التعليم واللغات > اللغويات
لاستماع للغتين: الوصفة السحريّة لطفلٍ ثنائيّ اللغة
يتعلم الأطفال الناشؤون في أوساط ثنائية اللغة لغتين في وقتٍ واحدٍ دون إرباك أو تأخير. غير أن الآليات التي تدعم هذا الإنجاز الملحوظ لا تزال غير واضحةً. وهنا، كانت هذه الدراسة التي تتناول بالبحث ما إذا كان تعلم لغتين في آنٍ معاً عملية صعبة على أدمغتنا سواء كنا أطفالاً أو بالغين.
على المربّين والمعلمين معرفة أن الأطفال الذين ينشؤون بين لغتين تكون لديهم القدرة الكافية على تعلم وفهم تعقيدات اللغتين معاً وذلك عن طريق الاستماع فقط. ففي دراسة جديدة، أفاد فريق دولي من الباحثين أن الأطفال ثنائيو اللغة في عمر العشرين شهراً يتمتعون بكفاءة وبفعالية تمكّنهم من فهم لغتين في آن واحدٍ.
ووجدت الدراسة أيضاً أن الأطفال بإمكانهم التفريق بين الكلمات التي تنتمي للغات مختلفة. فبحلول الشهر العشرين للطفل ثنائي اللغة، يكون بإمكانه تمييز الاختلافات بين الكلمات ومعرفة اللسان الذي تنتمي إليه الكلمة التي يسمعها. فمثلاً، هم لا يرون أن كلمتي Dog الإنكليزية و Chien الفرنسية ليستا إلا شكليين لفظيين للشيء ذاته. هم يدركون ضمنياً أن هاتين الكلمتين تنتميان إلى لغتين مختلفتين.
ولتحديد مدى قدرة الأطفال على فهم اللغة وإدراكها، أجرى الباحثون تجربة على فريقين. احتوى الفريق الأول على أربع وعشرين طفلاً ثنائيي اللغة من أصول فرنسية-إنجليزية. أمّا الفريق الثاني فتمتع بالمزايا ذاتها إلا أنه كان مكوناً من أربعة وعشرين شخصاً بالغاً. قام الباحثون بعرض أزواج من الصور لأشياء مألوفة على الفريقين، واستمع المشاركون إلى جمل بسيطة بلغة واحدة مثل:
("Look! Find the dog")
وإلى جمل مكونة من كلمات من لغتين مختلفتين: ("Look! Find the chien!”). وفي تجربة ثالثة سمعوا جملة تحتوي على تبديل بين لغتين: ("That one looks fun! Le chien!"). ويُطلق على مفاتيح اللغة هذه اسم "رموز التبديل" Code-Switch ويسمعها الأطفال بانتظام في المجتمعات ثنائية اللغة.
قام القائمون على الدراسة ياستخدام تقنية تتبع العين eye-tracking measures المتمثلة في حساب المدة التي بقيت فيها عيني الطفل أو البالغ ثابتة على الصورة بعد سماع الجملة، والتي تقوم أيضاً بقياس نسبة تمدد حدقة العين. فاتساع حدقة العين دليل على استجابة لاإرادية، توضّح أن الجهد الذي يبذله الدماغ للتركيز ليس بسيطاً. وتستخدم كمقياس غير مباشر للجهد المعرفي.
أجرى الباحثون الاختبار ذاته على البالغين ثنائيي اللغة واستخدموا الصور وتقنية تتبع حدقة العين نفسها التي تم اختبارها على الأطفال ثنائيي اللغة، وذلك لدراسة ما إذا كانت آليات التحكم في اللغة تبقى ذاتها في مختلف أعمار المتحدثين بلغتين.
ووجدوا أن الأطفال والبالغين على حد سواء واجهوا بعض الصعوبات في التركيز عند سماع الجمل التي بها كلمات من لغتين مختلفتين. ففي اللحظة التي يتم فيها التبديل بين اللغتين، تتمدّد حدقات أعينهم. ومع ذلك، فقد تمّ التقليل من تلك الصعوبة والقضاء عليها في بعض الأحيان عندما كان التبديل يحدث من اللغة غير السائدة إلى اللغة السائدة، وأيضاً عندما يكون التبديل عبر الجمل لا الكلمات.
يقول الباحثون: "لقد حدّدنا علامات سلوكية وفيزلوجية متقاربة ومرتبطة بالصعوبة التي يواجهها ثنائيو اللغة عند حدوث تبديل بين لغاتهم، وبدلاً من الإشارة إلى العوائق التي تحول دون الفهم، فإن الدراسة تُظهر استراتيجية معالجة فعالة حيث يكون هناك تنشيط وترتيب أولويات للغة التي يتم الاستماع إليها.
فظهور نتائجٍ مماثلة لكل من الأطفال والبالغين أثبت أيضاً أنّ ثنائيي اللغة مهما كانت أعمارهم لديهم أوجه تشابه في كيفية التعامل مع لغاتهم.
ويقول فرانسوا غروسجيانوف الأستاذ الفخري في علم النفس من جامعة نيوشاتيل في سويسرا وغير المنخرط في الدراسة:
"عرفنا منذ فترة طويلة أن اللغة التي يتخذها ثنائيو اللغة لغة أساسية، وهي بالطبع أكثر نشاطا من اللغة التي لا يتم التحدث بها بصورة رئيسية، حتى عندما يكون الكلام مخلوطا بينهما". ويضيف: "هذا بلا شك يخلق تفضيلا للغة الأساسية عند الاستماع، وبالتالي فإن فهم الانتقال بين لغتين في سياق كلام واحد يمكن أن يستغرق وقتا أطول قليلا ليتم استيعابه، وإن كان لا يتعدى وقت الانتظار ذاك لحظات معدودة".
ويتابع غروسجيانوف: "أما في حال تكرر هذا الانتقال بين اللغتين بشكل مستمر أي أن يحدث تأقلم وتعود عليه، أو وقوع التبديل في حدود (الجملة)، أو عندما يتوقع المستمعون هذا السلوك اللغوي فإنه لن يكون هناك بعدها حاجة إلى وقت إضافي للفهم والمعالجة. العديد من هذه الجوانب صحيح لدى الرضع ثنائيي اللغة على السواء كما تثبت الدراسة".
تعزّز هذه النتائج فهمنا لاستخدام الثنائية اللغوية بطرائق مثيرة سواء لدى الأطفال الصغار في المراحل الأولى من الاكتساب أو لدى البالغين الذين يتقنون اللغتين. فنتائج كهذه قد يكون لها آثار إيجابية في تحسين عملية التدريس في البيئات ثنائية اللغة. أحد تلك الآثار الأكثر وضوحاً هو أننا لن نحتاج لأن نقلق بعد الآن من كون الأطفال الذين ينشؤون بلغتين سيخلطون بينهما. فبدلاً من الخلط الذي قد نتوقع حدوثه بين اللغتين، فإن النتائج تشير إلى أنه سيصبح بإمكان الأطفال وبشكل طبيعي تفعيل مفردات اللغتين بصورة أبرع حسب ما يرونه مناسباً، وهذه المهارة تكبر معهم وتتطور.
ميزة ثنائية اللغة؟
يشير الباحثون أن هذه الدراسة لا تؤكد فقط أن الأطفال ثنائيي اللغة يراقبون لغاتهم ويتحكمون بها بينما يستمعون إلى أبسط الجمل، لكنها أيضاً توفر التفسير المحتمل للسؤال: لماذا يظهر ثنائيو اللغة مزايا معرفية أكثر عبر العمر؟
فقد لوحظ أن الأطفال والبالغين الذين يتمتعون بالكفاءة اللغوية المزدوجة يؤدون أداء أفضل في المهام التي تتطلب التبديل أو تثبيط استجابة كانوا قد تعلموها مسبقاً. اعتقد الباحثون سابقاً أن الميزات التي يتمتع بها ثنائيو اللغة هي نتاج لممارسة ثنائية اللغة والتعامل مع لغتين أثناء الحديث، لكن نتائج هذه الدراسة جعلتهم يؤمنون أن تجربة الاستماع اليومية للغتين في مرحلة الطفولة من المرجح أن تكون هي السبب الرئيسي لاكتساب المزايا المعرفية التي تمّ توثيقها عند كلٍّ من الأطفال والبالغين ثنائيي اللغة.
المصدر: