البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية
من أوراق السبانخ الخضراء إلى الخلايا القلبية الناضجة
يواجه الباحثون تحدّياً رئيسياً في سعيِهم لتوسيع مجال تجديد الأنسجة البشرية من مجرّد عيناتٍ صغيرةٍ مخبريّةٍ إلى أنسجةٍ وأجهزةٍ كاملةِ الحجم، لزرعها في البشر لعلاج الأمراض المختلفة. ولكن السؤال هو: كيف يمكن إنشاء نظام للأوعية الدموية لإيصال الدم بعمق في الأنسجة النامية؟
لم تتمكّن تقنيات الهندسة الحيوية الحديثة حتى الآن، بما فيها الطباعة ثلاثية الأبعاد، من تكوين الشبكات المتفرعة للأوعية الدموية الدقيقة، والضرورية لإيصال الأكسجين والمغذيات والجزئيات الأساسية اللازمة لنموِّ الأنسجة بشكلٍ سليمٍ.
أما حلُّ تلك المشكلة فكان من خلال فريق في معهد Worcester Polytechnic Institute (WPI). حيث تمكّن الباحثون، وبثلاثِ خطوات فقط، من استخدام أوراق النباتات كسقالات (هياكل) لصنع شبكةٍ متفرّعةٍ من الأوعية الدموية التي تنتهي إلى نطاقِ الشعيرات الدموية. وهو ما نُشر في آذار من هذا العام في (Biomaterial).
الخطوة الأولى: إعدادُ وتوصيفُ خصائص الهياكل الوعائية النباتية التي أُزيلت خلاياها.
أراد الباحثون الاستفادة من البنية الطبيعية للنباتات العليا والتي تسمح بنقل المغذيات عبر أوعيتها إلى الخلايا البعيدة، فقاموا بالتخلص من الخلايا النباتية غير الوعائية من خلال عملية إزالة الخلايا (Decellularization) تاركين االأوعية فقط، وذلك عن طريق تجهيز محلولٍ منظّفٍ للاستخدام مع أوراقِ السبانخ (تمَّ اختيارُها كنموذجٍ للأنواعِ الأخرى بسبب وفرتها، ونمطِ وكثافةِ شبكتها الوعائية، وعنقها واسعِ القطر)، فيتدفّق هذا المحلول خلال أوردةِ الأوراق، ويتبقى الهيكل الذي يتكون من السليلوز الملائم حيوياً، والذي يستخدم بالفعل في مجموعةٍ واسعةٍ من تطبيقاتِ الطبِّ التجديديّ.
بعد يومٍ واحدٍ من بدء العملية، بدأت الأوراق تفقدُ لونَها الأخضر بسبب فقدان الكلوروفيل، مما يدلُّ على فقدان الصانعات الخضراء من نسيج الورقة، حتّى أصبحت الأوراق شفّافةً مع مسحةِ لونٍ أخضرَ بحلولِ اليوم الخامس. وبإضافة محلولِ الترشيح لتطهيرِ النسيج تماماً، والتأكّد من إزالةِ ما تبقّى من جزيئاتِ الكلوروفيل تمَّ الوصولُ إلى ورقةٍ شفافةٍ عديمةِ اللونِ بحلول اليوم السابع.
حافظت الأوراق منزوعةُ الخلايا على نفسِ نمطِ وكثافةِ الشبكة الوعائية الموجودةِ في الأوراقِ العاديّة بالإضافةِ إلى مادّة اللجنين التي تعتبرُ من أهمِّ مكونات الأوعية النباتية، وهو ما تمَّ التأكد منه بعدة اختباراتٍ مما يشيرُ إلى أن عملية نزع الخلايا لم تؤثّر على الخصائص الطبوغرافية لسطح الورقة. كما أنها أزالت تقريباً جميع البروتين والحمض النووي بعد حوالي 5 أيام من التشبّع بالمحلول المستخدم. وتشابهت الخصائص الميكانيكية لمواد الأوعية الهيكلية (التي تحكم قدرتها وكفاءتها) مع خصائص الأنسجة البشرية القلبية العادية.
الخطوة الثانية: وهي تقييم جاهزية الجملة الوعائية للنقل بعد عمليةِ إزالةِ الخلايا
سعى الباحثون بعد ذلك للتأكد من أنَّ الجملة الوعائية ما زالت تحتفظُ بأهمّ مميزاتها التي دفعت الباحثين لاستخدامها كهياكلَ وعائية، وما زالت تحتفظُ بكفاءتها وتسمح بعبور المواد خلالها، فقاموا بتمريرِ صبغةٍ حمراء (Ponceau Red) عبرِ أحد أوعية الورقة، فتدفقت إلى الجملة الوعائية وإلى الفروع الصغيرة مما يشير إلى أن الجملة الوعائية الدقيقة للورقة ظلت سليمة إلى حدٍّ ما.
والنقطة الثانية التي وجب التأكد منها، هي أنه حتى تصبح هذه الهياكل الوعائية ذاتَ تطبيقٍ سريريٍّ فعّال، فيجب أن يسمحَ قطرُها الداخليُّ بتدفّق مكوّنات وخلايا الدم، محاكياً في ذلك الشعيرات الدموية التي تتراوح أقطارها بين 5 و10 ميكرون، وللتأكد من ذلك، قام الباحثون بعدّة تجاربَ، منها أنّهم قاموا بتمرير وسطٍ يحتوي على كرياتٍ مجهريّةٍ فلوريسنتيه ذاتِ أقطارٍ مختلفةٍ، وبالفعل فقد نجح تدفّق جميع الكريات التي تراوحت أقطارها بين1 و10 ميكرون، وحوالي 46% من الكريات ذات الـ50 ميكرون، أي أنّ الأوعية الهيكلية تسمح بتدفق خلايا الدم من خلالها.
الخطوة الثالثة: وهي التأكد من إمكانية التصاق الخلايا البشرية مع الأوعية المحورية.
لأنَّ الاستخدامَ الناجحَ لهذه الهياكلِ الوعائيّةِ النباتيةِ منزوعةِ الخلايا يكمنُ في قدرةِ الخلايا البشرية على الالتصاق بالقالب الهيكلي الذي أنتجه النبات ولهذا زرعَ الباحثون أنواعاً مختلفةً من الخلايا البشرية، إما على بداية الهياكل الوعائية النباتية أو بإدخالها ضمنَ الشبكاتِ الوعائيةِ عن طريق قُنيّات الأوراق.
في البداية قام الباحثون بتغليف الجملة الوعائية للورقة مع مادة الفبرونيكتين، من أجل تعزيزِ الارتباطِ الخلويِّ للخلايا البشرية مع جدران الجملة الوعائيةِ المغلظة باللجنين، وبعدها تمَّ توصيلُ الخلايا المبطنه للوريد السرّي عند الإنسان (human umbilical vein endothelial cells (HUVEC)) من خلال قُنية الورقة والتي وفي خلال 24 ساعة قامت بالارتباط بالسطح الداخلي للجملة الوعائية، وتمَّ التأكد من حيويتها وقابليتها للحياة بعدّة طرق، وبعدها تمَّ زرعُ الخلايا الجذعيّة الميزنشيمية للإنسان (Human mesenchymal stem cells (hMSC)) على السطحِ الخارجيِّ للجملة الوعائية والتي التصقت بالسطحِ الخارجيِّ كاملاً خلال 24 ساعة، مما يشيرُ إلى أنَّ الأوراقَ النباتيّةَ التي أزيلت خلاياها النباتيةُ يمكن استخدامها بأبعادِها الثلاثة كهياكلَ محوريةٍ، لتكوين الأنسجة الأكبر والأكثر تعقيداً.
رسم توضيحي لملخص خطوات التجربة
وللتأكد من أنَّ الخلايا البشرية يمكنها الالتصاق بالهياكل الوعائية، والمحافظة على وظيفتها قام الباحثون بزراعة خلايا عضلية قلبية مشتقة من الخلايا الجذعية البشرية متعددة القدرات Human pluripotent stem cell derived cardiomyocytes (hPS-CM) على سطحِ الهيكل الوعائي النباتيِّ، فقامت الخلايا بالارتباط بسطحِها وشكَّلت مجموعاتٍ خلويّةً قامَت بشكلٍ تلقائيٍّ بوظيفةِ قلبٍ نابضٍ وأظهرت قدراتِ التعاملِ مع الكالسيوم على مدى 21 يوماً بشكلٍ مشابهٍ للخلايا البشرية.
تفتحُ هذه الدراسةُ البابَ لاستخدامِ طبقاتٍ متعدّدةٍ من أوراق السبانخ (أو نباتات أخرى مثل البقدونس والفول السوداني) لنموِّ طبقات لعضلة قلبية صحية، وأنواعٍ أخرى من الأنسجة، فالمشكلة التي كانت تتمثل بالأوعية الدموية الصغيرة والتي كانت تقف بمثابة عائقٍ لنموها بشكلٍ كاملٍ، تمَّ حلُّها من خلالِ شبكةِ الهياكل الوعائية النباتية، وكلُّ ذلك من خلال هندسة الأنسجة ومفاجآتها. وكما يقول باحثو الدراسة: "نتائجُنا واعدةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ ولكن مازالَ لدينا الكثيرُ لنقومَ به، فلا أحدَ يعلمُ ما يخفيه لنا المستقبل".
رابط المقال السابق: هنا
المصدر: هنا