المعلوماتية > برمجيات
ماذا لو صَمَّمتِ الخوارزميّاتُ قاعةً للحفلات! Elphi - القاعة الألمانية المُذهلة
لعلَّ الأمرَ الأشدّ متعةً في قاعةِ الحفلاتِ الموسيقيةِ -Elbphilharmonie- التي افتُتحتْ مُؤخراً من قِبَلِ De Meuron وHerzog، والتي دُعيت اختصاراً بـ Elphi، لم يَكن واجهةَ المبنى التي على شكلِ موجةٍ ترتفعُ فوقَ مدينةِ Hamburg بألمانيا، ولم يَكنْ المصعدَ الذي يَنحني بِلطفٍ في رُدهاتِ المسرحِ لينقلكَ إلى قلبِ مشهدٍ مدهشٍ لسحرِ الهندسةِ المعماريةِ السويسرية، ولا حتى تلكَ الأدراج التي صُمِّمتْ وفقَ نمطِ Escher (وهو فنانٌ هولنديٌّ شهير 17/1/1898 - 27/3/1972) والتي تنقلك من طابقٍ لآخر، بل هو القاعةُ المركزيّة؛ كهف ٌعاجيٌ لامعٌ كوِّن من عشرةِ آلافِ لوحٍ صوتيٍّ فريد يَصطفُّ على الأسقفِ والجدران؛ تبدو الصّالة مُتناسقةً وكأنّها شُعَبٌ مرجانيةٌ متحدةُ اللون، أَخرجَها إلى الحياةِ إنجازٌ تقنيٌّ فذّ.
القاعةُ المركزيّة -أكبرُ القاعاتِ الثّلاث- هي نتاجُ تصميمٍ معياريٍّ يستخدمُ فيه المصمّمون الخوارزمياتِ لتطويرِ عمليةِ تكوين المكوّنات المطلوبة؛ إذ تُساعدُ الخوارزميات عموماً في تصميمِ الجسور وقِطعِ غيارِ الدرّاجات الناريّة والمحارف وحتى المقاعد.
وبتتبُّع التّاريخ المعماريّ؛ يتضّح لنا أنّ العاملين في مجال الصوتيات المعمارية والمختصين بالقاعات رفيعةِ المستوى وعاليةِ التكاليف، عادةً ما يكونون أكثرَ عُرضةً للمخاطر من أولئك العاملين في عالم الهندسة المعمارية.
لكنّ تُرافق بعض الميزات هذه المخاطر؛ فتلك الميزانيات الكبيرةُ يمكن أن تُستخدَم لتطويرِ حُلولٍ صوتية؛ إذ أثبتت تلك المجازفةَ أثبتتْ قدرَتَها على تحقيق نهضةٍ حقيقية، فقد أصبح المختصون أكثرَ قدرةً على التّعامل مع المساحات بأبعادها الكاملة ليشمُلوا بذلك الجوانبَ الجماليّة والتقنية، وليُحقِّقوا تكاملاً بين المعالجة الصوتية والهندسة المعمارية.
ذلك أنَّ علم الصوتيات المعمارية يعودُ لقرابةِ المئةِ عام، فقد بُنيت القاعات الموسيقية في أوائل القرن العشرين عن طريق الاعتماد على التخمين على نحو أساسي، وتميّز البعضُ منها -كما هو الحال في Musikverein في فيينا- بكونه الأفضلَ من الناحية الصوتية، وكَثُرت الأسئلة عن سبب ذلك.
في البداية جاء بعض الفيزيائيين مثل Wallace Sabine بمعادلاتٍ رياضيةٍ لشرح ظواهرَ صوتيةٍ معينةٍ كما هو الحال مع ظاهرة الصدى.
وعلى الرغم أنَّ النماذجَ الرياضيةَ الأوليَّةَ اعتمدت على الحجم والمواد المكوِّنة للمكان، لكنّها لم تأخذ بعين النظر شكلَ الجدران، ونتيجةً لذلك فقد بُنيت قاعات الحفلات الموسيقية بسقوفٍ منخفضةٍ وعرضٍ كبيرٍ بينَ الجدران (غالباً ما كانت على شكل مروحة) لانخفاض التكاليف وتحقيقِها النسبيِّ للمقاييس الرياضية.
إلا أن تلك القاعات لم ولن تكونَ ناجحة، لأنها ببساطة لم تأخذ هندسة القاعة بحُسبانها، ولِنكونَ عادلين؛ لا بُدَّ من الاعتراف بأنَّ الأدواتِ المطلوبة لم تكن قد طُوِّرت بعد، فهذا المجالُ برُمَّته لم يزدهر فعلاً إلا مع بدء عهد التقنية الرقميّة، إذ تستطيعُ النمذجة الرياضية باستخدام الحاسوب أن تتوقّعَ الحالة الصوتية للقاعة قبل بنائها.
احتاج الأمرُ ما يقارب خمسين عاماً للوصول إلى القدرة على تصنيف القاعات الموسيقية وتحديد نسبةِ نجاحِها، لأنه في هذه السنين؛ شَهِدت القاعاتُ عدداً لا يُحصى من الزوار والتسجيلات والتحليلات الصوتيةِ والاختبارات، وقد خضعتْ في كثيرٍ من الأحيان لعددٍ من الآراء المتناقضة.
وبالعودةِ إلى هذا البناءِ المعماريِّ المُذهل؛ استَخدم Herzog وDe Meuron الخوارزمياتِ لتحقيقِ تصميمٍ مُميَّزٍ لكُلِّ هذه الألواحِ الصوتية الليفية المصنوعةِ من الجبس، والتي يبلغُ عددُها عشرةَ آلافِ لوح، لتُبطِّنّ جدرانَ القاعةِ المركزيّة وكأنّها أجزاءٌ متداخلةٌ من لغزٍ متموّجٍ عملاق.
يبدو الأثرُ مُدهشاً من ناحية المظهرِ الخارجي؛ ذلك أنّ اندماجَ هذه الألواح يَجعلُها تبدو وكأنّها أمواجٌ متلاطمةٌ بلونٍ أبيضٍ فاتحٍ يتخلّلها ألفان ومئةٌ وخمسونَ مَقعداً، وألفٌ من المصابيحِ الزجاجيّةِ اليدويّ،إلّا أنَّ الجمالَ لمْ يَكُن إلا جزءاً يَسيراً مِن المقصد النهائي، فكُلٌّ من تلك المقاعد لا يبعُد أكثرَ من ثلاثين متراً عن قائد الأوركسترا، و ذلك في سبيل الوصول إلى توازنٍ صوتيٍ أمثلي وتحقيق تجربةٍ صوتيةٍ مُدهِشة.
"أما تلك الألواحُ فلكلٍّ منها وظيفتهُ" هذا ما صرّحَ بهِ Benjamin Koren؛ مُؤسِّسُ One to One، الاستديو الذي يَعملُ مع Herzog وDe Meuron لتصميمِ و صناعةِ الألواح.
تُمثِّلُ هذهِ الألواح -والتي يبلغُ عددها عشرةَ آلاف- مِليونَ خليّة، وهِيَ حُفَرٌ تبدو وكأنّ شَخصاً يَستخدِمُ صَدَفةً لِيَقتطعَ كُتَلاً صغيرةً من مادةٍ خامْ. صُمّمت هذهِ الخلايا -التي تتراوحُ جميعُها بين 4 و16 سنتيمتر– لتكوّن الصّوتَ ضمنَ القاعةِ المركزيّة؛ ذلك أن حجمها وعمقها وزاوية كلٍ منها يتأثر بموقعها في القاعة ومدى قربها من الأوركسترا والحضور.
يشرحُ Koren عن آليةِ تَصميمها فَيقول: "عِندما تَصطدمُ الأمواجُ الصوتيّة بلوح ٍما، سيمتصّها السطحُ المتفاوتُ أو يشتتِها، ولنْ يمتصّ أيُّ لوحينِ الأمواجِ الصوتيّة أو يشتتها على نحوٍ متشابه، بل إنّهما سَيعملان معاً على إصدار صدىً متوازنٍ عفيالقاعةِ بأكملِها".
لتصميمِ هذه الألواحِ الصوتيةِ الفريدة؛ عَمِل Herzog وDe Meuron معَ مُهندس الصوتِ الشّهير Yasuhisa Toyota، الذي وضعَ الخريطةَ الكاملةَ للحصولِ على الصوتِ الأمثلِ في القاعةِ الكبيرة.
اعتماداً على الهندسةِ المُتَّبعة في هذهِ القاعة؛ صَمَّم Toyota الألواح، كلاً منها بطريقةٍ معينةٍ حسب موقعها، فالألواح التي تكوّن الجدار الخلفي للصالة، تحتاج إلى تجاويفَ أكبرَ وأعمقَ لتمتصّ الصدى. بينما المناطقُ الأخرى -كأسطحِ الأسقفِ التي تكون خلفَ العاكسِ الضّوئي، والأجزاءِ العُلويّة من الأسوار- فتتطلبُ خلايا أكثرَ تسطحاً.
إلا أنَّ للمهندسين المعماريّين أولوياتُهم الخاصّة؛ فعلى الأسطحِ الخارجيّة أن تُظهِرَ تَناسقاً في القاعةِ بغضّ النظرِ عن المتطلباتِ الصوتيّة، و أن تكون جميلةَ المظهرِ وأن تُراعي الجمهور (أي أن تتمتعَ جميعُ الألواحِ التي في مُتناولِ اليد بتجاويفَ ناعمة).
بأخذِ المتطلباتِ السّابقة كمعايير؛ طوّر Koren خوارزميّةٍ لإنتاجِ عَشرةِ آلافِ لوحٍ، يَتمّيز كلٌٌ مِنها بأسلوب ونموذجٍ فريد، صُمِّمت لإظهارِ المواصفاتِ الجماليّةِ والصوتية. "تنبثقُ قوّةُ التصميمِ من دقّة المعادلات المستخدمة"، يُتابع Koren قائلاً: "وما دام كُل شيءٍ في مَوضعه الصّحيح، أستطيعُ بِبساطةٍ تكوين مليونِ خلية؛ إذ أنَّ كُلاً منها تختلفُ عنِ الأُخرى وجميعُها يَعتمد على هذه المعايير. فأنا أمتلكُ القدرةَ على التّحكمِ المطلقِ بإنشاءِ الخوارزمية، ومن ثمّ لا أمتلكُ أيّة إمكانيةٍ أخرى للتحكُّم".
بالنسبةِ إلى بعضِ المصمّمين، فإن فكرةَ التّخلي عن القدرةِ على التّحكم تبدو مَشهداً مُخيفاً. يَقولُ Koren: "إنَّ فِعلَ كلِّ ذلك يَدويّاً سَيكونُ أمراً جُنونياً". وإنّ النتيجةَ ستكونُ رُبّما أقلَّ إبداعاً. إذ يُنتِجُ المصمّمون دوريّا أشكالاً فريدةً ناتجةً عن استخدامهم للخوارزميّات؛ فهذهِ الألواحَ المعقّدة الفعّالة الساحرة في Elbphilharmonie ليست إلا آخرَ الشواهدِ على إمكانية الخوارزميات المُدهشة.
--------------------------------------------------------------------------------
المصادر: