الأنواع الأربع للذكاء الصنعي

استمع على ساوندكلاود 🎧

شكّكَ البيتُ الأبيضُ في تقريره الأخير حول الذّكاءِ الصُّنعيِّ (هنا) الصّادرِ في تاريخِ "2016/10/12" بإمكانيّةِ تحقيق حلمِ رؤيةِ آليّينَ يمشون بيننا قريباً، وورد في التّقريرِ بأنّ العشرين عاماً القادمة لن نتمكن في الغالب من رؤية آلاتٍ قادرةٍ على امتلاك ذكاءٍ قابلٍ للتّطبيقِ عموماً بشكلٍ يتجاوز أو يكافئ ذكاءَ الإنسان، وعلى الرّغم من ذلك يذكر التّقرير بأنّ الآلاتِ سوف تصل وتتخطّى آداء الإنسان أكثرَ وأكثرَ عند قياِمها بالمهام المحدّدة.

ركّز التّقرير على مايُطلَق عليه أدواتُ الذّكاءِ الصُّنعيِّ الرّئيسيّة (تعلُّم الآلة "machine learning" والتَّعلُّم العميق "Deep learning") وهي التّقنّياتُ الّتي كانت قادرةً على لَعِبِ "jeoplay" بشكلٍ جيّدٍ واستطاعت هزيمةَ محترفي لعبة "Go" والّتي تُعتَبَرُ أعقدَ لعبةٍ تمَّ اختراعها إلى الآن.

إنّ الأنظمةَ الذّكيّةَ الحاليّةَ قادرةٌ على معالجةِ معطياتٍ كبيرةٍ من البياناتِ والقيامُ بالعمليّاتِ الحسابيّةِ المعقّدَةِ بسرعةٍ كبيرةٍ. ولكن ما ينقصها هو العنصرُ الّذي سيجعلُ منها آلاتٍ مُدركةً (واعيةً) وهو ما نتخيّلُ حصولُ الآلاتِ عليه في المستقبل.

إنّ ما يتوجّبُ على الباحثينَ في الذّكاء الصُّنعيِّ الآن ليس فقط تعليم الآلات، وإنّما هم بحاجةٍ للتّفرقةِ بين أربعِ أنواعٍ مختلفةٍ للذّكاءِ الصُّنعيِّ، والفواصل الّتي تفصل الآلات عنّا - وتفصلنا عنها.

النّوعُ الأوّل: الآلات التّفاعليّة

أكثرُ أنواع نظمِ الذّكاء الصُّنعيِّ تفاعليّةً، ولكنّها ليست قادرةً على تشكيلِ الذّكرياتِ أو الاستفادة من التّجارب السّابقة لها في اتّخاذ القرارات الحاليّة. "Deep Blue" الحاسوب الخارق المُصمّمُ للعبِ الشّطرنج من قِبَل شركة IBM والّذي هزمَ بطلَ الشّطرنج العالميِّ جيري كاسبروف "Garry Kasparov" في أواخر تسعينيّات القرن الماضي هو من أهمِّ الأمثلةِ على هذا النّوعِ من الآلات.

"Deep Blue" تستطيع تحديد القطع على لوح الشّطرنج وتعلَمُ كيف تتحرّكُ كلُّ قطعةٍ. وتستطيع التّنبّؤَ بالتّحرُّكات الممكنةِ لها أو لخصمِها في الخطوةِ اللّاحقة. ومن ثمَّ تستطيعُ اختيارَ أفضلِ حركةٍ من تلك الاحتمالات.

ولكن ما تفتقده هو عدم وجودِ أيِّ مفهومٍ عن الماضي، أو ذاكرةٍ لما حدثَ مسبقاً. فهي تتجاهل تماماً أيَّ حركةٍ حدثت مُسبقاً وكلُّ ماتهتمُّ به هو المواقعُ الحاليّةُ لأحجارِ الشّطرنج واختيار الحركة اللّاحقةِ الممكنةِ.

يقتضي هذا النّوع من الذّكاء جعلَ الحاسوبِ قادراً على إدراكِ العالمِ بشكلٍ مباشرٍ والتّفاعلِ معه بحسب ما يمتلكه من معطياتٍ حاليّةٍ فقط. ففي إحدى الأوراق البحثيّةِ قام باحثٌ في الذّكاءِ الصُّنعيِّ يُدعى رودني بروكس "Rodney Brooks" بمناقشةِ أنَّه يجب علينا بناءَ آلاتٍ من هذا النّوعِ فقط. وسببُه الرّئيسيُّ في ذلك كوننا غيرُ جيّدين كفايةً في تطوير عوالِمَ افتراضيّةً فعّالةً ليتمَّ استخدامُها من قِبَلِ الحاسوب، والّتي تمّ تسميّتُها ضمن ورقة البحث بـ تمثيلٍ للعالم "representation of the world".

والآلاتُ الذّكيّةُ الحاليّةُ الّتي نُعجَبُ بها إمّا ليس لديها أيُّ تصوُّرٍ حول العالم أو لديها تصوُّرٌ محدودٌ ومُخصَّصٌ من أجل مهامها المُحدَّدةِ. إنَّ الإبداع في تصميمِ "Deep Blue" ليس في توسيع مجال الحركاتِ المُتاحةِ الّتي سوف يأخذها الحاسوب بعين الاعتبار. بل على العكس من ذلك، فقد وجد المطوِّرون طريقةً للتّقليلِ من تلك الاحتمالاتِ للتّوقّفِ عن ملاحقةِ بعض الحلول المستقبليّةِ المُحتَمَلَةِ وذلك اعتماداً على تقييم تلكَ الحركة. فبافتقادِ هذه القدرةِ على انتقاءِ الخطواتِ، سيكونُ "Deep Blue" بحاجةٍ للمزيد من القوّة الحسابيّةِ للتّغلُّب على كاسبروف.

وبشكلٍ مشابهٍ ألفا غو "AlphaGO" الخاصةِ بغوغل والّتي تغلّبت على أقوى محترفي لعبة غو "Go"، وهي أيضاً لاتقوم بحساب جميعِ الخطواتِ المُحتملةِ. إنّ طريقةَ التّحليلِ لديها أكثرُ تعقدياً من نظيرتها في "DeepBlue" كونَها تستخدمُ الشّبكاتِ العصبونيّةِ لتقييمِ حالةِ اللُّعبة.

إنّ هذه الطُّرق بالفعلِ تقومُ بتحسين قدرةِ نُظُمِ الذّكاء الصُّنعيِّ على لعب ألعابٍ مُحَدَّدَةٍ بشكلٍ أفضلَ، ولكن لايمكن بسهولةٍ تغييرها أو تطبيقها على حالاتٍ أخرى (لُعَبٍ أخرى). فليس لدى هذا التّصوّرِ الحَوسَبيِّ أيُّ مفهومٍ حولَ العالمِ المحيط – وبالتّالي ليس لديه أيُّ قدرةٍ على العملِ خارج إطارِ المهام المُحدَّدةِ الّتي صُمِّمَ لأجلها ويمكن خداعها بسهولة.

مثل هذه الآلاتِ غيرُ قادرةٍ على المشاركةِ في العالم المحيط، بالشّكلِ الّذي نتخيّله. وإنّما تقوم بالتّصرّفِ بنفس الطّريقة في كلِّ مرَّةٍ تواجه فيها نفسَ الحالةِ (السّيناريو). إنّ هذه الطّريقة في العملِ مناسبةً للتّأكّدِ من أنَّ نظامَ الذّكاء الصُّنعيِّ الّذي يعمل موثوقٌ (أنت تريد من السّيّارةِ الذّاتيّةِ القيادة أن تكون سائقاً يمكن الاعتمادُ عليه ولكن في نفسِ الوقتِ ليس من الجيّدِ أن نحصلَ على آلةٍ ترتبطُ وتتفاعلُ مع العالمِ المحيطِ بشكلٍ دائمٍ!). فهذا النّوعُ من الأنظمةِ الذّكيّةِ (الّتي تتصرَّفُ بنفس الطّريقةِ في كلِّ مرّةٍ) لن تشعر في يومٍ من الأيامِ بالمللِ أو الاهتمامِ أو الحزنِ!.

النّوع الثّاني: الذّاكرة المحدودة

يتضمّنُ هذا النّوعُ الآلاتِ الّتي تستطيعُ الاعتمادَ على الماضي. وقد بدأت بالفعلِ السّيّاراتُ ذاتيّةُ القيادةِ بالحصولِ على شيءٍ من هذا. على سبيلِ المثالِ، فهي تُراقب سرعاتِ واتّجاهاتِ السّيّاراتِ الأخرى. وهو ما لايُمكنُ فعله في لحظةٍ واحدةٍ، ويتطلَّبُ أيضاً منّا تعريفَ أهدافٍ مُحدّدةٍ لمراقبتها طوالَ الوقتِ.

تمَّ أخذُ هذه الملاحظاتِ بعينِ الاعتبارِ في طريقةِ برمجةِ السّيّاراتِ ذاتيّةِ القيادةِ. والّتي تتضمّنُ بالإضافة إلى ذلك تحديدَ المساراتِ وإشاراتِ المرورِ والمنعطفاتِ وغيرِها من العناصرِ المُهمَّةِ. ويتمُّ استخدام هذه المعلوماتِ عندما تريدُ السّيّارةُ تغييرَ طريقها لتجنُّبِ قطع الطّريقِ على سيّارةٍ أخرى أو الاصطدام بسيارةٍ قريبةٍ.

ولكنَّ هذه المعلوماتِ البسيطةِ عن الماضي هي فقط معلوماتٌ مؤقتةٌ. بحيث لايتمُّ حفظها كجزءٍ من مكتبةِ تجاربِ السّيّارة الّتي يمكن التّعلُّم منها، كما يفعل الإنسان عندما يقود بحيث يقوم بالاعتمادٍ على جميع خبراته الّتي حصلَ عليها خلف عجلةِ القيادةِ مُسبقاً.

فكيف نستطيعُ بناءَ نظامٍ ذكيٍّّ يمكنُه بناءَ تمثيلٍ كاملٍ قادرٍ على تذكُّرِ التَّجاربِ وتعلُّمِ كيفيّةِ التّعاملِ مع الحالاتِ الجديدةِ؟ كان بروك "Brook" مُحقَّاً حيث أنّهُ من الصّعبِ جدّاً فعلُ هذا.

النّوع الثّالث: نظريّة العقل

وهو الحدُّ الفاصلُ بين الآلاتِ الّتي نمتلكُها اليومَ والآلاتِ الّتي سوفَ نبنيها في المستقبلِ. ومن الأفضلِ أن نكونَ أكثرَ تحديداً في مناقشةِ أنواعِ تمثيلِ حاجةِ الآلاتِ وما الّذي يتوجّبُ أن تكونَ عليه.

في الفئةِ الأكثرِ تقدُّماً ستصبحُ الآلاتُ قادرةً على تشكيلِ تمثيلاتٍ للعالمِ من حولِها وللكياناتِ الأخرى ضمنَ العالمِ. ويُسمّى هذا في علم النّفسِ بـ"نظريّة العقل" – أي أنّ النّاسَ والكائناتِ ضمنَ العالَمِ لديها أفكارٌ ومشاعرُ تؤثّرُ في طريقةِ تصرُّفِها.

وهذا الأمرُ هامٌّ في كيفيّةِ تشكيلنا كبشرٍ لمجتمعاتِنا. لكونِها سمحت لنا بالتّواصُلِ فيما بيننا. فبدونِ فهمٍ لدوافِعنا ونوايانا، وعدمِ الأخذ في الحُسبان لما يعرفُهُ الآخرونَ سواءً عنّا أو عن البيئةِ المحيطةِ، سيكون تعاملنا مع بعضِنا بعضاً هو في أفضلِ الأحوالِ أمرٌ صعبٌ وفي أسوئِها من المستحيلاتِ.

في حال قُدّرَ للنُّظمِ الذَّكيّةِ أن تمشي بيننا يوماً ما، فيتوجّبُ عليها أن تكونَ قادرةً على فهمِ أنّ لكلِّ واحدٍ منّا مشاعرَهُ وأفكارَهُ وتطلعاتِهِ لكيفيّةِ التّعاملِ معنا. وهي بحاجةٌ أيضاً لأن تكونَ قادرةً على تعديلِ سلوكِها وفقاً لذلك.

النّوع الرّابع: الوعي الذّاتيّ

الخطوةُ الأخيرةُ من تطوير الذّكاء الصُّنعيِّ هي بناءُ نُظُمٍ قادرةٍ على بناءِ تمثيلٍ لنفسها. وبكلِّ تأكيدٍ سيتطلَّبُ ذلك من باحثي الذّكاءِ الصُّنعيِّ فهماً للوعي والإدراكِ، وبناءِ آلاتٍ تمتلكُ ذلكَ الإدراك.

ونلاحظ أنّ هذا النّوعِ عبارةٌ عن إضافةٍ على "نظريّة العقلِ" ضمن النّوعِ الرّابع. ويُسمّى الوعي أيضاً بالإدراكِ الذّاتيِّ لسببٍ. ("أنا أريدُ هذه القطعة." هي جملةٌ مختلفةٌ كلَّ الاختلافِ عن "أنا أعلمُ لماذا أريدُ هذه القطعة."). الكائناتُ الواعيةُ قادرةٌ على إدراكِ نفسِها، ومعرفةِ حالتِها الدّاخليّة، والتّنبّؤ بمشاعرِ الآخرينَ من حولِها. فعندما يقومُ شخصٌ ما باستخدامِ بوقِ السّيّارة لتنبيهنا "التّزمير لنا" ونحنُ في طريقٍ مُزدحمٍ سنُخمِّنُ بأنّ هذا الشّخصِ غاضبٌ أو غيرُ صبورٍ، لأنَّ هذا مايمكنُ أن يكونَ عليه شعورُنا عندما نفعلُ ذلك. فبدون نظريّة العقلِ نحنُ غيرُ قادرينَ على الحصولِ على مثلِ هذه الأنواعِ من الاستنتاجات.

يبدو أنّنا بعيدينَ عن بناءِ آلاتٍ تمتلكُ هذا النّوعَ من الإدراكِ الذّاتيِّ، ولكن يتوجَّبُ علينا تركيزَ جهودِنا باتّجاه فهمِنا للذّاكِرَةِ والتّعلُّمِ والقدرةِ على جعلِ القراراتِ المتَّخَذَةِ تعتمدُ على الخبراتِ السّابقةِ. فهيَ خطوةٌ مُهمّةٌ لفهمِ الذّكاءِ البشريِّ بحدِّ ذاتِهِ. وهي مُهمَّةٌ أيضاً في حالِ أردنا للآلاتِ أن تقومَ بأعمالٍ أخرى مغايرةٍ للتّصنيفِ والتّعرُّفِ على ما تراه أمامها من أشياءَ.

-----------------------------------------------------------------

المصدر:

هنا