الطب > طب الأطفال
لعبُ الأطفالِ بين نظرةِ المجتمعِ وتربيةِ الأهل.
في عصرِنا الحاليِّ، وعلى الرغمِ من اختلافِ أشكالِ التفكيرِ ووجهاتِ النظرِ، لا نستطيعُ إنكارَ أنّنا –بشكلٍ أو بآخرَ- مُلزمونَ باحترامِ العديدِ من تقاليدِ وأعرافِ المجتمعِ لأنّ ذلك جزءٌ أصيلٌ من طبيعتِنا البشريةِ، ولا يمكنُنا أيضاً إنكارُ أنّ هذا الانصياعَ يُعتبر من الخِصالِ المرغوبةِ والحميدةِ؛ إنْ كان بدرجةٍ معقولةٍ طبعاً.
ونجدُ أنّ علمَ النفسِ المجتمعيَّ يقدم سببين رئيسَيْن لهذا الالتزامِ: السببُ الأولُ يمكن وصفُه بأنه معلوماتيٌّ براغْماتيٌّ (أو نَفعيّ). لتوضيحِ ذلك لو افترضْنا وجودَ جسرين، ورأيتَ جميعَ الناسِ يتجنبون الجسرَ اﻷولَ ويعبرون من الثاني، فإنّ أولَ ما يتبادرُ إلى ذهنِك هو وجودُ خَطبٍ ما في الجسرِ اﻷولِ جعلَ الناس يتجنّبونه، ومن باب السلامةِ فإنك سوف تعبرُ من الجسرِ الثاني، وبذلك فإننا لا نعيشُ التجرِبةَ أو نتعلمُ من أخطائنا، بل نتعلمُ من تجارِبِ المجتمعِ حولَنا، وهذا هو ما يُطلق عليه "التأثيرَ المعلوماتيَّ ".
أما السببُ الثاني فيتعلق بتقويةِ الروابطِ الاجتماعيةِ بين الأفرادِ، وسَعيِ الفردِ للحصول على الرضا والقبولِ من الجماعة، حيث أنّ بقاءَنا يكمن في توحُّدِنا في جماعاتٍ؛ هذه الجماعةُ قد تأخذُ صورةَ قبيلةٍ أو شعبٍ أو أمّةٍ أو مجموعةِ أصدقاءٍ أو حتى فريقِ عمل. ونجد أنه لم يكنْ من الممكنِ لهذه المجموعاتِ البقاءُ بدونِ وجودِ درجةٍ من التوافقِ والتنسيقِ السلوكيِّ بين أفرادِها، فهي تجعلُ الجماعةَ تعملُ كوحدةٍ متناسقةٍ بدلاً من أفرادٍ متنافرين. ونرى أننا نتبنّى أفكارَ وعاداتِ واعتقاداتِ جماعتِنا، وذلك يعزِّز من تقبُّلِ باقي الجماعةِ لنا، وعندما يشُذُّ أحدُ الأفرادِ سوف نراه غريباً عنا، وهذه التأثيراتُ الاجتماعيةُ التي تغذّي رغبةَ كلِّ فردٍ -ﻷنه يجد القبولَ من الجماعةِ- تُسمى "التأثيرَ المِعياريَّ".
وقد قام عالمُ النفسِ (سولومون آش) Solomon Asch في عامِ 1950 بإجراءِ تجارِبَ أكّدتْ هذا المبدأَ، ووجدَ بنتيجتِها أنّ الأفرادَ قد يقومون ببعضِ الأخطاءِ الغبيّةِ أحياناً عندما يتمّ تبنّي هذه الآراءِ الخاطئةِ من قِبلِ المجموعةِ المحيطةِ بالفرد.
من الملاحَظِ أنّ لكلِّ ثقافةٍ بشريةٍ أعرافَها المجتمعيةَ التي يتّبعُها معظمُ أفرادِها خوفاً من أن يبدوَ أحدُهم بمظهرٍ مختلفٍ، ولكن وفي حالاتٍ معيّنةٍ فإنّ بعضَ هذه الأعرافِ قد يكون مؤذياً بل قاسياً في بعضِ الأحيانِ. ومن أفضلِ اﻷمثلةِ على ذلك عادةُ ربطِ القدمِ الصينيةُ، حيث أنه ولمدةٍ تربو (تزيد) على ألفِ سنةٍ ابتداءً من القرنِ العاشرِ وحتى نهاياتِ القرنِ العشرين كانت تُربَطُ أقدامُ الفتياتِ في الصينِ في عمرِ الرابعةِ إلى السادسةِ، حيث تُلفُّ قدمُ الفتاةِ برباطٍ يجري تضييقُه بصورةٍ متصاعدةٍ حتى يؤديَ في النهايةِ إلى تحطيمِ عظامِ أصابعِ القدمِ وسحقِها إلى أن تصبحَ القدمُ أشبهَ بالحافرِ منها بقدمِ الإنسانِ، والهدفُ من هذه العمليةِ هو جعلُ قدمِ الفتاةِ قصيرةً لا تزيدُ عن أربعةِ بوصاتٍ، حتى تُلائمَ اﻷحذيةَ الصغيرة. وهذه العمليةُ برمّتِها مؤلمةٌ للغايةِ وقد تؤدي للأخماجِ، وهنالك كثيرٌ من الفتياتِ قضَينَ نَحبَهنَّ نتيجةً لذلك. ويعتقد باحثو التاريخِ أن هذه العمليةَ بدأت في الطبقاتِ العليا من الصينِ، وانتشرت بعد ذلك في كلِّ المجتمعِ حيث كانت ترمُز للانتماءِ إلى الطبقةِ الراقيةِ، ولم تَسْلَم منها سوى الفتياتُ في اﻷقاليمِ الفقيرةِ والأسرِ الفقيرةِ حيث تعمل الفتياتُ في الأرضِ والزراعة. ولم يتمّ التخلصُ من هذه العادةِ إلا في نهاياتِ القرنِ العشرين بعدَ الانفتاحِ على الحضارةِ الغربيةِ، حيث اندثرتْ تماماً بعد ذلك.
ماذا عن مجتمعاتِنا الحديثةِ؟
بالتأكيدِ نحن لا نربِطُ أقدامَ أطفالِنا، ولكن هل نتدخلُ على نحوٍ يعيقُ النموَّ الطبيعيَّ لهم بدرجةٍ ما؟
الإجابةُ الصادمةُ هي: نعم، نحن نفعل ذلك! فاﻷطفالُ بطبيعتِهم مهيَّؤون للنموِّ الجسديِّ والاجتماعيِّ والعاطفيِّ عن طريقِ اللعبِ والاستكشافِ الذاتيِّ مع أقرانِهم من الأطفالِ، وعلى مدى التاريخِ الإنسانيِّ ظلّ اﻷطفالُ يفعلون ذلك بعيداً عن تدخلِ البالغين. ويشكّل اللعبُ مصدرَ متعةٍ وتسليةٍ للأطفالِ، إضافةً إلى كونِه وسيلةً طبيعيةً تُعِدُّهم لأن يصبحوا أفراداً مسؤولين مستقلين وفاعلين اجتماعياً في المستقبل. ونرى أنه حتى ما لا يزيدُ عن 30 أو 40 سنةً مضتْ، كان الآباءُ يُخرجون أبناءَهم من المنزلِ كي يلعبوا مع أقرانِهم، ولكنْ في العقودِ القليلةِ الماضيةِ تغيرتِ العاداتُ والظروفُ الاجتماعيةُ باتّجاهِ منعِ الأطفالِ من اللعِبِ في الخارجِ، وهناك دلائلُ مقنعةٌ بأنّ تقييدَ حريةِ اﻷطفالِ سببٌ رئيسٌ للاكتئابِ والقلقِ والاضطراباتِ النفسيةِ الأخرى لديهم.
تُمارَسُ اليومَ ضغوطٌ مجتمعيةٌ ضخمةٌ على كلِّ والدٍ يتفهّمُ أهميةَ اللعبِ والاستكشافِ بحرِّيةٍ للأطفالِ من دون مراقبةٍ، وقد أدلى أحدُ الآباءِ بشهاداتٍ مدلولُها أنه يتفهم أهميةَ ذلك للنموِّ السليمِ للطفلِ، وأنه ﻻ توجدُ مخاطرُ كبيرةٌ في لعبِ اﻷطفالِ خارجَ المنزلِ، ولكنّ ذلك يكاد يكونُ مستحيلاً اليومَ ﻷنّ اﻷباءَ الآخرين لا يسمحون لأطفالِهم بالخروجِ للّعبِ، وحتى لو كان طفلُك يلعبُ خارجَ المنزلِ بمفردِه فأنتَ تتعرضُ لنظرةٍ سلبيةٍ ناقدةٍ من الجيرانِ كما لو كنتَ مهمِلاً في مراقبةِ طفلِك.
أحياناً تصبحُ اﻷعرافُ الاجتماعيةُ أولوياتٍ أخلاقيةً، وعندما يحدث ذلك يصبحُ من الصعبِ تغييرُها. والعُرفُ السائدُ اليومَ بضرورةِ الحمايةِ الشديدةِ للأطفالِ يجعلُك منبوذاً عند مخالفتِه.
قام باحثون في جامعةِ كاليفورنيا بنشرِ مقالٍ يوضّح كيف تشوِّشُ اﻷعرافُ الأخلاقيةُ على التفكيرِ المنطقيِّ، حيث أجرَوا تجرِبةً على أكثرَ من 1500 مشاركٍ من خلفياتٍ متباينةٍ، وطرحوا عليهم مجموعةَ قصصٍ عن أطفالٍ يُترَكُ الواحدُ منهم عمداً من قِبلِ والدَيه دون رقابةٍ لمدةٍ قصيرة. وطُلب من المشاركينِ أن يقيِّموا درجةَ الخطرِ الذي يمكن أن يتعرضَ له الطفلُ، فكانتِ الخلاصةُ أنّ ذلك خطيرٌ للغاية، وعندما تم تغييرُ الصيغةِ بأنْ تركَ الوالدان الطفلَ نتيجةً لحدثٍ طارئٍ لا يمكنُ تجنبُه، كانت إجابةُ المشاركين أنه ﻻ يوجدُ خطرٌ كبيرٌ على الطفل. وذلك بالطبعِ منافٍ للمنطقِ؛ فلو تركَ الأهلُ طفلَهم لوحدِه عمداً فلا بد من أنّهم واثقون من وجودِه في بيئةٍ آمنةٍ مهما كان الظرفُ. وبرّرَ الباحثون استجابةَ المشاركين المنافيةَ للمنطقِ بأنّ المشاركين وبدونِ وعيٍ منهم ضخَّموا الخطرَ في الحالةِ اﻷولى كوسيلةٍ للَومِ الوالدين على مخالفةِ ما يعتبرونه مبدأً أساسياً، وهو ضرورةُ مراقبةِ طفلِكَ في جميعِ الأوقات.
في الختامِ نودُّ أن نسمعَ بعضاً من آرائكم بهذا الشأن، وأن نرى مقترحاتِكم عن السبيلِ للتخلصِ من هذه اﻷعرافِ المُعيقةِ للمجتمعِ، وكيف نَعُودُ لنسمعَ صوتَ العقل؟
المصدر: