الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة
البحر الميت على موعد مع الجفاف مجددًا
يُعدُّ البحر الميت البقعةَ الأدنى على الأرض، وهو بحرٌ مغلقٌ، يقع شاطئُه على عمقِ 400 متر تقريباً تحت مستوى سطح البحر، وتمتدُّ أرضُه إلى عمق قرابة 300 متر أخرى، وهو بحرٌ عالي الملوحة يشكِّلُ تصريفُ نهرِ الأردن الموردَ المائيَّ الأساسيَّ لهُ.
تُعدُّ منطقة شرق المتوسط من أكثر المناطق في العالم تأثُّراً بالتغيُّرِ المناخي الحالي؛ إذ إنَّها تعاني من جفافٍ يترافق مع ارتفاعٍ في درجاتِ الحرارة، وانخفاضِ كميات الهطول المطري قرابةَ 10% منذ عام 1950، وتتوقع النماذجُ استمرارَ هذا الانخفاض بنسبةِ 20% إضافية حتى نهاية هذا القرن، وإضافة إلى الازدياد الكبير في أعداد السكان، وهو ما قلَّل من نصيب الفرد من المياه في هذه المنطقة، الذي لا يتجاوز عُشر المعدل العالمي وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.
(يمكنكم الاطلاع على مقالنا السابق عن ما ينذر به التغيُّر المناخي لسكان الشرق الأوسط: هنا)
يدعو هذا الأمر سكان المنطقة إلى الاعتماد على تحلية مياه البحر بصفته مصدراً للمياه العذبة، ويعمل الأردن في هذا السياق على إقامة قناةٍ أرضيةٍ تجلب المياه من البحر الميت لتحليتها والتخلُّص من المحلول الملحي المتبقِّي بعد التحلية قي البحر الميت، وقد يؤدي هذا المشروع إلى تغيُّرات بيئية جذرية في منطقة شرق المتوسِّط، وقد يترك أجزاء كبيرة منها دون الكميات الكافية من المياه.
لدراسة تأثير الجفاف في منطقة شرق المتوسِّط، حفر باحثون من ست دولٍ عام 2010 تحت أخفض جزءٍ من قاع البحر الميت بعمقِ 460 متراً، واستخرجوا عينات لبيَّة لرسوبيات دوَّنت 200 ألف عام من تاريخ المناخ المحلي، وبدراسة العينات اللبيَّة المستخرجة، توصَّل فريق من الباحثين إلى أدلة على أنَّ منطقة شرق المتوسط قد عانت سابقاً من جفاف شديد أكثر بكثيرٍ ممَّا نشهدُهُ في يومنا هذا، وهو ما يُنذر بخطرٍ مُحتمَل قد تحملُه السنوات القادمة لهذه المنطقة.
فقد كشفت العينِّاتُ اللبيّةُ عن طبقات متناوبة من الطين، والملح البلوري؛ إذ تراكمَ الطين في البحر الميت في أثناء جرفه مع الجريان السطحي خلال الأيام الماطرة، أمَّا الملح البلوري فقد ترسَّب خلال الفترات الجافة عندما انحسرت المياه، وتدلُّ سماكتُه الكبيرة على أنّ المنطقة عانت من فترات جفافٍ شديدة.
حدَّد الباحثون في هذه الدراسة منسوب المياه في البحر الميت خلال فترات ترسب الملح، وذلك بالاعتماد على موازنة المياه والملح المُستنتَجة من تركيب المحلول الملحي للبحر الميت، ومن كمية الملح الموجودة في العينات اللبيَّة المستخرَجة.
قصةُ الجفاف الشديد:
أشارت الموازنات الحديثة للمياه والملح أنَّ الملحَ البلوري قد ترسَّب فقط في أثناء المستويات المنخفضة للبحر الميت، وبمعدل 12-16 سم تقريباً لكل مترٍ انخفضَ عن مستوى مياه البحر، وأظهرت الطبقات السميكة للملح البلوري انخفاضَ الهطول المطري حينها إلى أقل من خُمس مستواه الحالي.
حدث الانخفاضُ في مستوى البحر الميت، الذي قُدِّر بما يقارب 170 متراً عن مستواه الحالي خلال فترتَين بارزتَين تميزتا بظروف جفاف شديدة وكميات من المياه لم تتجاوز 20% عمَّا هي عليه اليوم، وقد استمرت هذه الظروف لفترةٍ امتدت من عشرات إلى مئات السنين، وكانت تعقب كلَّ فترة منهما فترةٌ رطبة تمتد من مئات إلى آلاف السنين؛ إذ يرتفع فيها مستوى البحر، وتصبح نسبة المياه المتوفرة 50-100% ممَّا هي عليه اليوم.
استمر الانخفاض الأول الذي حدث منذ (115 حتى 130) ألف سنة خلال فترة العصور الجليدية لزمن طويل، وتدل عليه الطبقات الملحية التي وُجدت بسماكة 100 متر تقريباً في منتصف المسافة المحفورة؛ إذ إنَّ التغيُّرات التي حصلت في مدار الأرض حينها ساهمت بارتفاع درجات الحرارة 4 درجاتٍ مئوية عمَّا هي عليه في القرن العشرين، وهو المقدار ذاته الذي تتوقعه النماذجُ في نهاية القرن الحادي والعشرين.
امتلأ البحر من جديد عندما تقدَّم الجليد مرةً أخرى في المناطق شبه القطبية؛ إذ أصبح المناخ في الشرق المتوسط بارداً ورطباً، ليعود ويحدثَ الانخفاضُ الثاني في مستوى البحر الميت منذ 6000 إلى 10000 عام فقط، والذي تبعه العصر الجليدي الأحدث إذ انخفضت درجات الحرارة قليلاً عمَّا هي عليه الآن.
وتمكَّن الباحثون من خلال دراستهم لكيمياء فقاعات السائل الصغيرة الموجودة في الملح المُستخرَج من العينات من استقراء أنماط الهطول المطري والجريان السطحي في تلك الفترات. فلم يتجاوز معدل الجريان السطحي للبحر الميت خلال فترتَي انخفاض مستواه نسبةَ 40% مقارنةً بما هو عليه اليوم. ويرجَّح أن تكون هذه الانخفاضات مرتبطةً بالتحوُّلات الحاصلة في أنماط التدفُّقات الجوية؛ إذ تراجعت وتيرةُ العواصف القادمة من البحر المتوسط بعلى نحوٍ مشابهٍ لما يحدث اليوم.
___
القصةُ قد تتكرَّرُ على نحوٍ مُريع:
إنَّ انخفاض مستوى البحر الميت المُلاحظ في الأعوام الأخيرة ليس مردَّه الطقسُ الحار والجفاف بالدرجة الأولى، وإنَّما استنزاف مصادر المياه العذبة في حوض البحر الميت من السكان الذين تضاعفَت أعدادُهم، فلا يصل بذلك إلا القليل منها إلى البحر، ولذا فإنَّ كميات المياه المتبخِّرة من البحر تتجاوز كميات المياه الواردة، وهو ما يسبِّب هذا الانخفاض.
ويعلِّق الباحثون على هذه النتائج مُشيرين إلى أنَّ المياه العذبة كانت قد توقفت في الماضي عن التدفُّق باتجاه البحر الميت دون تدخُّل البشر، لذلك فإنَّ استمرار الحرارة بالارتفاع، واستنزاف مصادر المياه العذبة للبحر الميت، ينذر بتوقف المياه العذبة عن التدفق نحو البحر الميت مرةً أخرى، والفرق هنا أنَّ الآثار هذه المرة ستكون على الملايين من البشر.
_____
المصدر: