العمارة والتشييد > المدارس المعمارية
أقواسُ النصر - منذُ عصرِ النهضة وحتّى اليوم (الجزء الثاني)
تَحدثنا في الجُزء الأوّل عن أقواس النصر الرومانيّة وذكرنا أمثلةً لأبرزِها، سنتحدّث في هذا المَقال عن إِعادة استخدامها وتَوظيفها بالعمارةِ منذُ القرن الخامس عشر وليومنا هذا:
أقواسُ النصر هي منشآتٌ صرحيّةٌ شُيِّدت بهدفِ إحياء ذكرى نصرٍ ما أو تمجيداً للشخصيّات الهامّة أو للاحتفال بالأحداث البارزة، وشكّلت ما يشبه البوّابات الرّسمية التي خُصِّصت لمرور مواكب النصر بالمدن الرّئيسية، وارتبطت في ببداية نشأتها بالعمارة الرومانية.
التأثيراتُ اللّاحقة لأقواسِ النصر الرومانيّة:
أثّرت أقواس النصر الرومانيّة بوضوحٍ بالعمارةِ منذ القرن 15م، ولَم يقتصرِ الأَمر على إحياءِ وإعادةِ بناءِ النموذج الأصلي للنصب التذكاري، بل تعدّاه لاستخدام عناصرِ القوسِ بمنشآتٍ ذات وظائف مختلفةٍ كما في واجهة كنيسة San Francesco في Rimini بإيطاليا (1446م)، وكنيسة "St. Andrea" في Mantua بإيطاليا (1472م) وتتشابه فيها واجهةُ الدخول والصّحن الداخلي مع الهيكل العام لقوسِ النصر. وينطبقُ الأمر أيضاً على تصميم النوافير العامة، كما في نافورة Trevi في روما (1732م).
صورة: واجهة كنيسة San Francesco في Rimini
صورة: واجهة كنيسة "St. Andrea" في Mantua
صورة: نافورة Trevi في روما
ومن أبرزِ أقواس النصر التي بنيت مُنذ عصر النهضة نجد قوسَ الفونسو الاول (1453-1470م) في نابولي والذي يقع بين برجين مرتفعين، ويُشكل بنفس الوقت بوّابةً لقلعة Castelnuovo، وقوس Porte Saint-Denis وقوس Porte Saint-Martin وقوس Jean Chalgrin’s ، وجميعها في باريس، ويبقى قوسُ النصر الرباعي* Arc de Triomphe de l'Étoile في باريس (1836م) أحدَ أشهرِ أقواس النصر على مستوى العالم، ويقعُ بساحة النجمة وسط باريس، مشرفاً على شارع الشانزليزيه ، وأمر نابليون ببنائه تخليداً لانتصاره بمعركة Austerlitz ، ويقع أسفل القوس ضريحُ الجندي المجهول.
صورة: قوس الفونسو الاول في نابولي
صورة: قوس النصر بباريس
ومن الأمثلةِ الفريدة نجد قوسThiepval الثلاثي في مدينة Somme في فرنسا، والذي شيّد بعشرينات القرن العشرين تخليداً لذكرى الجنود البريطانيين المفقودين خلال الحرب العالميّة الأولى بمعركة سوم Somme، وفيه يَتراكب القَوس المركزي على القوسين الجانبين، ليبدو التكوين العام وكأنّه ناتجٌ عن تراكبِ مجموعةٍ من قطع اللوغو. يَبلغ ارتفاع القوس 45متراً وشيّدت جدرانه من الآجر الأحمر.
صورة: قوس Thiepval في Somme في فرنسا.
ومن الأمثلة المميّزة في بريطانيا قوسُ لندن الرخامي (1828م) وفي الولايات المتحدة الأمريكية قوس Stanford White بساحة واشنطن في نيويورك (1895م). وفي الهند قوسُ الحرب التذكاري (البوّابة الهندية) في نيودلهي.
صورة قوس لندن الرخامي
صورة قوس Stanford White في نيويورك
صورة البوابة الهندية
في القرن العشرين تمّ التحرّر من العديد من القواعدِ التي جعلتْ أقواس النصرِ متشابهةً، وسنستعرض تالياً ثلاثةً من هذه الأقواس:
1- برج آزادي – طهران:.
تزامناً مع مرورِ الذكرى السّنوية 2500 لقيام الإمبراطورية الفارسيّة، أمر الشّاه الإيراني في العام 1966م بتشييد نصبٍ تذكاريٍ لتخليد حُكمه والتباهي بازدياد الثروة الإيرانية الناتجة عن التنقيبات النفطية، وعُقدت لهذا الغرض مسابقةٌ معماريّة فاز فيها المعماري الإيرانيُّ الشّاب حسين أمانات بتصميمٍ مستوحىً من التّراث الفارسي.
ويذكّرنا الشّكل العام للنصب التذكاري بأقواسِ النصر، إذ يوجد مدخلٌ مركزيٌّ ناتجٌ عن اندماجِ قوسين: الأول جزء من قطعٍ مكافئٍ مستوحىً من آثار مدينة Ctesiphon التّابعة للإمبراطوريّة الفارسية بحقبة ما قبل الإسلام، والثاني قوسٌ مدبّبٌ مستوحىً من العمارة الإسلامية، وعمِد أمانات لاستخدام تراجعاتٍ من المُقرنصات المستوحاة من المثلثات الكروية المزخرفة squinches والمستخدمة في بناء القباب في الحضارة الفارسية القديمة، بهدفِ تسهيل الانتقال بين القوسيْن السابقين، واكْتمل بناءُ البُرجِ في العام 1971م.
صورة: برج آزادي
وللتغلّب على المصاعب التي واجَهت المشروع والمتمثّلة بالتّكوين المُعقّد للبرج ووقوعه ضمنِ منطقةٍ نشطةٍ زلزالياً، تم التعاقد مع مكتب Arup اروب الهندسي للقيام بالأعمال الإنشائيّة، وشيّد البُرج من الخرسانة المسلّحة المَصبوبة في المكان، وتم اكساؤه بقطعٍ من الرُخام الأبيض، ولا تكادُ تُوجد قطعةٌ مماثلة للأخرى، تبعاً لتعقيد القوس وانحناءات هيكلهِ الخارجي.
صورة: برج آزادي
يقعُ البرج بمركز ساحة طهرانَ العامة، إحدى أكبر ساحات العالم، بمساحة تقارب 12000 م2، كما يضمُّ المجمّع متحفاً تحتَ الأرض يحوي معروضاتٍ وتحفاً من التاريخ الفارسي.
قوس الثّورة التذكاري، المكسيك.
ظهر قوس الثورة التذكاري كنتيجةٍ لإعادةِ توظيفِ جزءٍ من منشأةٍ سابقةٍ لم يكتمل بناؤها، كان من المُفترض أن تشكّل مقرَّ القصر التشريعي المكسيكي. ووُضِع حجر الأسَاس للمشروع في العام 1910م. وبعد بناء جزءٍ من هيكل المبنى، توقّف العمل نتيجة الاضطّرابات الشّعبية. وأُهمل لعدّة سنوات ليبدأ بالتفكّك والخراب، ولإيقاف هذا، عُقِدت مسابقةٌ لتحويل قبة المجلسِ التشريعي إلى نصبٍ تذكاريٍّ للثّورة المكسيكيّةً. وفازَ مشروعُ المعماري الفرنسي اميلي بيرنارد، لتبدأ أعمال البناء عام 1933م وتنتهي في عام 1938م.
يبدو الشّكل الهندسيُّ الضّخم للمنشأة شبيهاً بالعمارة المكسيكية من مرحلة ما قبل الغزوِ الاسباني، ويتألّف من أربع دعاماتٍ من الخرسانة المسلّحة تحمِل قبةً نحاسيةً ترتفع 57 متراً عن سطح الأرض، كما استَخدم عناصِراً من طرازِ ارت ديكو المعماريّ، تمثّلت بالمنحوتَات الجاثمة على القبّة النحاسية والدعائم الحاملة.
يقعُ قوس الثورة بمركزِ ساحةِ الجمهورية، وخصِّص القبو كمتحفٍ ثوريٍّ يضمّ رفَات أبطال الثّورة المكسيكية.
قوس الثورة المكسيكية
قوسُ النصر في بغداد، العراق.
أمر الرئيس العراقي الرّاحل صدام حسن ببناء قوس النصر هذا احتفالاً بنصرهِ على إيران، ويتألّف القوس من قبضتينِ تقعانِ على جانبي شارعٍ رئيسيٍّ تحمل كل منها سيفاً، ويرتفِعُ السيفان عالياً في الهواء بوزن 24 طن، ويتقاطعان على ارتفاع حوالي 43 متراً، وقد صُنع السيفان عن طريق صهرِ وإعادةِ تشكيل بنادق الجنود العراقيين الذين شَاركوا بالحرب مع إيران، ويُساهم القوس بتحديد مداخل الطريق الإحتفاليِّ الجديد بوسط بغداد، من خلال وجود نسختين متماثلتيْن تقعان عند بداية ونهاية هذا الطريق.
صورة: قوس النصر في بغداد
وَمع استعراضنا للعديدِ من أقواس النصر منذ العصور الرومانية ولغاية يومنا هذا بمناطق مختلفةٍ حول العالم، نستنتج الأهميّة الرمزية التي حَظيت بها أقواس النصر بأذهان وفكرِ الشعوب، فمن خلالها تُخلَّد ذكرى انتصارات أجدادهم العسكرية، ومن يدري! قد يأتي يومٌ نبدأ فيه بتشييدِ أقواسٍ لتخليدِ ذكرى اكتشافٍ علميٍّ، أو مسعىً نحوَ السّلام.
* القوس الرباعي: منشأة صرحية تتألف من قوسين متقابلين يتعامدان مع قوسين آخرين.
المصادر:
www.war-memorial.net/Baghdad-Monuments--Hands-of-Victory-1.87