المعلوماتية > الذكاء الصنعي
حقيقة إغلاق فيسبوك لأحد برامج الذّكاء الصّنعيّ
من اللّحظةِ الّتي نستيقظُ فيها، نبدأ بالحوارِ مع الأشخاصِ الموجودينَ في محيطنا، فحياتنا كلُّها عبارةٌ عن نقاشاتٍ، بدءًا من البسيطةِ كالنقاش حولَ الفاكهةِ المفضَّلةِ ووصولًا إلى النّقاشاتِ المعقَّدة. والعاملُ المشتركُ بينها كلَّها هو أنَّها تتطلَّبُ مهارةَ المحادثةِ والتّفكيرِ وربطِ الأسبابِ والنّتائجِ وهذا كلُّه غيرُ موجودٍ في الحاسباتِ الآليّةِ.
حتّى وقتَنا الحاليِّ كلُّ الّذي تمَّ تطويره هو بوت Bot ،وهو عبارةٌ عن روبوتِ محادثةٍ (Chat Bot) مصمَّمٍ باستخدامِ تقنيّاتِ الذّكاءِ الصُّنعيِّ تستطيعُ القيامَ بمهامَ بسيطةٍ كلحجزِ الفندقيِّ، ولكنَّ بناءَ آلةٍ تستطيعُ القيامَ بمحادثةٍ كاملةٍ منَ الصّفرِ أمرٌ يشكِّلُ تحدٍّ لعلماءِ الحاسبِ فهو يتطلَّبُ الرَّبطَ بينَ فهمِ المحادثةِ والمعرفةِ العامّةِ للأمورِ ومن ثمَّ توليدُ الرَّدِّ المناسب.
استطاعَ الباحثونَ إجراءَ محادثةٍ بين نظامَي ذكاءٍ صنعيٍّ وبعدَ بدءِ المحادثةِ بقليلٍ، قاموا بايقافِها لأنَّ المحادثةَ ظهرت بلغةٍ غيرِ مفهومةٍ للبشر. والسّؤال، كيف حصلَ ذلك!؟
تمكّنت مجموعةٌ من الباحثينَ ضمنَ مركز أبحاثِ فيسبوك للذَّكاءِ الصُّنعيِّ FAIR هنا من تطويرِ نظامٍ جديدٍ قادرٍ على المحادثةِ والوصولِ إلى صفقةٍ أو اتّفاقٍ في النّهايةِ. ودرسوا ضمنَ بحثِهم هنا التَّفاوضَ بينَ طرفينِ على مجموعةٍ من الأغراضِ في محاولةٍ منهم لتقسمِ هذه الأغراضِ (مثلًا كتابَينِ وقبعةً وثلاثَ كراتٍ). كلُّ طرفٍ يقييمُ هذه الأغراضَ بحسبِ درجةِ أهميّتِها ورغبتِهِ في الحصولِ عليها (مثلًا الكرة تساوي 3 نقاطٍ للطّرفِ الأوّل)، وبالتّالي كلَّما أردتَ الحصولَ على الشّيءِ ستعطيهِ قيمةً أعلى.
أوجَدَ الباحثون العديدَ من السيناريوهات وضمنوا أنّه لن يحصلَ كلا الطّرفانِ على الصّفقةِ الأفضلِ في نفسِ الوقت، بشرطٍ إضافيٍّ هو ألّا يزيدَ عددُ جولاتِ المحادثةِ بين الطّرفين على عشرِ جولاتٍ.
ولأنَّ التَّفاوضَ بحدِّ ذاتِهِ مشكلةً لغويّةً ومنطقيّةً يجبُ فيها صياغةُ النّيّةِ بشكلٍ شفهيٍّ وإيصالها بشكلٍ مفهومٍ للطَّرفِ الآخرِ، فإنَّ الهدفَ الأساسيَّ بعيدَ المدى للباحثينَ هو الوصولُ إلى آليّةٍ لبناءِ حوارٍ طويلٍ بين كافّةِ الأطرافِ المشاركةِ في النّقاش. وعندما تستطيعُ البوتاتُ بناءَ نماذجَ ذهنيّةً لمحاوريها وتوقُّعَ الاتجاهِ الّذي سوفَ تأخذُه المحادثةُ في المستقبلِ سوفَ تستطيعُ وقتها الابتعادَ عن المحادثاتِ غيرِ المُجديَةِ والمربكةِ والّتي تمنعُ حصولَ اتّفاقٍ ناجحٍ بين الطّرفين.
طوّرَ الباحثون الأجزاءَ التّمهيديّةَ من الحوارِ كطريقةٍ جديدةٍ ليحاكي البوت هذه المحادثةَ، وبالتّالي حاولوا إيجادَ التّوقُّعاتِ النّهائيّةِ للمحادثةِ والحصولَ على الحدِّ الأقصى من الصَّفقة المتوقَّعةِ.
طُبِّقَ العديدُ من هذه الأفكارِ في مجالِ الألعابِ ولكن لم تُطبّق بعد في مجال اللُّغاتِ لأنَّ النّتائجَ والخياراتِ المُتاحةِ غيرُ محدودةٍ. ولتحسينِ كفاءةِ هذه البرمجيّاتِ ولَّدَ الباحثونَ بدايةً شريحةً صغيرةً من الكلمات حتّى تُستعمَلَ في النّقاش، ومن ثمّ محاكاةُ مايؤولُ إليه الحوار كاملًا لمعرفةِ مدى نجاحِ هذه التّجربة.
كانت الدّقةُ في هذه الحالةِ عاليةً جدًّا ممّا أدّى إلى تطويرِ النّقاشِ في المجالاتِ التّاليةِ:
- تفاوضٌ أكثرُ صعوبةً: أصبحت الأطرافُ المتفاوضةُ تقومُ بنقاشاتٍ أطولَ مع البشرِِ وتقبلُ الصَّفقاتِ بشكلٍ أبطأَ. وفي حينِ أنَّ نقاشَ البشرِ قد ينتهي بعدمِ الاتّفاقِ فهذه البوتاتُ عنيدَةٌ بحيث أنّها لن تُنهي التّفاوضَ قبلَ تحقيقِ صفقةٍ رابحةٍ.
- المناوراتُ الذّكيّة: في بعضِ الحالاتِ اهتمَّ البوت بغرضٍ منخفضِ القيمةِ ليعرِضَهُ في النّهايةِ كتسويةٍ مقابلَ ربحٍ ما – وهذا تكتيكٌ تفاوضيّ يستخدمُه النّاسُ بانتظامٍ – مع العلم أنَّهُ لم تتمُّ برمجةُ البوتِ على هذا السّلوكِ بل اكتشَفَهُ من تلقاءِ نفسِه.
- إنتاجُ جملٍ جديدةٍ: على الرَّغمِ من أنّ النّماذجَ العصبيّةَ مُصمَّمةٌ لتكرارِ جملٍ معيّنةٍ من خلالِ التّدرُّبِ عليها، لكنَّ التّجربةَ أظهرت أنَّ نماذجَ البوتاتِ قادرةٌ على توليد جملٍ جديدةٍ عند الضّرورةِ.
بناءُ وتقييمُ مجموعةِ بياناتٍ للتّفاوض:
لتدريب البوتاتِ على التّفاوضِ جمعَ فريقُ الباحثينَ عددًا من المفاوضاتِ الّتي جرت بين البشرِ، حيثُ أعطوهم مجموعةَأغراضٍ ليُقيموها ويوزّعوها فيما بينهم. ومن ثمَّ درّبوا الشَّبكةَ العصبيّةَ من خلالِ هذه التَّجارب، بالتّالي أصبحت هذه النّماذجُ قادرةً على تخمينِ ما سيقولُه الإنسانُ في أيّة لحظةٍ من النّقاشِ.
ولتجنُّبِ مجرَّدِ محاولةِ تقليدِ البشرِ، قامَ الباحثونَ بالسّماحِ للنّماذجِ بتحديدِ هدفِها من التّفاوض، بالتّالي كان عليهم إخضاعِها إلى الآلافِ من عمليّاتِ التّفاوضِ فيما بينها واستخدامِ التّعليمِ المعزّز reinforcement learning - وهو نظامُ تعليمٍ يسمحُ للآلاتِ بتحديدِ السّلوكِ المثاليِّ في سياقٍ معيّنٍ من أجلِ تحقيق أقصى قدرٍ من أدائها – لمكافأةِ النّموذجِ الّذي يقوم بتحقيقِ نتيجةٍ جيّدةٍ. كما درّبوها في الوقتِ نفسِه على لغةِ البشرِ لمنعِها من تطويرِ لغةٍ خاصّةٍ بها.
ولفحصِ هذه البوتاتِ اختبرَها الباحثون من خلالِ محادثاتٍ مع البشرِ على مواقع الإنترنت، ولم يدرك معظمُ الأشخاصِ أنّهم كانوا يتحدثون مع بوتاتـٍ ممّا أثبتَ أنَ هذه النّماذجَ أتقنت اللّغةَ الإنكليزيّةَ بطلاقةٍ. كما وحققت هذه النّماذجُ نتائجَ رائعةً في الصّفقاتِ ممّا أثبت نجاحها في اختيارِ ما تقولُ بذكاءٍ وليسَ فقط في اللّغةِ الإنكليزيّة.
تعزيز التّعليم لبوتاتِ المحادثة:
تهدف تقنيّات الإشرافِ على التّعليمِ والتّعليمِ المُبكِّرِ إلى تقليدِ نقاشاتِ البشرِ وتعليمِ البوتِ اللّغةَ ومعاني الكلماتِ، أمّا التّعليمُ المعزِّزُ فيهدفُ الى مساعدةِ البوتِ في اتّخاذِ قرارٍ معيَنٍ وصياغةِ الكلامِ الّذي يقولُهُ والتّحكُّمُ في سيرِ الصّفقةِ.
أمّا السّببُ الحقيقيُّ وراءَ إغلاقِ المحادثةِ الّتي تمّت في هذا المشروعِ ليس كما تناقلَتُهُ أغلبُ المواقعِ الإعلاميّةِ، بأنه تمَّ بعد أن طوَّرَ النّظامُ لغةً خاصّةً به، فعندما اختبرَ المشاركونَ في المشروعِ النّظامَ من خلال إجراءِ صفقةٍ طَرَفَيها بوتٌ إلكترونيٌّ، اكتشفَ المبرمجونَ أنّهم ارتكبوا خطأً من خلالِ عدمِ تحفيزِ البوتِ بالحديثِ بلغةِ البشرِ المفهومَةِ، فبدأ النّقاشُ بلغةٍ تحوي الكثيرَ منِ الأخطاءِ اللُّغويّةِ والنّحويّةِ ممّا جعلَها غيرَ مفهومةٍ.
بالتّالي أوقفوا هذا النّقاشِ إلى حينِ تطويرِ البوتِ مرّةً أُخرى للتّحدُّثِ بلغةٍ مفهومةٍ، لأنّهُم وببساطةٍ كانوا يطمحون لإيجادِ نظامٍ يتكلَّمُ كالبشرِ، وفيما يلي مثالٌ توضيحيٌّ عن المحادثةِ الّتي حصلت.
ونذكرُ هنا حادثةٌ مشابهةٌ عامَ 2016 هنا عندما أُطلِقَ بوتُ محادثةِ Tay من مايكروسوفت ومن ثمَّ أُقفَ بعدَ أن ابتكرَ عباراتٍ عنصريّةٍ ونشرَها.
يمثِّلُ هذا العملُ خطوةً هامّةً في مجالِ الأبحاثِ المرتكزةِ على موضوعِ تطويرِ الذّكاءِ الصُّنعيِّ في مجالِ التّفاوضِ وتصميمِ المساعدينَ الشَّخصيِّينَ الإلكترونيّين.
هامش: لا تنسى الاشتراكَ بـ "بوتِ الباحثين" على تلغرام من خلالِ البحثِ عن الاسم: @SRESBot.
المصدر: