الفيزياء والفلك > علم الفلك
ماذا يخبرنا التّاريخ عن طول اليوم؟
طولُ اليوم على الكرةِ الأرضيّةِ هو قيمةٌ متغيّرةٌ وغيرُ ثابتةٍ، فطولُ اليوم الآن مختلفٌ عمّا كان في سابق الزّمان. كونُ الفارقِ صغيرٌ جدًّا يجعلُ الشّعورَ به أمرًا شبه مستحيلٍ، فعلى مدار قرنٍ من الزّمان سيطولُ اليومُ على الأرض بعضَ ميلي ثانية فقط لا غير.
لكن مع تطوّرِ الأدواتِ والوسائل أصبح بإمكاننا قياسُ طولِ اليوم على الكرةِ الأرضيّةِ بصورةٍ دقيقةٍ جدًّا تتيح لنا قياسَ هذا التّأثيرِ من خلال الاستعانةِ بالسّاعاتِ الذّريّةِ والقياسات الدّقيقة للكوازرات البعيدة.
وقد تمكّن العلماءُ من قياس طولِ اليومِ بدقّةٍ عاليةٍ جدًّا، تصلُ إلى الخانةِ التّاسعةِ بعد الفاصلةِ العشريّةِ أي النّانو ثانية. هذه القياساتُ دقيقةٌ جدًّا بحيثُ يمكنها أيضًا ملاحظةُ الاهتزازاتِ الّتي تطرأ على طولِ اليومِ نتيجةَ عواملَ أخرى كالهزّاتِ الأرضيّةِ على سبيلِ المثال. تضعُ هذه الاهتزازاتُ أمامنا تحدٍ جديدٍ، وهو إيجادُ إجابةٍ للسّؤال التّالي: كيف اختلفَ دوران الأرض خلالَ كلِّ هذه السّنين الطّويلة؟
بمعنىً آخر، ما سبّبُ التّغيّرِ الّذي طرأ على طولِ اليوم؟
جزءٌ من الإجابةِ على ذلك يكمنُ في ظاهرةِ المدِّ والجزرِ النّاتجةِ في الأساسِ عن تأثيرِ جاذبيّةِ القمرِ على مياهِ المحيطاتِ والبحارِ،ممّا يبطّئ تدريجيًّا سرعةَ دوران الكرةِ الأرضيّة.
ذاك يعني أنّ اليوم كان أقصر بساعةٍ قبلَ ملايين السّنواتِ، وهكذا كانت السّنةُ في السّابقِ أطولُ من الآن. يمكننا مشاهدةُ هذا التّأثيرِ عندَ الاِطّلاعِ على التّسجيلاتِ الجيولوجيّةِ، فوِفقها كان طولُ اليوم قبلَ ستمائة وعشرين مليون عامًا من الآن يقدّرُ بنحو 22 ساعةً فقط.
قياسُ الفرقِ بين الزّمنِ في الفترةِ الحديثةِ وقديمِ الزّمانِ هو أمرٌ صعبٌ جدًّا، فقبل مئاتِ السّنين لم تكن السّاعاتُ دقيقةً بشكلٍ كافٍ لقياسِ فرقٍ صغيرٍ كهذا، لذلك يبدو طولُ اليوم ثابتًا، الأمر الّذي يجعل من قياس هذا الفارقِ أمرًا مستحيلًا. إلّا أنّ أعمالًا حديثةً وجدت مفتاحًا لبابٍ آخر سيمكّننا من الحصولِ على مبتغانا وقياسِ وتيرةِ الاختلافِ بطولِ اليومِ على الكرةِ الأرضيّةِ.
إذ أنّ عدمَ توفّرِ ساعاتٍ دقيقةٍ بمتناولِ يدِ أسلافنا في القرونِ الماضيةِ لم يشكّل عقبةً في سعينا لمعرفةِ طولِ اليوم آنذاك، وذلكَ لأنّهم كانوا فلكيّين عظماء! فقد شاهدوا ووثّقوا العديدَ من الأحداثِ الفلكيّةِ ككسوفِ بعضِ النّجومِ السّاطعةِ على يد القمرِ وكذلكَ الكسوفُ الشّمسيُّ. وبالطّبعِ، وقوعُ هذه الأحداث يعتمدُ في الحقيقةِ على أينَ ومتى تمّت المشاهدة.
فعلى سبيلِ المثالِ، إذا شاهدَ أحدُ الفلكيّين القمرَ يمرُّ أمامَ إحدى النّجومِ في ليلةٍ ما، فإنّ الفلكيّين في المدينةِ القريبةِ يشاهدون مرورَ القمرِ بالقربِ من هذا النّجمِ. وهكذا، فإنَّ مُقارنةَ المشاهدَتَين اللّتين سجّلتهما كلٌّ من هاتَين المدينَتَين، مع الأخذِ بعينِ الاعتبارِ الزّمنَ الحقيقيَّ الّذي تمَت به المشاهدة لهذا الحدثِ، وهو أمرٌ ممكنٌ، سنتمكّنُ من معرفةِ أينَ ومتّى حدث هذا الحدثُ بالضّبطِ. وبمقارنِة عددِ من المشاهداتِ الّتي سُجّلت عبرَ التّاريخِ سنتمكَّنُ من حسابِ وتيرةِ زيادةِ طولِ اليومِ، وقد تصلُ الزّيادةُ إلى 1.8 ميلي ثانية كلَّ قرنٍ من الزّمان.
هذه النّتيجةُ رائعةٌ لسببَين، السّببُ الأوّل هو روعةُ القدرةِ على تقديرِ هذا الرّقم بالاستعانةِ فقط بالوثائقِ التّاريخيّةِ الموجودةِ منذُ أكثرَ من ألفيّتَين ونصف، والمكتوبةِ بخطوطٍ ولغاتٍ مختلفةٍ على يدِ أناسٍ مختلفينَ يقطنونَ مواقعَ مختلفة. فجمعُ كلِّ هذه الوثائقِ فقط وتأكيدها وتحليلها يُعتَبر بحدِّ ذاتِه رائعًا.
الأمرُ الآخرُ هو كونُ الوتيرة المقدّرة هنا تختلفُ عن القيمةِ النّظريّةِ الّتي تمَّ التّوصّلُ إليها آخذين بعينِ الاعتبارِ تأثيرَ المدِّ والجزرِ النّاجمِ عن قمرنا: 2.3 ميلي ثانية كلّ قرنٍ من الزّمان. الاختلافُ يكمنُ على ما يبدو باختلافِ شكلِ الأرضِ الكلّيّ. فمثلًا، نَجَمَ عن الجليدِ الذّائبِ منذ العصر الجليديِّ (أي قبلَ ما يُقاربُ 10،000 عام) ضغطٌ على أقطابِ الكرةِ الأرضيّةِ ممّا جعل شكلها يبدو أكثرَ كرويّةً. وهذا بدَورِه سيجعلُ من طولِ اليومِ على الكرةِ الأرضيّةِ أقصرَ بقليلٍ. وإذا ما قمنا بأخذ كلا الأمرين بعينِ الاعتبار، سنحصلُ على الوتيرةِ الّتي تمّ الحصولُ عليها بعد تحليلِ ومعالجةِ الوثائقِ التّاريخيّةِ الّتي نراها.
هذا العملُ يطوي في كنفهِ رسالةً جميلةً لنا من التّاريخِ، عندما نُنصتُ لما يخبرُنا به التّاريخ عن قرب، يمكننا أن نرى التّغيّراتِ الّتي تطرأ على الزّمن.
الصّور المرفقة:
صورة: التغيّرات التي تطرأ على طول اليوم في السنوات الأخيرة
المصادر:
1- هنا
2- هنا