البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
التطور يتصدّى للهندسة الوراثية
في مدينةِ تيرني الصغيرةِ في وسطِ إيطاليا، يضعُ الباحثون اللمساتِ الأخيرةَ على ما يمكنُ أن يكونَ أقفاصَ البعوضِ الأكثرَ تطوراً في العالم. تحاكي هذه العبواتُ، التي تتّسعُ كلٌّ منها لـ 150 متراً مكعباً، البيئاتِ الرطبةَ والحارّةَ التي يزدهرُ فيها البعوضُ الأفريقيُّ Anopheles gambiae، ويأملُ العلماءُ من خلالِ دراسةِ الحشراتِ في ظلِّ ظروفٍ أقربَ إلى الطبيعةِ، التوصُّلَ لفهمٍ أفضلَ لكيفيةِ القضاءِ عليها -وعلى الملاريا- باستخدامِ تقنيةٍ ناشئةٍ في الهندسةِ الوراثيةِ، تُسمّى محرّكاتِ الجينات gene drives.
يمكن لهذه التقنيةِ نشرُ التعديلاتِ الوراثيةِ سريعاً في المجتمعاتِ البرّيةِ عن طريقِ تكاثرِ الكائنِ الحيِّ وإنتاجِ سلالاتٍ جديدةٍ، مما دفع بعضَ الناشطين إلى المطالبةِ بوَقفِها، إلا أنّ محرّكاتِ الجينات قد لا تكونُ فعالةً كما يعتقد هؤلاء، فقد حَدّدتِ الأبحاثُ الأخيرةُ عقبةً أساسيةً أمامَ استخدامِ هذه التقنيةِ للقضاءِ على الأمراضِ ومكافحةِ الآفاتِ الغازِيةِ، تتمثلُ بالتطور. فقد أظهرتِ الكائناتُ الحيةُ التي عُدِّلَت بواسطةِ محرّكاتِ الجينات، بما فيها البعوضُ، نتائجَ واعدةً في التجارِبِ المخبريةِ، لكنّ المجتمعاتِ البرّيةَ ستُطوِّرُ -وبشكلٍ شبهِ أكيدٍ- آليةً ما لمقاومةِ هذه التعديلاتِ الوراثية. وقد بدأ الباحثون في تحديدِ كيفيةِ حدوثِ ذلك حتى يتمكنوا من معالجةِ المشكلة.
تقوم محرّكاتُ الجينات بتغييرِ قواعدِ التوريثِ في الكائناتِ التي تتكاثرُ جنسياً. فالقاعدةُ هي أن يكونَ للأبناءِ فرصةُ وراثةِ مورّثةٍ (جين) ما من والديهم بنسبةِ 50:50، إلا أنّ محرّكاتِ الجينات تغيّرُ هذه الاحتمالاتِ، بحيث تنتقلُ نسخةٌ واحدةٌ على نحوٍ تفضيليٍّ، إلى نسلِ الكائنِ الحيِّ، حتى تنتشرَ المورِّثةُ -نظرياً- في كلِّ المجتمع.
توجد مثلُ هذه العناصرِ الوراثيةِ "الأنانية" بشكلٍ طبيعيٍّ في الفئرانِ والخنافسِ والعديدِ من الكائناتِ الأخرى. وقد حقّقَ الباحثون نجاحاً متواضعاً في "اختطافِهم" لهذه العناصرِ الأنانيةِ واستخدامِها لمحاربةِ الآفات. لكنّ الاهتمامَ بمحرّكاتِ الجينات قد ازدادَ مع ظهورِ تقانةِ التعديلِ الوراثيِّ CRISPR–Cas9، والتي يمكنُ استخدامُها لنسخِ طفرةٍ من صِبغيٍّ (كروموسوم) إلى آخر.
في أواخرِ العامِ 2015، أفادَ الباحثون أنّ محركَ الجينِ CRISPR تسبَّبَ بتوريثِ طفرةِ العُقمِ في إناثِ البعوضِ إلى كلِّ ذريَّتِها. وأظهرتِ التجارِبُ العمليةُ زيادةَ تواترِ الطفرةِ كما هو متوقعٌ على مدى عدةِ أجيالٍ، ولكنْ من جهةٍ أخرى ظهرتْ مقاومةٌ للجينِ المعدَّلِ أيضاً؛ الأمرُ الذي منعَ بعضَ البعوضِ من وراثةِ الجينومِ المعدّلِ (الجينوم: مجموعُ الجيناتِ/ المورّثاتِ الموجودةِ في الكائنِ الحي). يقول فيليب مِيسَر Philipp Messer، وهو عالمٌ في وراثةِ الجماعاتِ في جامعةِ كورنيل بولايةِ نيويورك: "هذا أمرٌ غيرُ مفاجئٍ؛ فبما أنّ الصادّاتِ الحيويةَ تساعد على ظهورِ بكتيريا مقاومةٍ للأدويةِ، فإنّ الجماعاتِ المُثبِّطةِ لمحرّكاتِ الجيناتِ تخلقُ الظروفَ المثاليةَ لازدهارِ كائناتٍ حيةٍ مقاوِمةٍ.
أحدُ مصادرِ هذه المقاوَمةِ هو نظامُ CRISPR نفسُه، والذي يَستخدمُ أنزيماً معيناً لقطعِ تسلسُلٍ محددٍ في الحمضِ النوويِّ- الدَّناDNA ، وإدخالِ أيِّ رمزٍ جينيٍّ يريدُه الباحثُ. إلا أنه في بعضِ الأحيانِ تقومُ الخلايا "بخياطةِ" مكانِ القَطعِ مرةً أخرى بعد إضافةِ أو حذفِ قطعٍ عشوائيةٍ من الـدَّنا؛ الأمرُ الذي يؤدي بدورِه إلى عدم التعرفِ على نظامِ محرّكِ الجينِ CRISPR، وبالتالي إيقافِ انتشارِ الرموزِ المُعدَّلة.
وقد وَجد الباحثون الذين قاموا ببناءِ قفصِ البعوضِ في إيطاليا -وهو جزءٌ من مشروعٍ قيمتُه ملايينُ الدولاراتِ يُسمى ‘الملاريا المستهدَفة Target Malaria‘- هذا النوعَ من المقاومةِ في بعضِ أفرادِ البعوضِ. وأفاد فريقُ Messer أنّ هذه الطفراتِ المقاوِمةَ من المرجَّحِ أن تزدهرَ.
طريقةٌ أخرى لمقاومةِ التعديلِ الوراثيِّ (الجينيِّ) تتمثلُ في الاختلافِ الجينيِّ الطبيعيِّ، فطريقةُ عملِ محرّكِ الجينِ CRISPR تعتمد على التعرفِ على تسلسُلاتٍ جينيةٍ قصيرةٍ في مواقعَ محددةٍ، والأفرادُ ذاتُ الاختلافاتِ في هذه المواقعِ ستكونُ في مأمنٍ من المحركِ والتعديلاتِ التي يقودُ اليها. وقد قامتْ دراسةٌ حديثةٌ بتحليلِ 765 جينوماً للبعوضِ Anopheles من جميعِ أنحاءِ أفريقيا. وجدَ الباحثون تنوعاً جينياً كبيراً، الأمرُ الذي قد يحددُ قائمةَ محرّكاتِ الجينِ التي يُحتملُ استهدافُها.
يقول مايكل وِيد Michael Wade، عالمُ الوراثةِ التطوريةِ في جامعةِ إندِيانا بلومينغتون: "يمكن أن يؤديَ استخدامُ تقنيةِ محرّكاتِ الجيناتِ إلى ما يسمّى العزلةَ الجينيةَ؛ أي أنْ لا يتزاوجَ أفرادُ الجماعاتِ المختلفةِ مع بعضِهمُ البعضِ، ويتمّ اتخاذُ هذا الإجراءِ لكي تتجنبَ هذه المجموعاتُ وراثةَ الشيفرةِ الجينيةِ المعدلةِ، كما أنّ حدوثَ التغيُّرِ في الجيناتِ (كالطفراتِ مثلاً)، يُقلّلُ من مَيلِ جماعةٍ ما إلى الاختلاطِ مع الجماعاتِ الأخرى، كتلك التي حدثَت و حَدَّت من قدرةِ الطيرانِ في الحشراتِ -ستُثبتُ فجأةً أنها مفيدةٌ ويمكن أن تنتشر.
إنّ مقاومةَ محركاتِ الجيناتِ أمرٌ لا مفرّ منه، لذا يأملُ الباحثون أن يتمكنوا من تخفيفِ الآثارِ لمدةٍ تكفي لنَشرِ الطفرةِ المرغوبةِ في كلِّ الجماعةِ، وقد طرَحَ البعضُ فكرةَ إنشاءِ محركاتٍ جينيةٍ تستهدف عدةَ جيناتٍ، أو عدةَ مواقعَ ضمنَ الجينِ الواحدِ، مما يقلّلُ من سرعةِ تطورِ المقاومةِ لهذه الطفراتِ المستحدَثةِ، كما يمكن للباحثينِ استهدافُ الجيناتِ المشترَكةِ بين جميعِ الأفرادِ بعد الحصولِ على مسحٍ للتنوُّعِ الجينيِّ الطبيعيِّ للأنواعِ المختلفة. وقال أندريا كريسانتي Andrea Crisanti من كلية لندن الامبراطورية (إمبيريال كوليدج): "إنّ فريقَ ‘الملاريا المستهدفةِ‘ قد طورَ الجيلَ الثانيَ من البعوضِ المعدّلِ وراثياً من خلال المحركِ الجينيِّ، أملاً في إبطاءِ تطورِ المقاومةِ. ويخطّطُ الباحثون لاختبارِهم في وقتٍ لاحقٍ من هذا العامِ لمعرفةِ تصرُّفاتِ الجيلِ الجديدِ من البعوضِ في الطبيعةِ، لكنّ الباحثَ في العلومِ الجزيئيةِ توني نولان Tony Nolan، يتوقعُ من التطورِ أن يثيرَ بعضَ المفاجآتِ، ويُعبّرُ عن قلقِه حولَ عدمِ عملِ محركاتِ الجيناتِ بالطريقةِ المتوقَّعةِ.
وبعد هذا لا بدّ من الإقرارِ بأنّ الطبيعةَ ما زالت متفوقةً على التقنياتِ التي يحاولُ العلمُ والباحثون تطبيقَها، ويُطِلُّ التطورُ دائماً بمفاجآتِه التي لا تنتهي فاتحاً الطريقَ أمامَ المزيدِ من الأبحاث.
المصادر: