور الذي تلعبه تلك العوامل الجينية، وبمعنى آخر أن نسيطر على البيئة التي يمكن أن تتلاعب بها تلك العوامل الجينية.
في النهاية نستطيع القول إنّ الاستمرارية في عملية تطوير وسائل التعليم والعمل لكي تتوفّر بسهولة ويسر، ستؤدّي إلى تحسّن مستوى التعليم في المجتمع كلّه. إلا أنّنا سنقف أمام الزمن وحده ليخبرنا عمّا إذا كانت للتناقص الوراثي للميل نحو التعلّم أيّة آثار على مجتمعنا نحن البشر.
المصدر: هنا
الورقة البحثية: هنا