التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية
الصراع بين العرش والمعبد في مصر القديمة
لم يكن صراع النفوذ بين العرش والمعبد أمرًا جديدًا في الممالك الحديثة بل يبدو قديمًا قدم الحضارات الأولى وبداية تشكيل الأنظمة الاجتماعية والتاريخ القديم... اخترنا لكم صراع العرش والمعبد في مصر القديمة بوصفه أحد هذه الصراعات... قراءة ممتعة
عُبدت الآلهة في مصر القديمة كخالقة ومحافظة ع الحياة كلها، فقد اعترف الناس يوميًا بتفوق الآلهة وتآلفها من خلال أداء الطقوس والتمائم وأعمال الملك. فالجميع من المزارعين إلى الحرفيين والتجار والنبلاء والكتاب وحتى الملك راقبوا أعمالهم كلٌ بطريقته الخاصة ليمجد الآلهة، إلا أن الصورة الأساس لتلك الطقوس وفهمها يأتي من الكهنة.
كان الاعتقاد السائد آنذاك في مصر أن الكهنة على صلة خاصة بالآلهة وعملهم الأساس هو العناية بالإله الذي يعبدون. لم يرأس الكهنة أداء الطقوس أو يقرؤوا من الكتاب المقدس أو يبشروا بل كانت مهمتهم تنحصر في تلبية رغبات الآلهة وليس الناس.
إلا أن هذا لا يعني أنهم لم ينخرطوا في حياة المجتمع، إذ كان عملهم إسعاد الآلهة التي تُظهر بدورها سعادتها بفيضان نهر النيل وتخصيب الأراضي على جانبيه التي تأتي بوفرة في الحصاد.
كانت الصحة والرخاء من علامات رضا الآلهة عن الأضاحي والهبات المقدمة لها وبالمقابل كان المرض والفقر والمجاعة مؤشرًا على خطأ ما مع الآلهة.
الشكل (1): أمون ورمسيس الثاني والآلهة موت (موط)
كانت تُعبد الآلهة في الأوقات الجيدة للمصريين ويقدم الكهنة الهبات بدافع الشكر، بينما في زمن تصعب فيه الحياة فكان يُنتظر من الكهنة تحديد الخطأ المؤدي إلى ذلك وإصلاح علاقة الناس مع آلهتهم. علقت عالمة المصريات مارغريت بونسون Margaret Bunson على ذلك بقولها:
"عبّر الكهنة منذ أبكر العصور في مصر عن تطلعات المصريين الروحية الذين حافظوا على شعائرهم وأدوا واجباتهم الدينية بشكل عام بإخلاص وتفانٍ عميق."
قوة الكهنة:
كان الملك الكاهن الأول إذ هو الوسيط بين الناس والآلهة وكان مكتب الملك من يعين الكاهن الأعلى للمعبد. وبما أن للملك مهمات أخرى كثيرة كما هو معروف، فكان الكاهن الأعلى يشرف على أداء الواجبات تجاه الآلهة والعمليات اليومية والعاملين في مجمع المعبد.
كان من أهم مهمات الكهنة أداء الطقوس الجنائزية من أجل بقاء الروح بعد الموت. كل يوم وبعد طقوس إضاءة النار (يهدف هذا الطقس إلى تشجيع الشمس على الشروق عن طريق إشعال نار المعبد وفتح ضريح الإله) يشغل الكهنة أنفسهم بالصلوات والهبات لأرواح الموتى وخصوصًا الملوك والملكات والنبلاء السابقين.
بنى الملوك في خلال عهد المملكة القديمة (2613-2181 قبل الميلاد) المدفن المشهور حاليًا في الجيزة وبنوا مدافن أخرى في عدة أماكن. تطلبت تلك المواقع كلها كهنة لأداء الطقوس نفسها التي أدوها في المعبد ليتأكدوا من بقاء الروح بعد الموت. كرم ملوك الممالك القديمة الكهنة بإعفائهم ومكاتبهم وأراضيهم وبضائعهم من الضرائب الأمر الذي زاد من قوة الكهنوت إلى الحد الذي جعلهم في التاريخ المصري منافسين أحياناَ للملك في الثروة وقد يحلون محله بجدارة.
طائفة أمون:
ليس لكلمة "عبادة" في الديانة المصرية المعنى نفسه الذي نعرفه اليوم، إذ تشير إلى عبادة خاصة للإله والعقائد المحيطة به أو بها والطقوس المشرعة له أو لها وتشبه معنى "الطائفة" في الديانة اليوم.
لكل إله أو آلهة كبيرة طائفة مُتبعة ومعبد أو معابد إذ كان يُعتقد أنهم يسكنوها، وواحدة من أقوى تلك الطوائف منذ الممالك القديمة فصاعدًا كانت طائفة الإله أمون.
الشكل (2): الإله أمون
بدأ أمون كإله محلي لمدينة طيبة في المملكة القديمة ولكنه تطور ليصبح أكثر شهرة عندما أصبحت مدينة طيبة أكثر مركزية لشوؤن المملكة السياسية وذلك في مرحلة المملكة المتوسطة (2040-1782 قبل الميلاد) ومرحلة المملكة الحديثة (1570- 1069 قبل الميلاد) خصوصا، حيث إن منصبًا جديدًا قد تشكل مثل قوة طائفة أمون كان: زوجة الإله أمون.
زوجات الآلهة ونهوض أمون:
ظهر عدد لا بأس به لزوجات الآلهة في زمن المملكة المتوسطة وقد يكون قبل ذلك حتى، وكانوا من سيدات القصر من أمهات وزوجات وكبريات بنات الملك ممن منحوا شرف هذا اللقب، واللواتي استطعن أن يساعدوا في أداء الطقوس والمهرجانات، منهم زوجة الإله رع وزوجة الإله بتاح إضافة إلى زوجة الإله أمون إلا أن اللقب لم يمنح لأولئك النساء أي سلطة سياسية غير التي كانت لهن من قبل.
في المرحلة المتوسطة الثانية (1782-1570 قبل الميلاد) كانت مصر مقسمة بين حكم الهكسوس الأجانب في مصر الدنيا وأهل طيبة في مصر العليا والنوبيين في الجنوب. دفع أمير طيبة أحمس الأول (1570-1544 قبل الميلاد) الهكسوس خارج البلاد وهزم النوبيين ووحد مصر تحت حكم طيبة وقد عزا نصره إلى الإله أمون وبذلك لم يُصبح الإله أمون إلهًا لطيبة وحسب وإنما منقذًا لمصر عن طريق خادمه أحمس الأول.
الشكل (3): خاتم أحوتب
حملت والدة أحمس الأول أحوتب الأولى لقب زوجة الإله أمون ويظن أنها استخدمته إضافة إلى منصبها بوصفها أم الملك للقضاء على عصيان حدث في أثناء حملة أحمس الأول ضد النوبيين، والذي يُعد الحدث الأول من نوعه لاستخدام زوجة إله القوة السياسية ولكنه لم يكن الأخير. منحت أحوتب الأولى اللقب لابنتها أحمس-نفرتاري وفجأة أصبح للمنصب مسؤولية وميزات أكبر تحمل معها ثروة أكبر.
زوجة الإله أمون:
لقد كانت زوجة الإله في المملكة المتوسطة مظهرًا من مظاهر الطقوس أو المهرجان ببساطة، أما الآن فهي مركز الاثنين معًا، بالإضافة إلى أن لها الحق بدخول المكان المقدس في المعبد حيث يوجد الإله، وهذا الشرف كان قد مُنح للكاهن الأعلى وحده سابقًا. حددت عالمة المصريات بيتسي براين Betsy Bryan من جامعة جون هوبكنز مهام زوجة الإله أمون بدءًا من ِأحمس-نفرتاري بما يأتي:
1. المشاركة في موكب الكهنة للطقوس اليومية للإله أمون. ويشاهدها الناس مرافقة لكهنة يُدعون "آباء الإله" وقد يتضمن التعيين لهذا المنصب الكهنة الأربعة الأعلى للمعبد المرتبين تسلسليًا كالكاهن الأول والثاني...إلخ
2. الاستحمام في البحيرة المقدسة مع الكهنة الأنقياء قبل أداء الطقوس.
3. دخول الأجزاء الأكثر حصرية في المعبد مع الكاهن الأعلى بما فيها قدس الأقداس.
4. يقومون إلى جانب الكاهن الأعلى بدعوة الإله لوجبته وتلاوة قائمة الطعام المقدمة للإله أمون.
5. إلى جانب الكاهن الأعلى يحرقون تماثيل أعداء الإله للحفاظ على النظام الإلهي.
6. هز آلة السيستروم الموسيقية أمام الإله لاسترضائه.
7. نظريًا، كان لهن مهام جنسية مساعِدة للإله، إضافة إلى أدائها على آلة السيستروم والتي تمثل إيحاء جنسيًا مما يجعلها تؤدي واجباتها كزوجة للإله.
تأتي هذه الواجبات إضافة إلى الإعفاء من الضرائب على الأرض والسكن والطعام واللباس والذهب والفضة والنحاس والخدم من ذكور وإناث والشعر المستعار والباروكات، والمراهم ومستحضرات التجميل والماشية والزيت. بينما تذهب معظم هذه المدفوعات لأداء واجباتها نحو الإله، إلا أن الأراضي والتي قد تعود بإيرادات أكثر من غيرها تذهب مباشرة للملكية الخاصة لزوجة الإله وليس للمعبد.
الشكل (4): تمثال الملكة أحمس-نفرتاري
من الممكن أن أحمس الأول قد رفع من شأن لقب زوجة الإله ليقلل من قوة الكهنوت التي وبالرغم من مراحل ضعف الحكم خلال المرحلة المتوسطة الأولى والثانية كانت ترتفع منذ الممكلة القديمة، وإن كان هذا دافعه فإنه عالج أحد أعراض المشكلة ليس إلا.
زوجة الإله والفرعون:
تقلدت حتشبسوت (1479-1458 قبل الميلاد ) شرف اللقب تحت حكم والدها تحتمس الأول (1520-1492 قبل الميلاد) ثم ادعت في ما بعد أنها في الحقيقة ابنة الإله. بعد أن وصلت حتشبسوت إلى الحكم ملكة منحت اللقب لابنتها نيفيرو-رع محافظة على تقليد الفرعون باختيار زوجة الإله الجديدة. وبذلك أيضًا حافظت على ثروة اللقب ضمن العرش وبعيدًا عن متناول الكهنة.
زوجات الإله اللواتي عقبن نيفيرو-رع خلال حقبة المملكة الجديدة والمرحلة المتوسطة الثالثة (1069-525 قبل الميلاد) جميعهن كن من العذراوات بنات الفرعون ولكن ذلك لم يفعل شيئًا ليكبح قوة الطائفة بشكل كبير. ربما كانت مشكلة القوة والثروة للكهنوت هي التي دفعت الفرعون أخناتون (1353-1336 قبل الميلاد) المصلح الديني المشهور إلى إدخال الديانة التوحيدية إلى مصر وحظر الدين القديم. لهذا ألغى أخناتون منصب زوجة الإله أتون وفي الوقت نفسه حل الطائفة وأغلق المعابد كلها عدا تلك المخصصة للإلهه آتون.
الشكل (5): أخناتون
إلا أنه وبعد وفاة أخناتون استؤنفت التقاليد القديمة واستعادت الطائفة قوتها بسرعة كبيرة. كتبت عالمة المصريات هيلين سترودويك عن ذلك:
" يوضح أمون أكثر من أي إله آخر بين الآلهة المصرية الرابط الدقيق بين الدين والسياسة في مصر القديمة. خلال حقبة المملكة الجديدة كان معبد أمون في الكرنك أكبر المعابد في مصر وأصبح لكهنته من القوة الاقتصادية والروحية ما يجعلهم تهديدًا لسلطة الفرعون نفسه."
الشكل (6): معبد أمون في الكرنك
ويمكن أن نرى ذلك بوضوح في المرحلة المتوسطة الثالثة إذ كان لأهل طيبة حكومة دينية بحيث يحكمهم الإله أمون مباشرة. وهي حقبة أخرى إذ ضعفت الحكومة المركزية وانقسم الحكم بين طيبة في مصر العليا وتانيس (حاليًا صان الحجر). حكم الفرعون في تانيس حكمًا مباشرًا بينما حكم الكهنة في طيبة تحت حكم أمون نفسه. شرح عالم المصريات مارك فان دي ميروب Marc van de Mieroop ذلك:
"صنع الإله قرارات الدولة في ممارسة حقيقية حيث يُقام مهرجان لحضور الإله بشكل متكرر في معبد الكرنك حيث يتواصل تمثال الإله مع الناس من خلال الإيحاءات بإيماء الموافقة عند القبول. أصبحت الإيحاءات الإلهية مهمة جدًا خلال حكم السلالة الثامنة عشر حيث شكلوا في الفترة المتوسطة الثالثة أسس ممارسة الحكم".
أصبحت الكهنوتية لوقت طويل مورثة إذ أعد الكهنة أبناءهم ليخلفوهم كما الأمير للملك، ووسع كل جيل منهم نفوذ من سبقه وتأثيره. وأصبح منصب زوجة الإله موروثًا أيضًا بحيث تختار المرأة خليفتها.
نهاية صراع القوة:
أصبح الكهنة أصحاب نفوذ قوي جدًا مما دعا الملك الليبي شوشنق الأول (942-922 قبل الميلاد) إلى إلغاء توريث الكهنة لأبنائهم واختيار زوجات الإله لخليفاتهن وجعل تعيين الكهنة وزوجات الإله بيد الفرعون نفسه. لم يمضِ في عمله هذا لحظر طائفة أمون لأن هذا الإله أصبح ذا قوة وشعبية كبيرة في ذلك الوقت ولكنه فعل ما بوسعه ليكبح من قوتها.
حذا الفرعون النوبي كاشتا (750 قبل الميلاد) حذوه إذ عين ابنته أمينيرديس الأولى في منصب زوجة الإله أمون مما جعلها أقوى إمرأة في البلاد وحاكمة جديرة لمصر العليا من الطيبين. وقام بذلك أيضًا ابن كاشتا بيا (747-721 قبل الميلاد) إذ عين ابنته شيبينوبيت الثانية زوجة للإله وائتمنها على حكم مصر العليا عندما قام بحملته ضد مصر الدنيا. حذا خلفاء بيا حذوه حتى الغزو الفارسي عام 525 قبل الميلاد الذي قضى على نفوذ طائفة أمون وأنهى منصب زوجة الإله.
إلا أن حمل اللقب استمر في مملكة النوبة إذ ازدهرت الطائفة في مدينة مروي، ويبدو أن النموذج نفسه قد تكرر كما حدث لآلاف السنين في تاريخ مصر وكان على الملك أن يقاوم نفوذ الكهنة من أجل السلطة. وأخيرًا وفي عام 285 قبل الميلاد قضى ملك مروي إيرغامينس (أركماني) على الكهنة جميعهم في مذبحة ليحل المشكلة وألغى لقب زوجة الإله وعلى الرغم من ذلك استمر نفوذ الطائفة في مروي وغيرها حتى جاءت المسيحية لتحل دينًا جديدًا.
المصدر: