الفيزياء والفلك > علم الفلك
المناضل الّذي جعل من تشيلي جنّة للفلكيّين
لدى البروفيسور هيرنان كينتانا غودوي Hernán Quintana Godoy طريقةٌ أخرى في التّأمل. فهو ينظر إلى الماضي عبرَ النّجومِ البعيدة في حين أنَّه ينظر إلى مستقبلِ علمِ الفلكِ في موطنه، تشيلي. لطالما كان البروفيسور هيرنان مناضلًا جعلَ عِلمَ الفلك يصِلُ إلى ما آل إليه حاليًّا في تشيلي. واليوم تَحتضِن تشيلي أحدَ أكبرِ المراصد في العالم كلِّه!
تلقّى البروفيسور جائزةَ التّعليمِ من المجتمع الفلكيَّ الأمريكيِّ "American Astronomical Society"، وهو أوّلُ شخصٍ من أصلٍ غير أمريكيٍّ أو كنديٍّ يتلقّى هذه الجائزة.
يقول أحد رؤساءِ المجتمع الفلكيِّ الأمريكيّ، وأحد المسؤولين عن تسليم جوائز التّعليم كيلي فينكلشتاين Keely Finkelstein: "إنّ تعليم الأجيال القادِمة وتلقينهم علمَ الفلكِ يجب أن لا يكون حصراً على بضعةِ دولٍ فقط" ويتابع قائلاً: "لطالما كان هيرنان مُدافعًا عن قضيّةِ تأسيسِ برامجَ علميّةٍ وبحثيّةٍ في تشيلي بدون كلل."
حصلَ هيرنان على لقبِ الدّكتوراه في عام 1973 من جامعةِ كامبريدج University of Cambridge في المملكة المتّحدة. وفي العام نفسه، قامت مجموعةٌ عسكريّةٌ بتولّي الحكم في تشيلي عن طريقِ انقلابٍ عسكريّ! وعند عودته إلى بلاده، أمّنَ هيرنان لنفسه مقعداً في التّعليم في جامعةِ تشيلي University of Chile. في ذلك الوقت، كانت أبحاثُ العلماءِ التّشيليّين مُنصبّةٌ على الأساسيّاتِ الفلكيّةِ، أي على حساب الإصدار الشعاعيِّ للنّجومِ وعلى مواقعها في الكون. وبدت فكرةُ البروفيسور في "البحثِ في الظّواهرِ ذاتِ الطّاقةِ العاليةِ" فكرةً مُتطرِّفةً!
بعد سنةٍ ونصف من عملِه في الجامعة، غادر هيرنان تشيلي مجدَّداً. هذه المرة كانت وجهته أمريكا، حيثُ تلقّى عرضاً ليُتابعَ دراستَه لنيلِ درجةِ ما بعدَ الدّكتوراه. وخلال دراستِه هناك، كتب هيرنان رسائلَ عدةً إلى بلادِهِ يُشجّعُ فيها تشيلي على الاستفادةِ أكثرَ من المراصدِ الدّوليّةِ الموجودةِ على أرضها بالفعل، مؤكِّداً على أهميّة تخصيصِ أموالٍ حكوميّة من أجل إنشاء بيئةٍ تُحَفِّزُ الطّلّاب المُغتربين على العودة إلى بلادهم. لكن لم تلقَ رساِئله إعجاباً كبيراً في جامعة تشيلي.
يقول هيرنان: "كتبتُ إحدى الرّساِئلِ إلى مجلةٍ كانت معارضةً لنظام الانقلاب في تشيلي. وجاء ردُّ المجلة في العدد التّالي، صفحةً سوداءَ وبوسطها كلمةُ "لا" بالأحمرِ، في إشارةٍ لرفضها الاستفتاءَ القادمَ في تشيلي. وفُصِلَ هيرنان عقب ذلك من موقِعهِ في جامعة تشيلي.
بعد أن أكمل دراستَه في أمريكا، أصبحَ هيرنان باحثاً مساعداً متجوّلاً في أوروبا وأمريكا وكندا. بعد ذلك وفي العام 1981 عاد هيرنان مجدّداً إلى بلاده ليُدرّس في معهد الفيزياءِ في الجامعة الكاثوليكيّةِ البابَاويّةِ في تشيلي Pontifical Catholic University of Chile. تابع هيرنان التّعليمَ في الجامعة نفسها ليبدأ بعدها بوضعِ دوراتٍ اختياريّةٍ في علم الفلك، والفيزياء الفلكيّة للمجرّاتِ وحركيّةِ العناقيد. تولّى فيما بعد رئاسةَ مجموعةٍ فلكيّةٍ صغيرةٍ. هدفه كان تشجيعُ الطّلّاب لتوسيع آفاقهم وذلك بتعيين أساتذةٍ من تشيلي ومن الخارج وأيضاً بإرسال الطُّلّاب بعثاتٍ إلى الخارج.
تقول أميليا راميرز Amelia Ramirez: "استطعت بفضله الاستفادة من المراصد الكبرى في تشيلي واستطعت تكوينَ منظورٍ عالميٍّ عن البحث منذ بداية حياتيّ المهنيّة." أميليا درست مع هيرنان في العام 1983 وهي اليوم اختصاصيّةٌ في تفاعل المجرّاتِ الإهليلجيّةِ وهي أيضاً رئيسةُ قسم الأبحاث والتّطوير في جامعة لاسيرينا في تشيلي University of La Serena.
كتب هيرنان في منتصفِ ثمانينيّات القرنِ العشرين نصَّ عددٍ من حلقاتِ برامج التّعليمِ عن بعدٍ والّتي عُرضت على شاشةِ تلفاز جامعته آنذاك. تحدّى هيرنان في تلكَ الحلقاتِ متابعيه بالبحث في مواضيعَ متقدِّمةٍ. يقول هيرنان: "قدّمتُ للمتابعين حلقتين عن نظريّةِ النّسبيّةِ، هذا الأمر كان صدمةً للمتابعين. إذ أنّهم أحبُّوا الموضوعَ لدرجةِ أنّي كتبت كتاباً كاملاً عن هذا الموضوع."
تشاركت المحطّةُ التّلفزيونيّةُ مع عددٍ من الجامعاتِ والمعاهدِ التّعليميّةِ عبر تشيلي لتُقدِّمَ للمتابعينَ فرصةَ الحصولِ على درجةِ الدّبلومِ عن طريقِ امتحانٍ كتابيٍّ مُرتكزٍ على المادة التّعليميّةِ المعروضة على التّلفاز. تلقّى المسؤولون عن البرنامجِ أكثرَ من 5000 طلباً، خلال فترةِ البرنامج المحدودةِ والّتي كانت أربعَ سنواتٍ.
يقول أليخاندرو كلوشياتي Alejandro Clocchiatti: "ما يُميّزُ هيرنان هي رؤيته الاستراتيجيّة وإبداعه في تحويل المشاريع إلى واقع، فكلُّ ما يفعله يفعله بحماسٍ وتصميمٍ؛ حتّى وإن لم تجرِ الأمور حسبَ المُخطَّطِ. لا يُمكن التَّغلُّبَ على تفاؤله." الجدير بالذّكرِ أنّ أليخاندرو عملَ أكثرَ من عشرين عاماً مع هيرنان.
كان لهيرنان على مدى السّنينِ دوراً في تحديدِ أماكِن المقاريب الجديدةِ في تشيلي. ففي العام 1994، قاد هيرنان حملةً لتحديدِ موقع المِقرابِ أتاكاما Atacama Large Millimeter Array. خلال تلك السنين، لم يتخلَّ هيرنان عن كفاحِه في نشر علم الفلك في تشيلي، إذ أنَّ الجامعةَ الكاثوليكيَّةَ الباباويّةَ في تشيلي استجابت في العام 1998 لرساِئلَ وخطاباتِ هيرنان، وافتتحت قسماً لتدريسِ علم الفلك فيها، لِتتبع خُطاها فيما بعد العديدُ من جامعات تشيلي.
اختتم هيرنان سيرتَه المهنيّةَ بالتّقاعدِ قبلَ ثلاثِ سنواتٍ. كفاحُه أثمرَ عن رفعِ عددِ الباحثينَ الفلكيّينَ في تشيلي من 25 مدرِّساً مع طلابهم إلى أكثرَ من 800 مدرِّساً وبروفيسوراً وطالباً في نهاية تسعينيّاتِ القرن العشرين.
يتأمّلُ هيرنان رؤيةَ الاكتشافاتِ الجديدةِ الّتي ستقومُ بها الأدواتُ الفلكيّةُ الجديدةُ. إذ يُتوَقَّعُ أن يُؤمِّنَ المِقرابُ الأوروبيُّ الكبيرُ صورًا أوضحَ بـ 16 مرّةً من الصّورِ الّتي قدّمَها مِقرابُ هابلَ الفضائيُّ. المقرابُ حاليّاً قيدَ البناءِ في Cerro Armazones في صحراءِ أتاكاما شماليّ تشيلي. هناكَ مشروعٌ آخر أيضًا هو مصفوفةُ مقاريبِ شيرينكوف Cherenkov Telescope Array، الّتي تَضمُّ 99 مِقرابًا عبر تشيلي مُشكِّلةً معاً أكثرَ مقاريبِ رصدِ أشعّةِ غامّا حساسيّةً في العالم. معًا ستُمكنُنا المنشأَتَين من النّظرِ إلى أعماقِ الثّقوبِ السّوداءِ والأغلفةِ الجويّةِ للكواكب خارجَ المجموعةِ الشّمسيّةِ بالإضافةِ إلى البحثِ في أصلِ الجُسيماتِ الكونيّةِ.
يقول هيرنان: "كل شيءٍ في كونِنا يتغيّرُ، ونحن ورثةُ ذلك التّغيّرِ البنيويِّ."
المصدر: