العمارة والتشييد > التصميم المعماري
عمارة بلاد ما بين النهرين (ميسوبوتاميا) – الجزء الثاني
حضارةٌ أعطت البشريةَ العديد من البدايات باتجاه المدنيّة والتحضُّر. حضارةٌ ضمّت اثنين من عجائب العالم القديم السبع. ولطالما كانت العمارة الانعكاس المباشر لأية حضارة. لنأخذ معاً هذه الجولة القيّمة في عمارة بلاد ما بين النهرين.
تعرّفنا في الجزء الأول على مواد البناء وتقنيات البناء في حضارة بلاد ما بين النهرين، بالإضافة إلى تطوُّر بناء البيوت والمعابد. سنتطرّق في هذا الجزء إلى المعابد؛ تطورها وأنواعها.
المعابد:
صنّف علماء الآثار المعابد تبعاً لطرق الدخول إليها وشكل الغرف المقدسة حيث يوضع الإله. هذه الأنماط ليست حصرية فعلى سبيل المثال كانت المعابد البابلية أبنية ذات فناء مع وصول للغرف المقدسة المغلقة بمحورٍ مباشر، بينما كانت المعابد الآشورية المتأخرة ذات فناءٍ أيضاً الغرف طويلة مع محور وصول مباشر. كانت المعابد مجهَّزة بواحدةٍ أو اثنتَين من الغرف الطويلة الضيقة محيطة بالغرفة المقدسة وظيفتها في عزل الهذه الغرفة عن القسم الخارجي من المعبد.
تصنيف الغرف المقدسة في المعابد:
• ذات المحورٍ المنحني حيث يكون فيه المدخل الرئيسي للغرفة المقدسة يشكّل زاويةً قائمة مع جدار المذبح. كان هذا النمط من الصفات المميزة لفترة السلالات الحاكمة المبكرة، ووُجِد في فترات لاحقة.
• ذات المحور مباشر حيث يكون المدخل الرئيسي على خط واحد مع المذبح.
• معابد الغرفة الواسعة حيث يقع المذبح في منتصف أحد الضلعين الطويلين للغرفة المقدسة.
• معابد الغرفة الطويلة حيث يقع المذبح في منتصف أحد الضلعين القصيرين للغرفة المقدسة.
ومن الصفات الأساسية لمعابد بلاد ما بين النهرين كان التزيين المكثف للواجهات والتي تحوي محاريب وخبايا معقدة، وكانت هذه الواجهات تزين بأعمدة لولبية أو محاكية لجذع شجر النخيل. برز المدخل الرئيسي في المعبد للداخل والخارج بأفاريز مضاعفة، وهذه الأفاريز اقتصرت على الأبنية الدينية في بلاد ما بين النهرين. كانت الغرفة المقدسة في المعبد للإله الرئيسي، واحتوى المعبد أحياناً أكثر من غرفة مقدسة مخصصة للآلهة المرافقة وقد تُعبد آلهة أخرى في نفس المعبد كذلك. وفي كثير من الأحيان جُمِعت القصور والمعابد في بناءٍ واحد كما في معبد أور وهو منزل الكاهن الأعلى لإله القمر نانّا. وغالباً ما ضمّت القصور معابد كما في قصر سرجون في دور-شاروكين (خُرسَباد حالياً)، ومعبد نَبو في كالخو (نمرود حالياً) حيث احتوى المعبد على غرفة عرش، وهي من الغرف التي تتواجد عادةً في القصور فقط.
الفترات المبكرة:
تمّ الكشف عن عدد من المعابد المميزة في منطقة إريدو (أبو شهرين حالياً) تعود إلى فترة العُبيد. احتوت المعابد الأولية غرفةً واحدة بينما تغيرت المعابد اللاحقة لتأخذ شكل البيت ذي الأطراف الثلاثة، ولكن بشكلٍ أكثر دقّةً. مع تدعيم وتزيين الواجهات الخارجية في مكان بروز الجدران الخارجية للمنزل. واكتشف العلماء في منطقة كوارا طوب طينية صغيرة الحجم كانت تصلح لتخطيط مداميك هذه الواجهات كما ظهر من واجهات المحاريب في معابد فترة العبيد. كما تواجد في معابد هذه الفترة مذابح من أجل وضع الشعار أو تمثال الآلهة منصّات لتقديم العطايا للآلهة.
تحدّرت معابد فترة أوروك من النمط السابق حيث بقي نمط البناء ثلاثي الأطراف سائداً. وفي القسم الأخير من الألفية الرابعة تابعت المعابد النمط السائد من العُبيد حتى في المستعمرات الأوروكية، مثل معبد العيون في تل براك (في سورية حالياً)، والمعبد الأبيض في أوروك والذي يدعى كذلك لأن الجدران كانت مغطاة بطبقة من الجبس الأبيض على منصة بارتفاع 13م أعلى من منصة معبد إريدو. وعلى بعد 500 م من المعبد الأبيض تواجد الهيكل الديني المخصص للإلهة إنانا. تُعَد هذه الفترة الزمنية من الفترات المزدهرة بعمارة بلاد ما بين النهرين. ورغم بقاء فقط بضع طبقات من الوحدات الطينية ولكن استطاعت التنقيبات إعادة بناء مساقط هذه الأبنية والكشف قدر الإمكان عن نمط بنائها، وبعضها ينطوي تحت النموذج المعروف في أماكن أخرى كما البيت ثلاثي الأطراف وبعضها متصالب الشكل. أكبر هذه المعابد يقيس 80*50 متر ويغطي ضعف مساحة البارثيون في أثينا الذي بني بعد حوالي ثلاثة آلاف سنة. يتجاوز عرض القاعة الرئيسية في منتصف الشكل المتصالب 10م حيث احتاجت خشباً مستورداً لتغطيتها مع تزينها بمحاريب ذات تفاصيل معقدة.
بعض الأبنية لا تتوافق مع النمط العام، وأكثر مثالٍ واضحٍ على ذلك هو المبنى المربع والذي يحتوي محاريب مشابهة للمحاريب في المعبد "D" ولكن بمسقط متناظر متألف من فناء داخلي واسع بطول ضلعٍ أكثر من 30م وبغرف واسعة على الأطراف الأربعة. لم تتحدد وظيفة المبنى ولكن موقعه يرجّح استخدامه لطقوس دينية.
حملت بعض أبنية فترة أوروك خصائص استثنائية تمثّلت في استخدام الأعمدة. ورغم أنّ استخدام الأعمدة في بلاد ما بين النهرين موجود في كل الفترات الزمنية ولكنها لم تشكّل جزءاً من الاتجاه المعماري السائد كما في الحضارة المصرية أو اليونانية أو الفارسية.
كان من ابتكارات فترة أوروك المتأخرة استخدام المخروط في الفسيفساء لتزيين الجدران. المخاريط من الفخار أو الحجر بطول حوالي 10-15سم وبنهايات ملونة كانت تلصق بطبقة سميكة من المونة الطينية وتوضع بحيث تشكّل أنماطاً هندسيةً من المثلثات والزوايا والمعينات، واندثرت هذه التقنية بعد فترة أوروك.
الفترات اللاحقة:
اتّسمت العمارة الدينية خلال فترة الحضارة القديمة لبلاد ما بين النهرين بالاستمرارية، حيث استمرّت إعادة بناء معابد إريدو وصولاً للألفية الأولى قبل الميلاد حتى عندما كانت المدن نفسها تُهجر.
عندما أُعيد بناء المعبد السفلي في نيبور (نُفر حالياً) في الفترة الكاشية، تمّ ذلك وفق الشكل القديم لمسقط معبد أسين لارسا رغم مرور 300 عام عليه دون وجود دليل على أنّ المنطقة كانت مأهولة خلالها، وفيما بعد سجّل الحكام أنّهم كانوا بحثوا عن الأساسات وقلّدوا المخططات القديمة. مع ذلك، كان هناك تنويع في أشكال المعابد في منطقة بلاد ما بين النهرين. استمر استخدام الشكل ثلاثي الأطراف للمعبد في الألفية الثالثة قبل الميلاد كجزء من معبد مركَّب أكبر حجماً.
في فترة سلالات الحكم المبكرة الّتي أتت لاحقاً، بُنيَت المعابد حول فناءٍ داخليٍ مفتوح وبقي هذا النمط المسيطر في بناء المعابد. واحتوت المعابد الأكثر أهمية على عدّة أفنية داخلية وكانت البوابة الرئيسية ذات حدودٍ بارزة، حيث تميّزت العمارة الدينية في المنطقة بوجود مثل هذه البروزات وغالباً ما كان يتم الوصول إلى الغرفة المقدسة عبر فراغٍ أو عدة فراغات تمهيدية موصِلة.
يمكن التعرُّف أيضاً على ثلاثةِ أنماطٍ أخرى للمعابد وفقاً للشكل المعماري:
الأول: يقتصر على فترة سلالات الحكم المبكِرة، وهو الشكل البيضوي وأكثر ما يميز هذا الشكل هو الجدران المنحنية الكبيرة التي تحيط بالمنطقة الدينية، وتوجد أمثلة لذلك في تل خفاجة، وتل العُبَيد، وتل الهبة. ويُعتقَد أنّ معبد باربار في البحرين مثالٌ رابعٌ لهذا النمط من المباني ولكن أوجه التشابه قد تكون مجرّد مصادفة. نظام جدران المعبد البيضوي وقياساتها غير محددة ولكن كان لمعابد تل العبيد وتل خفاجة مذبح على منصة يتم الوصول إليه عبر أدراج.
الثاني هو معابد المنصات كما في فترة العُبيد في الألفية الخامسة قبل الميلاد، وكانت هذه المعابد تُبنى في مناطق مرتفعة وعلى منصات يتم الصعود إليها بواسطة أدراج، واستمرت فكرة إنشاء المعابد على منصات مرتفعة لمدة ألف عام.
الثالث: الزيقورة وهي تشكيل خاص من المنصات بعدة ارتفاعات، وبُنيت أُولى الزيقورات من قبل أور-نامو (2112- 2095 ق.م) أول ملك في السلالة الحاكمة الثالثة في أور، وقد أنشأ أبنية مماثلة في أور، وإريدو، وأوروك، وأخيراً نِيبور. تحوي هذه الأبنية عدة منصات ومجهزة بثلاث مجموعات من الأدراج تلتقي بزوايا قائمة، وأوضح الأمثلة عليها زيقورة أور. أُنشئت هذه الأبنية بالطين المجفَّف بالشمس ولكن الأدراج بنيت من الطين المشوي وغُطِّيت جميعها بطبقة طين مشوي بسماكة حوالي 2.4 م مثبته بمونة من القار. تقيس المنصة المستطيلة السفلية بحوالي 60*45 م وترتفع حوالي 15م. تتبّع العلماء آثار المنصتين الثانية والثالثة، ومن المفترض أنّ المقام المقدس كان يستقر في أعلى المنصة الثالثة رغم أنه لم يبقَ أثرٌ لأيّ مقامٍ مقدّس في أية زيقورة.
وعلى الرغم من الاعتقاد أنّ الزيقورات في الفترات اللاحقة قامت على أنقاض زيقورات أقدم، وأنّ البنيتان المبنيّتان من الطين المشوي المحدب في فترة السلالات الحاكمة المبكِرة والمتواجدتان في كيش (تل إنغارا حالياً) قد تكون زيقورات أيضاً ولكن هذه البنى غير معروفة وربما كانت من نموذج معابد المنصات وليس زيقورات.
لاحقاً في الفترة البابلية المتأخرة، تم بناء الزيقورات في أغلب المدن الرئيسية في بلاد ما بين النهرين كما في لارسا، وبابل، وسيبار، وآشور، وقطارة، وشُبات إنليل (تل ليلان). بُنيت الزيقورات فيما بعد في العواصم. تم تجديد أو إعادة بناء العديد من الزيقورات في فترة حكم الملوك البابليين الجدد، وأشهر هذه الزيقورات كانت زيقورة بابل (المعبد الذي يُعتبر أساس الجنة والأرض)، الّذي استوحي منه برج بابل المذكور في الإنجيل. يُعتقَد أنّ البنية الأولية لمعبد بابل بُنيت من قبل حمورابي (1792-1750 ق.م)، وتم تجديده من قبل نبوخذنصر في القرن السادس قبل الميلاد.
تعطي النصوص المسمارية اسم أكيتو لنمط معين من المعابد والذي ارتبط بنوع معين من الطقوس خاصة ببداية السنة، وبُنِيَت خارج حدود جدران المدينة كما في أوروك، وبابل، وآشور.
وهكذا نكون قد تعرّفنا على معابد حضارة ما بين النهرين من حيث تطوُّرها وأنواعها. سنتعرّف في الجزء الثالث والأخير على القصور، والمقابر، والتحصينات، والجسور، والحدائق وخاصةً حدائق بابل المعلقة الذائعة الصيت. فلا تدعوا هذه الرحلة الشيّقة تفوتكم وتابعوا معنا الجزء الثالث.
المصدر: