التاريخ وعلم الآثار > حضارة اسلامية
دولة المماليك (1250–1517)... 2- ما الذي يميز دولة المماليك؟ وهل أنصفهم التاريخ؟
الفن والعمارة في العصر المملوكي:
اهتم المماليك بالفن والعمارة اهتمامًا كبيرًا وكما ينقسم الحكام المماليك إلى سلالتين البحرية والبرجية تميزت كل منهما بالفن والعمارة.
الشكل(1): مبخرة من أواخر القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، سورية- دمشق
في الحقيقة يُعَرّف الفن والعمارة لمرحلة السلالة البحرية بفن العصر المملوكي عمومًا فقد دعمت الرفاهية الناتجة من تجارة الحرير والبهارات الرعاية السخية للمماليك. وعلى الرغم من مراحل الصراعات الداخلية كان لهم نشاط فني وعمراني هائل، إذ طوروا تقنيات أسسها الأيوبيون ودمجوها بتأثيرات لأجزاء مختلفة من العالم الإسلامي، وقد ساهم اللاجؤون من الشرق والغرب بهذا الزخم. كان لفن الزخرفة المملوكي قيمة كبيرة حول حوض المتوسط وأوروبا وبخاصة الزجاج المصقول والمُذّهب والمعادن المُرصعة والأعمال الخشبية والمنسوجات إذ كان لها تأثير عميق في الناتج المحلي ويعد تأثير الأواني الزجاجية المملوكية في صناعة الزجاج الفينيسي واحدًا من أهم الأمثلة على ذلك.
الشكل (2): زجاج مصقول ومزخرف من أواخر القرن الثالث عشر ، مصر
في عهد حليف بيبرس وخليفته قلاوون بدأت رعاية المؤسسات العامة والدينية بمافي ذلك المدارس (المدرسة هنا تعني مكان التعليم الديني كالكتاتيب) والأضرحة والمآذن والمستشفيات. لم يحافظ مُجمع الهبات هذا على ثروة الراعي فحسب بل خلد اسمه أيضا، والاسم والثروة أمران معرضان للخطر لأمور قانونية تتعلق بالوراثة ومصادرة ثروة العائلة. إضافة إلى مجمع قلاوون كان هناك مجمعات أخرى لمماليك البحرية كتلك التي أقامها الناصر محمد (1295–1304) والمجمع العظيم والرائع للسلطان حسن الذي بدأ عام 1356م. قلد الأمراء المتنفذين وأصحاب المناصب العالية تلك المنشآت إذ بنوا مؤسسات مشابهة كمجمع سلار وسنجار الجوالي الذي بدأ عام 1303م ومجمع الأمير شيخون العمري(1350–55).
الشكل (3): بوابة خشبية 1325–30 القاهرة
اتبع مماليك البرجية التقليد الفني الذي أسسه أسلافهم من مماليك البحرية وفي عهدهم استمرت رعاية الفن والعمارة على الرغم من أن دولتهم تعرضت لأكبر التهديدات الداخلية والخارجية في بداية القرن الخامس عشر، بما في ذلك تدمير مناطق نفوذهم في شرق المتوسط على يد غازي وسط آسيا التتري تيمورلنك (1370–1405)، إضافة إلى المجاعة والطاعون والصراعات الأهلية في مصر. كان للمنسوجات والسجاد المملوكي قيمة كبيرة في التجارة الدولية حينها، وفي العمارة بقيت رعاية المؤسسات العامة والدينية مفضلة لدى الحكام. تضمنت رعاية العمارة في بداية عهد مماليك البرجية في مصر مجمعات كل من السلاطنة الظاهر سيف الدين برقوق (1382–99) وناصر الدين فرج (1399–1412) والمؤيد شيخ (1412–21) والأشرف سيف الدين برسباي (1422–38).
ساهمت تجارة المنسوجات المربحة في مناطق نفوذ المماليك في شرق المتوسط بإحياء الاقتصاد إضافة إلى النشاط التجاري على طريق الحج إلى مكة والمدينة. وبُنيت كثير من المستودعات كخان القاضي (1441م) لتلبية حاجة التجارة المندفعة بقوة. وبنى المماليك عددًا من المؤسسات العامة كجامع آقبغا الأطروش أو الدمرداش في حلب والمدرسة الصابونية (1464م) والجقمقية (1421م) في دمشق .
الشكل (4): سجادة من العصر المملوكي 1500 القاهرة
ازدهر الفن في النصف الثاني من القرن الخامس عشر برعاية السلطان قايتباي (1468–96) وهو أحد أعظم سلاطنة المماليك الأواخر، ففي عهده رممت مزارات مكة والمدينة ترميمًا كبيرًا وعُززت المدن الرئيسة بالمباني التجارية والدينية والجسور كمجمع قايتباي في القاهرة الذي يعدّ أشهر وأهم بناء لتلك الحقبة. وشجع قايتباي الأمراء المنفذين والضباط الكبار على البناء أيضًا. استمر البناء حتى حُكم آخر سلاطنة المماليك قانصوه الغوري (1501–17) الذي أمر ببناء مجمع باسمه ولكن وسائل بناءه عكست الحالة المادية للدولة في حينها ففي ذلك الوقت كان البرتغال يسيطرون على المحيط الهندي ويمنعون المماليك من التجارة التي كانت أهم مصادر ربحهم. وعلى الرغم من أن مناطق حكم المماليك انتقلت إلى العثمانيين عام 1517م إلا أن ثقافتهم الفنية بقيت تؤثر في العثمانيين والتقاليد الإسلامية الأخرى.
الضعف وانهيار دولة المماليك:
بعد سنوات القوة والازدهار في القرن الثالث عشر وفي منتصف القرن الرابع عشر تحديدًا، بدأ الانحدار الاقتصادي والديموغرافي لدولة المماليك وكان ذلك نتيجة عوامل مختلفة كانتشار الطاعون والهجمات البحرية من البندقية وجنوة ونهب الإسكندرية من مملكة قبرص الصليبية عام 1365م إضافة إلى غارات القبارصة البحرية على الساحل السوري في السنوات التالية. في الحقيقة لم يستثنِ الطاعون أو الموت الأسود بين عامي 1347م و1349م أحدًا ولكن المماليك كانوا الأكثر تأثرا كونهم أغراب عن المنطقة فقد فقدوا كثيرين منهم وبخاصة الشباب. وما زاد المماليك ضعفًا كانت هجمات تيمورلنك عام 1400م على سورية إذ هاجم حلب ونهبها ثم دمشق وعقب ذلك هجمات بحرية للمارشال جان بوسيكو Jean Boucicaut على موانىء سورية في صيف عام 1403م التي زادت من أضرار المماليك. أصبحت مصر وسورية بعدها تنزفان ولم تستعيدا رفاهية أوائل القرن الرابع عشر وقوته بعد ذلك. كانت المرحلة الأخيرة من حكم المماليك أزمات متواصلة ومقدرة ضعيفة للتعامل معها ويعود ذلك جزئيا إلى ضعف القيادة فقد كان قانصوه الغوري (1501-1516) آخر سلاطين المماليك كبيرًا في السن وخلال حكمه واجه انهيار تجارة المماليك في البحر بسبب اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح واتساع نشاطهم في المحيط الهندي وكان لذلك أثر شبه مُدمر على تجارة المماليك في المتوسط وقوة سلطانهم.
ودفع ارتفاع سلطان الصفويين السلطان العثماني سليم إلى التحرك ضد المماليك إذ اصطدم الجيشان في معركة مرج دابق وهُزم جيش المماليك وقُتل في أثناء المعركة السلطان المملوكي قانصوه الغوري وتحرك جيش آخر بقيادة طومان باي وهُزم هو الآخر على مشارف القاهرة في كانون الثاني 1517م.
نهاية المماليك:
على الرغم من قضاء السلطان العثماني سليم على سلطنة المماليك إلا أن هذا لم يعنِ نهاية المماليك فقد أصبحت مصر خاضعة لحكم ممثل عن أتراك (الباشا) إلا أن القوة الفعلية بقيت بيد المماليك (البايات أو البكوات) وعلى الرغم من ضم مصر إلى الدولة العثمانية إلا أن عثمنة الدولة كانت محدودة والحكم كان فعليًا بيد المماليك والحكام المحليين.
في أواخر القرن الثامن عشر بدأ الضعف ينخر جسد الإمبراطورية العثمانية إذ تعرضت لخسارات عدة. كانت مصر تُحكم من مماليك القوقاز باسم الدولة العثمانية وكان الحكم مُقسمًا بين أمير البلاد الذي كان يومها مراد بيه وأمير الحج إبراهيم بيه وخلال حكمهما بدأت الحملة الفرنسية على مصر.
في الحقيقة كان القضاء على المماليك في مصر أحد أهداف نابليون المعلنة وقد زعم في خطابه للناس في الإسكندرية أنه قادم ليعاقب المماليك ونعتهم بالعبيد لما فعلوه بأجداده الصليبين وليحرر المصريين من حكمهم. قاد مراد بيه الجيش ليلاقي جيش الفرنسيين القادمين من الإسكندرية إذ هُزم جيش المماليك في معركة شبراخيت ثم هزم جيش المماليك ثانية في معركة حاسمة في إمبابة وسميت معركة الأهرامات وعزا الجبرتي في كتابه الهزيمة إلى انقسام في جيش المماليك. لم يعنِ ذلك نهاية قوة المماليك فقد استجمعوا قواهم وقابلوا الفرنسيين في معركة الصالحية إذ كانت شجاعتهم وقوتهم بوصفهم محاربين مشهود لها وقد وصفها قائد اللواء الفرنسي ديتروي Detroy قائلًا: "لم أرَ شيئا في حياتي يشبه شجاعة المماليك ولا مثل رشاقتهم بالتلاعب بالأسلحة فاليد التي تطلق النار هي نفسها التي تقطع بالسيف"
الشكل (5): معركة الأهرامات
أضعفت الحملة الفرنسية المماليك إضعافًا كبير ولكنها لم تستطع إنهاءهم إلى أن جاء حكم محمد علي باشا 1805 إذ بدأ يتخذ الخطوات للقضاء عليهم وضرب أعناق بعض قادتهم وفي 1 آذار عام 1811م دعا محمد علي قادة المماليك إلى مأدبة في قلعة القاهرة احتفالًا بتقليد ابنه أحمد طوسون منصب قيادة الجيش وفي أثناء خروج المماليك من القلعة جرت تصفيتهم من جنود محمد علي وبأمر منه وبذلك انتهى وجود المماليك وسلطتهم في مصر.
الشكل (6): مذبحة القلعة
المصادر: