الفيزياء والفلك > علم الفلك
قصّةُ الهاتِفِ الذكيّ الأصليّ: الأسطُرلاب
تخيَّل جهازاً واحدًا يقومُ بالعديدِ مِنَ المَهام مِنْ أَجلِكَ؛ يُحدِّدُ لكَ الوقتَ والموقعَ الذي تتواجدُ فيه، حتى أنّهُ يُساعِدُك باتِخاذِ بعضِ القرارات، وكل هذا بلمسةِ يدٍ فقط. ربما يظن البعضُ أنَنا نَتحدَثُ عن جهاز آيفون 7، لكنّنا في الواقعِ نَتحدَثُ عن جهازِ الأسْطُرلاب، الجِهازُ مُتعدِد الوظائِف الّذي استُخدِمَ لِعدَةِ قرونٍ في أوروبا وفي الحضارَةِ الإسلاميّة قبل أن تَطغى الأجهزةُ الحديثة.
ابتُكِرَ الأَسْطُرلاب في ظلِّ الامبراطورية الرومانية المُزدهرةِ اقتصاديًا، ويعودُ أَصلُ كَلمةِ أَسْطُرلاب إِلى اللغةِ اليونانيّة، وترجمتُها الحرفيّةُ آخذُ النجوم، أي مقياسُ النجمِ Star-taker. وقد شَاعَ استخدامُهُ فِي أَنْحاءِ أُوروبا وَالعالمِ الإسلاميّ في القرنِ الثامنَ عشر، وما زالَ أثرُه حاضِرًا في أَجهزةٍ مُشابهةٍ في عصرِنا الحاليّ، كَالسّاعاتِ السويسريّةِ الفاخرةِ والمِسْطرةِ الحاسِبة.
يتكوّنُ الأسْطُرلاب من مجموعةٍ من الصفائحِ المُتحرّكة دائريةِ الشكل، والمحتواةِ ضمنَ صحنٍ يُسمّى الأم (mater). تضمُّ الأمُ قرصًا دائريّأ رُسِم عليهِ إسقاطٌ ثنائيّ الأبعادِ لخطوطِ العرض الجغرافيّةِ الأرضيّة. وفوقَ ذلك الصحن الأم، توجد صفيحةٌ دائريّةٌ أخرى تُسمّى بالشبكة (rete)، وتُشيرُ إلى ِمواقِع وأَسماءِ أشهرِ النجومِ في السماء. وفوق الشبكة، توجدُ مِسطرةٌ مُستقيمةٌ تدورُ حولَ محورٍ ثابتٍ مع قيمِ الزمن الموجودةِ على طولِ حافةِ اللّوحة الأم. وخلفَ هذا كلِّه، جهازٌ محوريّ يُساعدُ في قياسِ ارْتفاعِ النَّجْم، ويُشكّل عادةً نقطةَ بدايةِ إجراءِ الحسابات.
وبما أنّ منظرَ السّماء يتغيّرُ وفقًا لخطِ العرضِ الجغرافيّ في موقعِك، فإنّ الأَسْطُرلاب عادةً ما يحوي سلسلةً مِنَ اللوحاتِ المُرتبطةِ بِخطوطِ العرضِ المختلفة الّتي تقبعُ فوقَها المُدن الكبيرة.
ويقول جينغيريتش (Gingerich)، البروفيسور المُتقاعد المُختصّ بِعلِم الفَلك وتاريخِ العلوم من جامعةِ هارفارد:
"على الرّغمِ مِن أنّ الأسْطُرلابات تُصنَعُ مِن موادَ مُختلفة، إلّا أنّ مُعظمَ ما تبقّى مِنها بِحالةٍ سليمة إلى يومنا هذا هو تلكَ المزخرفةُ والمَصنوعةُ مِن النُحاس، والّتي ارتبطَت عادةً بِالنُخبةِ المُثقفةِ آنذاك". ويُضيف: "لقد كانت الأسْطُرلابات كشهادةِ الدبلومِ لطبيبِ الأسنان، يُعلّقها على الحائِطِ لِيضمن كونَهُ مختصًا ويعرِفُ كيفيّةَ استخدامِ هذه الأجهزة".
ووفقا لالكسندر جونز، الباحثُ في جامعةِ نيويورك والخبيرُ بعلومِ الفلكِ القديمة، فإن الأسْطُرلاباتِ المتبقيّةَ إلى يومِنا هذا هي فاخِرةُ الصّنع، في حين كانَت هناك أنواعٌ أخرى أقلُّ جودةً صُنِعَت لعامةِ النّاس، ولكِنها إِمّا تَلِفت أَو أُذيبت لاحقاً للاستفادةِ من معادِنها.
للأَسْطُرلاب استِعمالاتٌ عديدة، منها العلميّةُ ومنها الدينيّةُ، إذْ يمتلكُ تاريخاً عريقاً في الحضارةِ الإسلاميّة كَأَداةٍ مُساعِدةٍ لإيجاد القِبْلة وتحديدِ أَوقاتِ الصلوات الخمس. كما انتشر بين الأوروبيين خلالَ العصورِ الوسطى كأداةٍ فلكيةٍ تُساعدُ في اتّخاذِ القراراتِ وتحديدِ وقتِ خوض المعارك.
ولا تقتصر استخداماتُهُ على ذلك، فقد ساهَمَ هذا الاختراعُ في ظهورِ أساليبَ جديدةٍ في الرياضيات وتطوُّرِ عِلمِ الفلك الذي تطوّر بالتزامنِ مع التنجيم، وفقاً لما قاله جون هاث الفيزيائي في جامعة هارفارد. وأردف قائلا: "إذا ألقيْتَ نظرةً على تقويمِ النجوم آنذاك (Almanacs)، ستجِدُ أنّ هذا التقويمَ يُساعِدُ الفلكيين في حسابِ أماكِن الكواكبِ المستقبليّة، الأمر الّذي يزوّدُ المُنجّمين بالمعلومات التي تُهمُّهُم. وبِهذا، فإنّ التطوّر في مجالِ علم الفلك أتاحَ الفُرصةَ للمنجمّين كي يتنبّؤوا بمواقعِ الكواكبِ بشكلٍ أكثرَ دقة".
من الصّعبِ تحديدُ من قامَ بابتكارِ الأسْطُرلاب أولاً ومتى حدثَ ذلك، إذْ أنّ مُعْظَمَ ما كُتب عن الأسْطُرلابات الأولى كان على وَرَقِ البُردي الّذي تلف بالطبع. ورغم ذلك، فإنّ هناكَ دليلاً قوياً على أنّ بدايةِ الأسْطُرلاب كانت في عهدِ عالِمِ الفلك اليونانيّ كلاوديوس بطليموس(Claudius Ptolemaeus)، الّذي عاشَ في ظلِّ الحضارةِ الرومانيّة في القرنِ الثاني بعد الميلاد. ذلك أنّهُ أَورَدَ تسجيلاتٍ تَشيرُ إلى استخدَامِه لأداةٍ ثلاثيةِ الأبعادِ تُشبِهُ الأسْطُرلاب من أجلِ إجراءِ بعضِ الحسابات.
وبحسبِ بعضِ المؤرخين، فإنّ الأسْطُرلابَ هو أحدُ الأدوات الّتي يمكنُ أن يكون كولومبوس قد استخدمَها خلالَ رحلتهِ لاستكشافِ العالَمِ الجديد. إذ يُعتقدُ بأنّ البرتغاليين الّذين اعتمدوا على نجمِ الشمال (Polaris) لتحديدِ طريقهم، كانوا يستخدِمون الأسْطُرلاب بشكلٍ خاص عندما يقتربون مِن خطّ الاستواء حيثُ تصعبُ رؤيته. كما وُجدت الكثيرُ من الأسْطُرلابات في حطامِ السُفنِ الإسبانيّةِ والبرتغالية، ووُجدَ بعضُها على السّاحِل الغربيّ لإيرلندا.
تراجعَ استخدامُ الأسْطُرلاب بحلولِ القرنين السابعَ عشر والثامنَ عشر، وتلاشى اهتمامُ الناسِ بالتنجيمِ فتراجعت بالتالي حاجتُهِم للأسْطُرلابات بشكلٍ ملحوظ. وحلّت الساعاتُ الميكانيكيّة وآلةُ السدُس (جهاز تحديدُ اتجاه السفن) وغيرها من الأدواتِ المتوفرة آنذاك محلّه، فكانت أدقَّ و أسهلَ تداولًا، وبالطبع فقد حلّت الحواسيب الإلكترونيةُ محلّها جميعاً بعد ذلك.
أمّا هاتفُك، فيمكن أن تحوّلَهُ إلى أسْطُرلابٍ بغايةِ السهولة، فإذا قُمتَ ببحثٍ سريعٍ في متجر التطبيقاتِ في جوجل Google ستجدُ تطبيقاتٍ عديدة مِثلَ تطبيقِ تحديدِ القِبلة للآيفون مثلًا، والعديدِ من التطبيقات الّتي تقوم بمهمةٍ أو أكثرَ من مهامِ الأسْطُرلاب!
المصدر: