البيولوجيا والتطوّر > التطور
لغز الفصائل الدموية│لماذا لدينا فصائل دموية مختلفة؟
تبدأ القصة عندما تعرفنا على فصائل الدم لأول مرة في العقد الأول من القرن العشرين، عندما كان الطبيب النمساوي (Karl Landsteiner) من جامعة فيينا يحاول معرفة السبب الكامن وراءَ نجاح بعض عمليات نقل الدم، أو كون بعضها الآخر مميتاً. فقام لاندستينير من خلال سلسلة من التجارب بتصنيف الدم إلى أربع فصائل، وهي ما يعرف الآن باسم فصائل الدم ABO؛ وتشير "الفصيلة" (أو الزمرة) إلى وجود نوع معين من المستضدات* المتمسكة بسطوح كريات الدم الحمراء. من جهةٍ أخرى، يقوم جسم الإنسان بصنع بروتينات متخصصة تعرف بالأجسام المضادة** التي تهاجم أنواع معينة من هذه المستضدات. إذاً فكل فصيلة دموية تعبر عن مستضدات معينة على سطوح كريات الدم الحمراء، وأجسام مضادة معينة يصنعها الجسم. وقد تطرقنا لذلك في موضوع سابق (يمكنك الاطلاع عليه من هنا) نستعرض ملخصه في الرسم التالي.
المستضدات والأجسام المضادة التي تصنع بواسطة فصائل دموية ABO مختلفة
وبعدما حدد لاندستينر النمط المميز للفصائل الدموية ABO، أدرك أن فصائل الدم تورث بالجينات، وأصبح تحديد فصيلة الدم واحداً من الطرق الأولى لاختبار الأبوة. وفي وقت لاحق، أدرك الباحثون أن نظام فصائل الدم ABO يحكمها جين واحد يقع على الكرموسوم رقم 9 (9q34.1) ويسمى ABO جليكوسيلترانسفيريز (ABO glycosyltransferase)، ويأتي في ثلاثة أصناف: A وB وO (الأشخاص ذوي فصيلة الدم AB يرثون جين A من أحد الوالدين وجين B من الآخر) وكلّ منهم مسؤول عن إنتاج البروتين السكري glycoprotein (المستضد) الخاص به.
لذا فإن فصائل الدم البشرية تعتبر مؤشراً وراثياً قديماُ تطور عبر ملايين السنين. ولتفسير وجود فصائل دموية مختلفة وضعت ثلاث فرضيات:
فرضية الأعراق الأولية (the primary races hypothesis) التي افترضت وجود ثلاثة أعراق رئيسية من البشر، الأول في أوروبا ويمتلك فصيلة الدم A، والثاني في آسيا ويمتلك فصيلة الدم B، وأخيراً فصيلة الدم O في جنوب أمريكا، وتسببت الهجرة والاختلاط بين الأعراق في ظهور الوضع الحالي لتوزيع فصائل الدم.
ولكننا نعلم أن السكان -حتى المعزولين عن غيرهم- في كل قارة يمتلكون فصائل دموية مختلفة.
ووفقاً لفرضية أخرى، فإن ظهور فصائل الدم A وB وفصائلهم الفرعية نتج عن طفرات متعاقبة حدثت لفصيلة دم أساسية وشائعة (وهي فصيلة الدم O) وتشعبت على مدى ملايين السنين.
فرضية ظهور جميع فصائل الدم نتيجة طفرات متعاقبة من فصيلة الدم O
واعتماداً على هذه النظرية، فإن جميع الأعراق القديمة كانت تمتلك فصيلة الدم O، مثل الهنود الحمر والإسكيمو الذين وصل تواتر فصيلة الدم O بينهم بين 75-100%، بينما في معظم المجموعات العرقية الحديثة كان من الواضح سيادة فصيلتي الدم A وB.(1)
وفي فرضية أخرى، كانت فصيلة الدم الرئيسية هي AB والتي تدريجياً ومع مرور الزمن -وبسبب الطفرات الجينية- نتج عنها فصائل الدم A وB وأخيراً O. وبناءً على هذه النظرية، يحتمل أنه قبل بضعة ملايين من السنين امتلك جميع البشر فصيلة الدم O فقط، التي تكون أكثر مقاومة للعديد من الأمراض المعدية.
استناداً إلى الفرضية الثانية فأول فصيلة دموية هي AB والتي أدت تدريجياً إلى A وB وO
وكل ذلك من أجل تفسير الأنماط العالمية المتواترة لتوزيع فصائل الدم، التي من الواضح أن توزيعها معقد نوعاً ما.
فأليل فصيلة الدم B (أقل فصيلة انتشارا)، يوجد لدى 16% من البشر فقط، وأعلى نسبة له توجد في وسط آسيا وأقلها بين السكان الأصليين في الأمريكيتين وأستراليا.
وأليل فصيلة الدم A، يوجد لدى حوالي 21% من البشر، وأعلى نسبة له توجد بين هنود البلاكفوت (blackfoot) في مونتاتا، والسكان الأصليين في استراليا، واللابيين، أو الساميين، الذين يسكنون شمال اسكندنافيا، وعلى ما يبدوا أن الأليل A يغيب بين هنود وسط وجنوب أمريكا.
أما فصيلة الدم O (أكثر فصيلة انتشاراً)، توجد لدى حوالي 63% من البشر، وأعلى نسبة لها توجد بشكل خاص بين السكان الأصليين لوسط وجنوب أمريكا، وأيضاً السكان الأصليين لأستراليا وأوروبا الغربية، ويقل وجودها في أوروبا الشرقية ووسط آسيا حيث يشيع وجود الفصيلة B.
وبعد اكتشاف أول فصيلة دموية (ABO) على يد لاندستينير في عام 1901، بدأ تدريجياً منذ عام 1927 اكتشاف أنظمة لفصائل دموية جديدة مثل العامل الريسوسيّ Rh، وMN، وDiego، وKidd، وKell وغيرها مما يزيد عن ال 20 فصيلة دموية.
وبعد أكثر من مائة عام من أعمال لاندستينير، الذي حاز لاكتشافاته على جائزة نوبل في الطب عام 1930، ما زال العلماء يفتقرون لأي فكرة عن الوظيفة التي تؤديها مستضدات الدم هذه. فمن الواضح جداً أن الأشخاص ذوي فصيلة الدم O (أليللا يملكون هذه المستضدات) على خير ما يرام بدونها. وعلى أيه حال، فقد وجد العلماء في القرن الماضي بعض الروابط المثيرة للاهتمام بين فصائل الدم والإصابة بالأمراض. فالأشخاص ذوي فصيلة الدم A، على سبيل المثال، يبدون أكثر عرضه للإصابة بالجدري، في حين أن الأشخاص ذوي فصيلة الدم B يبدون متأثرين أكثر ببعض حالات العدوى القولونية لبكتيريا ايشيريشيا كولاي (E. coli infections).
وعلى الرغم من اعتقاد الباحثين أن الروابط بين فصائل الدم والإصابة بالأمراض مثيرة للاهتمام، إلا أنهم لا يزالون عاجزين عن فهم: كيف ولماذا تطورت مستضدات الدم أساساً؟! فهذه التباينات الدموية تقف بمثابة تذكيرٍ لنا بأننا ما نزال بانتظار تعلم الكثير عن البيولوجيا البشرية.
------
* المستضد هو أي جسم يحفز استجابة الجهاز المناعي.
** الأجسام المضادة (أو الغلوبولينات المناعية): هي بروتينات متخصصة تنتجها الخلايا المناعية، تتعرف على المواد الغريبة التي تدخل الجسم، مثل البكتيريا، والفيروسات، وتقوم بالارتباط بها وتجميعها ليتم إزالتها بواسطة الجهاز المناعي.
المصادر: