التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية
انهيار الاتحاد السوفياتي...
في كانون الأول عام 1991م شاهد العالم بذهول تفكك الاتحاد السوفياتي إلى 15 دولة. احتفل الغرب بالانهيار بوصفه انتصارًا للحرية، وغلبة للديمقراطية على الشمولية، ودليلًا على تفوق الرأسمالية وفشل الاشتراكية. ابتهجت الولايات المتحدة بركوع عدوتها الأشد خصومة وانتهاء الحرب الباردة بين قطبي قوى العالم لمصلحتها. غيَّر انهيار وتمزق السوفيات الجبارين الخريطة السياسية والاقتصادية والعسكرية للكرة الأرضية كلها.
في مقالنا هذا نشرح لكم كيف انهار الاتحاد السوفياتي... قراءة ممتعة
في عيد الكريسماس عام ١٩٩١م، رفرف العلم السوفياتي فوق الكرملين في موسكو للمرة الأخيرة. قبل ذلك بعدة أيام، اجتمع ممثلو ١١ جمهورية سوفياتية (أوكرانيا، روسيا الاتحادية، بلاروسيا، أرمينيا، أذربيجان، كازخستان، قرغيزستان، مولدافيا، تركمانستان، طاجكستان وأوزبكستان) في مدينة ألما-آتا الكازخستانية وأعلنوا انفصالهم عن الاتحاد السوفياتي. دول البلطيق الثلاث (لاتفيا، ليتوانيا، استونيا) أعلنت انفصالها قبل ذلك، بحيث لم يبق من الدول الـ ١٥ سوى جمهورية جورجيا. انهار الاتحاد السوفياتي العملاق، بسبب القوانين الجامحة التي أقرها رئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف خلال سنين حكمه الست. كان غورباتشوف خائب الأمل ومحبطًا بسبب تفكك وطنه، استقال من الرئاسة قبل تفكك الاتحاد بيوم. لكن وعلى كل حال كانت هذه نهاية سلمية لعهد طويل اتسم بالدموية والرعب من تاريخ البشرية.
بداية وتطور الاتحاد السوفياتي:
ولد الاتحاد السوفياتي عام ١٩١٧م، عندما ثار الشيوعيون ليسقطوا الحكومة الروسية المؤقتة ويعلنوا دولتهم الاشتراكية على أراضي الإمبراطورية الروسية. وكان زعيم الاتحاد السوفياتي آنذاك فلاديمير لينين.
كان من المتوقع أن يكون الاتحاد السوفياتي "مجتمع الديمقراطية الحقيقية" لكنه لم يقل قمعية عن الدولة القيصيرية التي سبقته. حُكمت البلاد من حزب واحد وهو الحزب الشيوعي الذي طالب كل مواطن بتقديم الولاء المطلق له. بعدما وصل ستالين إلى الحكم عام ١٩٢٤م أصبحت الدولة تسيطر سيطرة شاملة على الاقتصاد متحكمةُ بموارده جميعها، تدير المصانع والمزارع فضلًا عن تحكمها التام في السياسة والحياة الاجتماعية في الدولة. الأشخاص الذين اعترضوا على سياسة ستالين اعتقلوا وأجبروا على العمل في معسكرات العمل أو أعدموا.
عندما مات ستالين عام ١٩٥٣م شجب قادة الاتحاد السوفياتي الجدد السياسة الوحشية لستالين لكنهم استمروا بتعزيز قوة الحزب الشيوعي الحاكم. انشغل الحكام السوفياتيين في الحرب الباردة مع الغرب وانخرطوا بسباق تسلح مكلف ومدمر للاقتصاد مع الولايات المتحدة، واستعملوا القوة العسكرية والأمنية لقمع أي تحرك مضاد للشيوعية ولتوسيع نفوذ الحزب في شرق أوروبا ومناطق متعددة من العالم.
إصلاحات غورباتشوف:
تسلم ميخائيل غورباتشوف السياسي الشيوعي المحنك زعامة الاتحاد السوفياتي عام ١٩٨٥م، توجهت الأنظار نحو غورباتشوف ليحرك اقتصاد السوفيات الراكد ويصلح الهيكلة السياسية المتداعية للبلاد والتي يستحيل إصلاحها.
أعلن غورباتشوف عن سياستين كبيرتين كانتا أمله الوحيد لجعل السوفيات أمة مزدهرة منتجة. عرفت السياسة الأولى بـ "غلاسنوست" والتي تعني "الانفتاح السياسي". أزالت غلاسنوست أساليب قمع الحريات الستالينية، مثل منع الكتب وإطلاق اليد الطولى للشرطة السرية. قدم غورباتشوف الحرية للمواطنين السوفيات، وحرر السجناء السياسيين، وأصبحت الصحف قادرة على انتقاد الحكومة، وأنهى سياسة الحزب الواحد وسمح بتكوين الأحزاب لتشارك في الانتخابات وتنافس الحزب الشيوعي.
سميت السياسة الثانية "بيريسترويكا" أو "إعادة هيكلة الاقتصاد".
رأى غورباتشوف أن الوسيلة الأفضل لإعادة إحياء الاقتصاد هي أن ترفع الدولة يدها عنه. كان يؤمن أن المبادرة الشخصية ستقود إلى الإبداع، لذلك سمح للأفراد بأن يمتلكوا أعمالًا للمرة الأولى في تاريخ السوفيات. وسمح للعاملين بأن يضربوا ويحتجوا من أجل أجور وأوضاع أفضل، مثلما سمح وشجع على استثمار الأجانب في الاتحاد السوفياتي.
كانت هذه الإصلاحات أبطأ من أن تؤتي ثمارها. نسف بيريسترويكا "الاقتصاد الموجه من الحكومة" الذي كان يبقي الاتحاد السوفياتي متوازنًا في الوقت الذي كان اقتصاد السوق يحتاج إلى مزيد من الوقت لكي ينضج.
يصف غورباتشوف الأمر في خطابه الأخير: "انهار النظام القديم قبل أن يبدأ النظام الجديد بالعمل". التقنين، العجز، طوابير الناس الطويلة التي تقف لتحصل على المنتجات الشحيحة هي النتائج الوحيدة لإصلاحات غورباتشوف. الأمر الذي ضخم روح الإحباط عند المواطنين من حكومتهم.
ثورات ١٩٨٩م وانهيار الاتحاد السوفياتي:
كان غورباتشوف يرى أن تحسن الاقتصاد السوفياتي معتمد على علاقات أفضل مع بقية العالم، خصوصًا مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي ريغان قد وصف الاتحاد السوفياتي بـ "امبراطورية الشر" وقاد حملة تسلح ضخمة، إلا أن غورباتشوف تعهد بإيقاف سباق التسلح الذي صار يثقل ميزانية السوفيات. وأعلن أنه سيسحب قواته من أفغانستان، التي كانت تحارب هناك منذ ١٩٧٩م وخفض عدد قواته في شرق أوروبا.
سياسة عدم التدخل كان لها عواقب مهمة على الاتحاد السوفياتي، فقد أصبح الحلفاء في أوروبا الشرقية يعانون، أو مثلما وصفهم غورباتشوف "خلال أشهر فقط صاروا يتكسرون كقطع البسكويت". حدثت الثورة الأولى عام ١٩٨٩م في بولندا، عندما تحركت النقابات غير الشيوعية واتفقت مع الحكومة الشيوعية على إجراء انتخابات أكثر حرية، التي ربحوها في ما بعد وبنجاح كبير. وقد أشعلت هذه الشرارة سلسلة من الثورات السلمية في أنحاء أوروبا الشرقية. وسقط جدار برلين في شهر تشرين الثاني الشهر نفسه الذي اندلعت فيه "الثورة المخملية" في تشيكوسلوفاكيا والتي أسقطت حكومة البلد الشيوعية. بعدها بشهر أعدم دكتاتور رومانيا الشيوعي نيكولاي تشاوشيسكو هو وزوجته رميًا بالرصاص على يد ثوار شعبه.
كانت الأجواء مشتعلة ومن غير المستبعد أن تتحرك هذه الثورات والاحتجاجات في الاتحاد السوفياتي نفسه.
الإحباط والاقتصاد السيء وسياسة عدم التدخل التي انتهجها غورباتشوف ألهمت حركات الاستقلال في جمهوريات الاتحاد السوفياتي المتعددة. أعلنت دول البلطيق في البداية استقلاليتها عن موسكو، وبعدها بقليل انجرفت بلاروسيا وروسيا الاتحادية وأوكرانيا بعيدًا عن الاتحاد السوفياتي. بعدها بأسابيع، التحقت بها ثماني دول من التسع المتبقية، وتحطم الاتحاد السوفياتي الجبار.
المصادر: