الفيزياء والفلك > علم الفلك
كيف ظهر الضّوء في الكون أوّل مرّة؟
كيف ظهرَ الضّوء للمرّةِ الأولى في الكون؟ سؤالٌ لطالما حيّر العلماءَ حتّى وقتٍ قريبٍ جداً، إلى أن بدأ التّلسكوبِ الفضائيّ بالعمل. يعتقدُ علماءُ الفيزياءِ الفلكيّةِ أنّ الجواب على هذا السّؤالِ مرتبطٌ بفهمِ الظّروفِ الكونيّةِ في وقتٍ مبكرٍ جدًا من عمرِ الكون، بدءًا من الأجزاءِ الأولى من الثّانيةِ بعدَ الانفجارِ العظيم.
تُخبرنا الدّراساتُ الّتي تُعنى بأمواجِ الخلفيّة الكونيّةِ الميكرويّة "CMB" أنّ وجودَ الضّوءِ سبَقَ وجودَ المادّةِ و سبقَ حتّى وجودَ الجُسيماتِ المعتدلة. الخلفيّةُ الميكرويّةُ الكونيّةُ هي التّوهّجُ الضّوئيُ النّاجم عن الانفجارِ العظيم. عندما صدرَ ضوءُ الخلفيّةِ الميكرويّةِ الكونيّةِ مُنذُ ملياراتِ السِّنين، كان ساخنًا جدّاً ومُشرِقًا كسطحِ نَجم، لكنّ توسُّعَ الكونِ أدّى إلى تمدُّدِ بنيتهِ وتضاعُفِ حجمِهِ مساحةَ ألفِ ضعفٍ مُنذُ ذلك الوقت، الأمر الّذي جعلَ الطّولَ الموجيّ لهذا الضّوءِ يَتشوّهُ ويَمتطُّ ليُصبِحَ في مجالِ الأمواجِ الميكرويّةِ مِنَ الطَيف الكهرومغناطيسيّ، ولا يزالُ هذا التّوهّجُ موجودًا في كلّ مكانٍ في الكون. لكنّ هذه التموّجات ليست ثابتةً، بل إنها تنتشرُ في كلّ مكانٍ، بما في ذلك نحو الأرض، لذلكَ يمكنُ الكشفُ عنها ورصدُها في أيّ مكانٍ في الكون.
درسَ تلسكوبُ بلانك التّابعُ لوكالةِ الفضاءِ الأوروبيّةِ "ESA"، والّذي بدأَ في عام 2009، الخلفيّةَ الكونيّةَ الميكرويّةَ على نطاقٍ واسعٍ. ونتيجةً لذلكَ وجدَ الباحثون في وكالةِ الفضاءِ الأوروبيّةِ أنّ معدّلَ التّوسّعِ الكونيّ أبطأُ قليلاً ممّا كنّا نعتقدُ سابقًا، كما وجدوا أنّ عمرَ الكونِ أكبرُ مِن التّقديراتِ السّابقة، إذ يُعتقدُ حاليًا أنّ عمُرهُ يُقدّر ب 13.78 مليارِ سنة.
أعلنَ باحثونَ في مشروعِ بلانك عام 2013 أنّهم اكتشفوا كيفَ تشكّلَ أولُ ضوءٍ في الكونِ. كانَ الكونُ مليئاً بجسيماتِ المادّةِ والمادّةِ المُضادّة بعد الانفجارِ الكبيرِ مباشرةً، وعندما بلغت درجةُ حرارةِ الكونِ نحو 2700 درجةٍ مئويّةٍ (4892 درجة فهرنهايت) بدأت جسيماتُ المادّةِ بالاصطدامِ بجسيماتِ المادّةِ المُضادّةِ، ما أدّى إلى فنائها جميعاً؛ فعندما تلتقي جسيماتُ المادّةِ مع جسيمِاتِ المادّةِ المضادّةِ المُضادّةِ فإنّهما يُفنيانُ بعضُهما البعض. لكن إذا كانتِ المادّةُ المُضادّة قد أفنتِ المادّة، فكيفَ نرى اليومَ المادّة ولا نرى المادّة المُضادّة؟ يقترحُ العلماءُ أنّ كميّاتِ المادّة كانتَ أكثرَ قليلاً من كميّةِ المادّةِ المُضادّة، ممّا يُفسّرُ سيطرةَ المادّة في الكونِ الحاليّ، وعدمَ وجودِ المادّة المُضادّة.
في الوقتِ ذاتهِ، كانتِ الفوتوناتُ والبروتوناتُ والإلكتروناتُ تصطدمُ ببعضها البعضِ أيضاً. لكنّ الأمرَ مختلفٌ هنا، فعندما تجتمعُ البروتوناتُ مع الإلكتروناتِ، فإنّها تُشكّلُ الهيدروجين، وتحرّرُ الضّوء. هذه هي الطّريقةُ الّتي وُلدَ فيها أولُ ضوءٍ في الكون، حوالي 380 ألفُ سنةٍ بعد الانفجارِ الكبير، وسرعانَ ما دخلَ الكونُ في مرحلةٍ من التّوسّع السّريعِ، ما أدّى إلى تمدّدِ الأمواجِ الضّوئيّة الكونيّةِ الأولى، لتصبحَ أمواجًا ميكرويّةً تُسمّى الخلفيّةَ الميكرويّةَ الكونيّةَ "CMB".
درسَ الباحثونَ في مشروعِ بلانك أدقَّ الاختلافاتِ في الكثافةِ ودرجةِ الحرارةِ لِمناطقَ مختلفةٍ من الخلفيّةِ الميكرويّةِ الكونيّةِ، فضلًا عن كيفيّة تفاعلها مع غيومِ الغبارِ وغيرِها من الأجسامِ المجاورةِ، للحصولِ على أدلّةٍ حولَ كيفيّةِ تشكّلِ الكون.
مالّذي جعلَ هذا الحساءَ السّاخنَ الكثيفَ من الإشعاعاتِ والجسيماتِ ينتشرُ بهذه الطريقةِ، مُسببًا ما يُعرفُ بالتّضخُم الكونيّ السّريع "rapid cosmic inflation" ؟ هنا تُصبحُ الأمورُ أكثرَ غموضاً. الأمرُ الّذي فرضَ حاجةً مُلحّةً إلى حدوثِ مرحلةٍ تراكمت فيها طاقةُ هائلةٌ أكبرُ من الطّاقةِ النّاتجةِ عن المادّةِ أو المادّةِ المُضادّةِ أو الإشعاع. ويقترحُ العلماءُ حدثاً مرتبطاً بالطّاقةِ المُظلمةِ فائقةِ الكثافة.
أخذَ الكونُ بالتّوسّعِ، ومعَ توسُّعهِ انخفضت حرارتُه، لحينِ وصولهِ إلى الكونِ الّذي نَعرِفُه اليوم؛ كونٌ تتشابهُ جميعُ أنحائه، لكنّهُ أكثرُ كثافةً في بعضِ المناطقِ وأقلُّ كثافةً في مناطقَ أخرى. ومع تراكمِ غازِ الهيدروجينِ، تشكّلت سحابةٌ كثيفةٌ تحجبُ كلّ الضّوء.
على مدى مئاتِ الملايينِ من السّنينِ، استمرّ الكونُ بالتّطوّر في ظلامٍ دامِس. وتشكّلت بداخله النّجومُ الأولى، ثمّ العناقيدُ النّجميّةُ، ثٌمّ العناقيد النّجميّة الفائقة. بعد ذلك، بدأتِ النّجومُ تصدرُ نوعاً خاصاً من الإشعاعِ يُعرفُ باسمِ "إشعاعِ ليمان المستمرّ". وعلى مدى ملياراتِ السّنين، تمكّنَ هذا الإشعاعُ من إعادةِ تأيينِ الهيدروجينِ، الأمرُ الّذي أدّى في نهايةِ المطافِ إلى انتهاءِ "العصورِ الكونيّةِ المُظلمةِ"، إذا تمكّن الضّوءُ أخيراً من السّفرِ بحريّةٍ من جديد.
ألقى الباحثونَ في مشروعِ تلسكوبِ هابل نظرةً ثاقبةً على كيفيّةِ ظهورِ الضّوءِ المُبكّر، عن طريقِ دراسةِ مجرّةٍ ولّادةٍ "starburst galaxy" قريبةٍ، تُعرفُ باسم: J0921 + 4509. أرادوا أن يروا كيف بدّدت أشعّةُ ليمان الضّبابَ الكونيّ.
جعلتِ المُلاحظاتُ الدّقيقةُ لكلّ من تلسكوبِ هابل، وتلسكوبِ بلانك علماءَ الفلكِ وعلماءَ الكونِ وعلماءَ الفيزياءِ الفلكيّةِ أكثرَ ثقةً في نظريّةِ الانفجارِ الكبيرِ وما حدثَ بعد ذلك. وقريباً جدّاً سيُطلَقُ تلسكوبُ الفضاءِ جيمس ويب إلى الفضاءِ، ما سيسمحُ للعلماءِ أن يرجعوا بالزّمنِ أكثرَ من 13.5 مليارِ سنةٍ، ليشاهدوا كيف تشكّلتِ النّجومُ والمجرّاتُ الأولى.
المصادر: