العمارة والتشييد > المدارس المعمارية
عمارةُ Neolithic في شمالِ غربي أوروبا
صِيغَ مصطلحُ الـ Neolithic في نهايةِ القرنِ التَّاسعِ عشر للإِشارةِ إلى العصرِ الحجريِّ الحديث والذي شهدَ ثورةً أدَّت لتغيُّراتٍ ضخمةٍ في الحياةِ الاجتماعيَّةِ، كظهورِ الزِّراعةِ وتدجينِ الحيوانات، ممَّا شكَّلَ مقدِّمةً للانتقالِ إلى حياةِ الاستقرار. تختلفُ هذهِ الحقبةُ بينَ منطقةٍ وأخرى، وتمتدُّ في شمالِ غربي أوروبا منذُ العامِ 4500 ولغايةِ العامِ 1700 ق.م، حيثُ شهدت العمارةُ خلالَها تطوُّراً كبيراً في التِّقنيَّاتِ. سنستعرضُ تالياً ثلاثةً من أشهرِ المواقعِ المعماريَّةِ التي شُيِّدت في هذا العصر:
موقعُ Locmariaquer:
موقعٌ يقعُ شمالَ غربيّ فرنسا نالَ شهرتَهُ بسببِ احتوائِه على منشآتٍ ضخمةٍ تقعُ على مسافةٍ متقاربةٍ من بعضِها، يرجعُ تاريخُ بنائِها إلى الألفِ الخامسِ قبلَ الميلاد، وتُعتبرُ معالمُ هذا الموقعِ من أكثرِ معالمِ العصرِ الحجريِّ الحديثِ روعةً، ومن أبرزِها:
- Grand Menhir وهوَ حجرٌ بركانيٌّ ضخمٌ من الجرانيت ارتفاعهُ 20 م ويزنُ حوالي 280 طن، انتصبَ شاقوليَّاً حوالي العام 4500 ق.م ليشكِّلَ شاهداً حجريَّاً (يشبهُ المِسلَّة). تظهرُ عندَ قاعدتِهِ علاماتٌ لمسامير وتجاويف وُضِعت لضمانِ استقرارِهِ وثباتِهِ، ومعَ ذلكَ فقد سقطَ هذا الحجرُ العملاقُ بعدَ عدَّةِ قرونٍ أي حوالي العام 4000 ق.م وتجزَّأَ إلى أربعةِ قطعٍ كبيرةٍ، وقد وضعت عدَّةُ فرضيَّاتٍ تفسِّرُ سببَ التَّحطُّمِ: هبوبُ الرِّياح القويَّةِ، إصابتُه بصاعقةٍ، حدوثُ زلزالٍ أو حتَّى التَّحطيمُ المتعمَّد.
تمَّت معالجةُ سطحهِ باستخدامِ مطارقَ من الكوارتز لإعطائِه ملمساً ناعماً، وتُعتبرُ المهاراتُ الهندسيَّةُ التي وُظِّفت لنقلِ وإرساءِ هذهِ الكتلةِ الحجريَّةِ الضَّخمةِ في الأرض مثيرةً للدَّهشةِ والإعجابِ لاسيَّما وأنَّ أقربَ مصدرٍ لهذهِ الحجارةِ يبعدُ 10 كم عن الموقع.
- Er Grah Tumulus وهوَ مدفنٌ يقعُ بالقربِ من Grand Menhir، تطوَّرَ عبرَ الزَّمنِ بدءاً من العامِ 4500 ق.م كمجموعةٍ من تلالِ الدَّفنِ والخنادقِ بالإضافةِ لبعضِ المساكنِ. لاحقاً تمَّ تشييدُ مجموعةٍ من الحجارةِ المتراكمةِ الصَّغيرةِ نسبيَّاً يتوسَّطُها حجرٌ مركزيٌّ ضخمٌ ما زالَ موجوداً إلى يومنا هذا، وفي العام 4000 ق.م تمَّت توسعةُ المنشأةِ باستخدامِ حجارةٍ نُحتَ سطحُها بشكلٍ مشابهٍ للحجارةِ الموجودةِ سابقاً. مسقطُ المنشأةِ شبهُ منحرفٍ بطولِ 140 م وعرضٍ يتراوحُ بينَ 16 إلى 26 م وبارتفاعٍ لا يزيدُ عن المترين، وخُصِّصت كمدفنٍ لشخصٍ واحدٍ، كما أظهرت عمليَّاتُ التَّنقيبِ وجودَ أدواتٍ من حجرِ الصَّوَّانِ وأطباقٍ فخَّاريَّةٍ ومجوهرات.
- Table des Marchands Tumulus وهو مدفنٌ حجريٌّ ضخمٌ تبلغُ أبعادُه 30 * 25 م. بُنيَ حوالي العام 4000 ق.م، واشتُقَّ اسمُه من بلاطتِه الحجريَّةِ الكبيرةِ، حيثُ تبلغُ أبعادُها 7 * 4 م، ويبلغُ سقوطُها 80 سم، حيثُ تشكِّلُ هذهِ البلاطةُ جزءاً من سقفِ القاعةِ الدَّاخليَّةِ، والتي يمكنُ الوصولُ إليها من خلالِ ممرٍّ يتَّصلُ بالمدخل. سُقفت القاعةُ والممرُّ ببلاطاتٍ أفقيَّةٍ تستندُ على حجارةٍ كبيرةٍ منتصبةٍ شاقوليَّاً وترتفعُ 2.5 م، وشُيِّدت هذهِ الحجارةُ بأسلوبٍ جافٍّ (دونَ استخدامِ المونةِ الرَّابطةِ). سمحَ وجودُ الممرِّ بإضافةِ قبورٍ أخرى للمدفنِ عبرَ العصورِ، كما نُقشت على الجدرانِ الدَّاخليَّةِ منحوتاتٌ متنوِّعةٌ تمثِّلُ عصا الرَّاعي والثِّيران والفؤوس.
موقع Barnenz:
يقعُ في إقليمِ Finestère Brittany الفرنسيّ، الموقعُ عبارةٌ عن مجموعةٍ هائلةٍ من الحجارةِ المتراكمةِ المبنيَّةِ بالأسلوبِ الجاف (دونَ استخدامِ المونةِ الرَّابطة)، اكتُشفَ الموقعُ في العام 1955 م، وبُنيَ على عدَّةِ مراحلَ بينَ العامين 4500 و3500 ق.م. مسقطُ المنشأةِ شبهُ منحرف بطولِ 74 م على امتدادِ المحورِ الشَّرقيّ الغربيّ، يبلغُ عرضُ نهايتهِ الغربيَّةِ 29 م، والشَّرقيَّة 17.5 م. تحتوي المنشأةُ على 11 مدخلاً مقعَّراً يقعُ على نفسِ المحورِ في الواجهةِ الجنوبيَّةِ لتمتدَّ منها باتّجاهِ الشَّمالِ مشكِّلةً ممرَّات تُفضي إلى حجراتِ الدَّفن، ويمكنُ تقسيمُ المنشأةِ لقسمين أساسيين تبعاً لمواد بناءِ كلٍّ منهما، يحتوي القسمُ الأوَّلُ على 5 مداخلَ في موقعٍ مرتفعٍ نسبيَّاً، أما القسمُ الثَّاني فيحتوي 6 مداخل بُنيت في فترةٍ لاحقةٍ على منحدرٍ خفيف.
يبدو تصميمُ حجراتِ الدَّفنِ متشابهاً على امتدادِ المنشأةِ، أما الممرَّاتُ فاختلفت أشكالُها نظراً لبنائها في فتراتٍ مختلفةٍ. بعضُ هذه الممرَّاتِ ذو جدرانٍ مبنيَّةٍ من الحجارةِ المتراصَّةِ التي تقتربُ من بعضِها في الأعلى لتشكِّلَ أسقفاً شبيهةً بالقبوات، في حين بنيَ البعضُ الآخرُ منها باستخدامِ حجارةٍ كبيرةٍ منتصبةٍ شاقوليَّاً مسقوفةٍ بحجارةٍ أفقيَّةٍ، وفي بعضِ الحالاتِ استُخدمت كلتا التقنيَّتين سويَّاً.
موقعُ Stonehenge:
موقعٌ يعودُ للعصرِ الحجريِّ الحديث، يقعُ في Salisbury Plain، Wiltshire جنوبِ انكلترا، شُيِّدَ الموقعُ على عدَّةِ مراحل، ويرجعُ تاريخُ أوَّل نصبٍ فيه إلى العام 3100 ق.م تقريباً، وهو عبارةٌ عن منطقةٍ دائريَّةٍ مسطَّحةٍ من الأرض (Henge)، محاطةٍ بحاجزٍ ترابيٍّ دائريّ بقطرِ 110م. يرجَّحُ أن يكونَ الموقعُ احتوى على بنيةٍ حلقيَّةٍ من 56 عموداً من الخشبِ أو الحجرِ تبعاً للحفرِ الموجودةِ في الموقعِ والتي سُمِّيت بعد القرنِ السَّابع عشر بحفر Aubrey نسبةً للآثاري المحليّ John Aubrey.
حوالي العام 3000 ق.م بُنيت بعضُ المنشآتِ الخشبيَّةِ ضمنَ المغلِّفِ الدَّائريّ الذي وُظِّفَ كمكانٍ لإحراقِ جثثِ الموتى، أمَّا المرحلةُ الأهمُّ كانت حوالي العام 2550 ق.م، حيثُ تمَّ إعادةُ تصميمِ المغلِّفِ الدَّائريّ وتحويلِهِ إلى نصبٍ حجريٍّ فريدٍ، ففي البدايةِ نُصبت دائرتان متَّحدتا المركز (أحياناً تُعرفُ بدائرةِ الحجارةِ الزَّرقاءِ المزدوجة) باستخدامِ 80 دعامةً حجريَّةً من حجرِ البازلت الأزرق (Bluestone) في وسطِ النَّصب، وتزنُ كلُّ واحدةٍ من هذه الدَّعامات حوالي 4 طن، ويُرجَّحُ أنَّها نُقلت إلى الموقعِ عبرَ طريقٍ بطولِ 298 كم. بالإضافةِ لدعاماتِ البازلت الأزرق، شُيِّدت بلاطةٌ من الحجرِ الرَّمليّ المخضرِّ بطولِ 5 م تقريباً، وتعرفُ الآن باسمِ حجرِ المذبح (Altar Stone)، ويُعتقدُ أنَّهُ في هذه المرحلةِ أُعيدَ تصميمُ المدخلِ الشَّماليِّ الشَّرقيِّ، حيثُ أُعيدَ توجيههُ لينتظمَ محوره بدقَّةٍ مع محورِ شروقِ شمسِ منتصفِ الصَّيفِ ومحورِ غروبِ شمسِ منتصفِ الشِّتاء. يتَّصلُ هذا المدخلُ بطريقٍ ينحدرُ نحوَ نهرِ Avon القريبِ من الموقع، حيث يُعتقدُ بأنَّ هذا الطَّريق خاصٌّ بطقوسِ الموقعِ، ويتشكَّلُ هذا الطَّريقُ من أزواجٍ متوازيةٍ من الخنادقِ والضِّفافِ التي تصلُ إلى النَّهرِ ويبلغُ طولُ هذا الطَّريقِ 2.4 كم تقريباً.
وفقاً للأستاذِ الجامعيّ المختصِّ بعلمِ الآثارِ Mike Parker Pearson فقد شُيِّدَ في الموقعِ في الفترةِ ما بينَ عاميّ 2640 و2480 ق.م دائرةٌ مستمرَّةٌ قطرُها 98 م من ثلاثين قطعة حجريَّة رمليَّة (Sarsen) يبلغُ ارتفاعُ الواحدةِ منها 4.1 م ويبلغُ عرضُها 2.1م تقريباً، في حين تزنُ حوالي 25 طن. وُضعت على قممها حجارةٌ رمليَّةٌ أفقيَّةٌ مستمرَّةٌ وارتبطت مع الحجارةِ الشَّاقوليَّةِ وفقَ مفاصلِ الحفرةِ واللِّسان. داخلَ هذهِ الدَّائرةِ الحجريَّةِ شُيِّدت خمسةُ تكويناتٍ ثلاثيَّةٍ (Trilithons) من الأحجارِ الرَّمليَّةِ (حجرين شاقوليين يعلوهما حجرٌ أفقيّ) لتأخذَ شكلَ حدوةِ الحصانِ، وفي الفترةِ ما بين عامي 2280 و1900 ق.م، أُعيدَ ترتيبُ دعاماتِ البازلت الأزرق الـ 80 ثلاثَ مرَّاتٍ على الأقل، ويُلحظُ في التَّشكيلِ النِّهائيّ الذي يمكننا مشاهدتُه اليوم ترتيبها بشكلِ حدوةِ حصانٍ تُسايرُ حدوةَ الحصانِ المشكَّلةِ من التَّكويناتِ الثُّلاثيَّةِ باتّجاهِ المركزِ بالإضافةِ لدائرةٍ كاملةٍ توسَّطت بينَ دائرةِ الأحجارِ الرَّمليَّةِ والتَّكويناتِ الثُّلاثيَّة.
في الفترةِ بينَ 2030 و1520 ق.م نُفِّذت حلقةٌ مزدوجةٌ من الحُفرِ المستطيلةِ تُعرفُ اليومَ بحفرِ (Y،Z) خارجَ دائرةِ الأحجارِ الرَّمليَّةِ ، وفُسِّرَ ذلك كتحضيرٍ لإضافةِ بنيةٍ جديدةٍ من الحجارةِ، لكن لا يوجدُ دليلٌ على أنَّها استُعمِلت ممَّا أدَّى معَ مرورِ الزَّمنِ إلى امتلائِها بالطِّين نتيجةَ العواملِ الطَّبيعيَّة، وتُعتَبرُ هذهِ الحُفر آخرَ تأثيرٍ هامّ للنَّشاطِ الإنسانيِّ ضمنَ الموقع.
رغم بَساطةِ هذهِ التَّكويناتِ المعماريَّةِ، فقد كانتِ اللَّبنة الأولى لرحلةِ البناءِ الطَّويلة والتي وصلت إلى التَّطوُّرِ الكبيرِ الذي نُشاهدهُ اليوم.
المصادر:
1 - هنا
2 - هنا
3 - هنا
4 - هنا
5 - هنا