الفنون البصرية > سلسلة تاريخ الفن
سلسلة تاريخ الفن: الفن الروماني الكلاسيكي ج1
كان للإمبراطورية الرومانية شأنٌ كبيرٌ في العصور الكلاسيكية، وقد أحرزت تفوقًا كبيرًا بشتى المجالات العسكرية والهندسية والفنية. في هذا المقال سنأخذكم برحلة إلى روما في العام 510 ق.م والفنّ الذي كان سائدًا بها آنذاك.
المقال:
لاشكّ أن الامبراطورية الرومانية كانت أقوى أمّةً على وجهِ المعمورة لقرونٍ عديدة مُحرِزة تفوقاً على باقي الأمم في المجالات العسكرية والهندسية والمعمارية والفنية. ولكن الحديث عن الفنّ الرومانيّ واسعٌ جداً يمتدّ لقرابةِ الألفِ عام ويطالُ القارّات الثلاث، إذ يعود ل 509 عام قبل الميلاد مع ظهورِ الامبراطورية الرومانية ليدوم لـ 330 عامًا بعد الميلاد أو أكثر إن شملناه مع الفنّ البيزنطيّ. إذ يشملُ الفنّ الروماني كلٌّ من الرسمِ والنحتِ والفسيفساء وأشغال الفضة والبرونز.
ولم يتردد الرومان عن التكيف مع التأثيرات الفنية بالثقافات المتوسطية المحطية بهم وبالثقافات التي سبقتهم أيضاً، إذ يسهل ملاحظة التأثيرات اليونانية والمصرية والأتروسكية في فنِّهم لكن هذه لا يعني أن الفن الروماني مشتقٌّ من غيره رغم كون ذلك واحدًا من التحديات التي تواجه المختصين لتحديدِ ماهو "رومانيٌّ" في الفنّ الروماني.
لم يؤمن الرومان، كما نفعل اليوم، أنه ليس بأقل أصالة وقيمة صنعُ نسخةٍ مطابقة أو مشابهة لعملٍ فنيٍّ ما. فالنسخ اللاتي قاموا بصنعها لم تكن نسخًا طبق الأصل بل احتوت على الكثير من الاختلافات والإضافات كإضافة بعضاً من حسّهم الفكاهيّ للأعمالِ الفنيّةِ المنسوخة. فخلال حكم ملوك الأتروسك بزغ مايُسمى بالفن الاتروسكي (جداريّات وتماثيل وأشغال معدنيّة) أما خلال المرحلة الجمهورية في العام 500 قبل الميلاد، أي ما قبل تأسيس الإمبراطورية، تضاءل التأثير الإتروسكي على الفن الرومانيّ لكنه بقي موجهاً لخدمة الدولة ممجِّدًا التضحيات الشعبية ومحتفلاً بانتصارات الحَملات العسكرية. وأصبحت الجمهورية الرومانية على علاقات مع المدن اليونانية المزدهرة ليتأثر بذلك الفنّ الرومانيّ بالفنّ الإغريقيّ لتنتقل على إثرها العديد من الأعمال الفنية والفنانين لروما. وحرصَ الأبطالُ عندَ تصويرِهم بالأعمالِ الفنية على الظهورِ حليقي الرأس بأنوفٍ كبيرة والكثيرِ من التجاعيد للدلالة على تفانيهم في خِدمة الأمة. لكن عند الانتقال لمرحلة الامبراطورية انتقل الفنُّ لمَهمَّة تبجيلِ الحاكم وعائلته لذلك ارتبطت أسماء مراحل الفن الروماني الكلاسيكي بمراحل حكم قادة الامبراطورية وسلالتهم الحاكمة.
فعند وصف الفن الروماني بـ "الكلاسيكيّ" نعني بذلكَ تأثيراتُ الفنِّ اليونانيّ عليه خلال المرحلة الكلاسيكية والهلنستنية. فالسّماتُ الكلاسيكيةُ تكمُنُ بالخطوط الانسيابيّةِ والستائرِ الأنيقة والأجسام العاريةِ المثاليّةِ والأشكال الطبيعية المصوَّرةِ بدقّةٍ، والنِّسَب المتوازنة التي أتقنها الإغريق على مرِّ قرونٍ من الممارسة.
فخلال حكم سلالة أوغستوس و يوليو كلاودين عمل الرومان على تبني النمط الكلاسيكي في الفن. فتمثال Augustus of Primaporta صُنِعَ في أواخر حياةِ أوغستوس إلا أنه صُوّرَ بكامل شبابه وقوته وبشكلٍ مثالي تماما أقربُ للكمال.
أما الامبراطور هادريان الذي عُرِفَ بحبِّهِ لكلِّ ماهو إغريقيّ فكان لديه نُسَخ فسيفسائية من أشهر اللوحات الأغريقية كلوحةِ Battle of the Centaurs and Wild Beasts للفنان الإغريقيّ المعروف Zeuxis.
انتقل الفن الروماني الامبراطوري خلال مدة حكم سيفيرين بعيداً عن التأثيرات الإغريقية متحولاً لفنِّ أواخرِ العصورِ الكلاسيكية والذي تميّزت خصائِصَهُ بصلابةِ الوَقفة وعُمقِ الخطوط المحفورة وابتعادِهِ عن الواقعيّة ووجود نسب وكونه أقل تركيزاً على فردية العمل وغالباً ما تمّ تصوير الشخصيات المهمّة بحجمٍ أكبر أو بتموضعها فوقَ بقية الشخصيات المصوَّرة للدلالة على أهميتها. ففي ألواحِ الحفرِ النافر من قوس Septimius Severus في مدينة لبتسيس ماغنا الليبية الرومانية يظهرُ سيفيروس (الإمبراطور الروماني الحادي والعشرون) وأولاده كراكالا وجيتا وهم في مركبةٍ حربيّةٍ موسومين بلباسِ بحريّ مختلفٍ عن باقي الشخصيات المتكررة التي ترتدي قماشًا ذي تصميم واحد مسطح. فنرى سيبتيميوس متوسطًا ابنيه وأطول قليلاَ في حين تتوجهُ باقي عيونُ الشخصياتِ نحوَه.
أما في فترة حكم قستنطين فقد استمر الفنُّ في تبني خصائصَ فنِّ أواخرَ العصورِ القديمة لكن بتطوّر أكبر. ففي لوحِ قوس قستنطين تظهر الشخصيات متماثلةَ جاثمة لا وجودَ للواقعيّةِ فيها تنقلُ رسالةً واضحة أن من في السلطة هو قستنطين.
دعاية الفنّ:
امتاز الفن الروماني الأول (من الفترة مابين 510-27 قبل الميلاد) بنزعته الواقعيةِ المباشرة، فاتَّسمت اللوحاتُ ثنائية وثلاثية الأبعاد بتفاصيلَ نمطية بعيدةً عن المثالية. ففي أواخر العصر الروماني الهلنستي (27 قبل الميلاد-200 ميلادي) أدرك الرومان قيمةَ الدعاية التي تحملها التماثيلُ الكاملة والنصفية فسعَوا من خلالها لنقل رسائلَ سياسية عبر وقفات التماثيل وتفاصيلها واكسسواراتها. وأولى الرومان نفس الأهمية للنحوت النافرة ولوحات النصر أيضاً. فالفن الروماني الواقعيّ يعاكس تماماً نظيره الهِلنستي الذي اتسم بإضافة التصوير الأسطوريّ للعمل الفني. ولعل أحد أسباب سقوط الامبراطورية الرومانية تعلّقها المفرَط بالقيمةِ الدعائية لفنّها إذ تمّ هدر الكثير من المواردِ لبناءِ مشاريعَ مُكلفةٍ جداً بغية إبهار الناس. فعلى سبيل المثال استحوذت عملية بناء حمامات دقلديانوس (298-302) على الطوب المُصنَّع في روما عدة سنوات.
الرسم
يعد تصويرُ المناظرَ الطبيعيةِ وتطويرها أهمّ ابتكارٍ جاءَ بهِ رسامو الرومان بعكسِ نظرائهم اليونان الذين أبدوا اهتمامَا ضئيلَا بهذا المَذهب في الرسم. ويجدر بالذكر أيضاً تطويرهم لشكل بسيط جداً للمنظور الخَطي. كل هذا جاء لتلبية الطلبِ الواسعِ على اللّوحاتِ الفنّيةِ في جميعِ أنحاءِ الإمبراطورية، بمن فيها عامّة الشعب فأنتج رسامو الرومان لوحاتٍ مرسومةً بالشمعِ أو بالتمبيرا (طريقةُ تلوين تخلط بها الأصباغ بصفار البيض) وجداريات كبيرةً وصغيرة الحجم وجداريات زيتية (على الجص)، متقنينَ بذلك كل مذاهب الرسم إلى جانب تميزهم برسم انتصاراتهم التاريخية. ولعل لوحات مدينتي بومبيي وهيركولانيوم أهم ماوصلنا من لوحات الرومان فأغلبها لوحات زيتية تزيينة تصورُ مشاهدَ طبيعيةٍ بحرية وريفيّة رسمَها مزخرفون مَهَرة. وقد أدّى فقدان الوثائق كالعقود والرسائل إلى ضياع تاريخِ فناني الرومان لذا يشار للفن الروماني بشكلٍ عامٍّ دونَ ذكر أي فنان بشكلٍ فرديّ.
الرسم على الألواح
كما اليونان، يعد الرسم على ألواحٍ خشبيةٍ كاملةٍ أو مُركبةِ أنبلُ شكلٍ للرسمِ عند الرومان إذ تمّ إنجازُها باستخدام الشمع أو التمبيرا وبأعداد ضخمة لتزيين المكاتب والمباني العامة في الامبراطورية. لكن لسوء الحظّ تمّ فقدان أغلب هذه الألواح وتعد لوحة "Severan Tondo" للإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس وعائلته أفضلُ مثالٍ وصل من العصورِ الكلاسيكيةِ القديمة بالإضافةِ لسلسلةِ لوحة مومياء الفيوم المرسومة في مصر خلال حكم الامبراطورية الرومانية.
لوحات وأقواس النصر
كثيراً ما كُلِّفَ فناني الرومان بإنجاز لوحاتٍ تسلطُ الضوءَ على الإنجازاتِ العسكريةِ وعرفت باسم "لوحات النصر" وفي هذا النوع من الرسم التاريخي تم استعمال التمبيرا على الجص وبه صوِّرت المعارك والحملات بأدقِّ تفاصيلها، ويُمكنُ أن تحتوي على وسائط مختلطة mixed media أو تصاميمَ لخرائطَ وذلك لإقناعِ الشعبِ وتوعيتِه. ولمّا كان أنجازُها سريعاً، فقد ساهمت لوحاتُ النصرِ هذه بالتأثير على تصنيعِ النحوت التاريخية كـعمود كارموس آوريليوس Column of Marcus Aurelius وأقواس النصر التي صُممت تخليدًا لذكرى انتصارٍ ما.
المصادر: