منوعات علمية > منوعات
كسر حاجز الأبعاد.... والانتقال الآنيّ
عندما أراد الإنسان استكمال اكتشاف ما تبقّى من أراضٍ في كرتنا الأرضيّة، قام بالاعتماد على وسائل نقل مختلفة، ولأنّ الحيوانات وحدها لم تفِ بالغرض قام الإنسان باختراع وسائل نقل أسرع وغير متعبة في آنٍ معاً، فكان ظهور السيّارات والسّفن والطّائرات نتيجة حتميّة لحاجة الإنسان إلى السّفر بسرعة وخاصّة مع اتّساع رقعة الأراضي الّتي يستعمرها، ولا يزال الإنسان حتّى يومنا هذا راغباً بتطوير وسائل تنقّله رافعاً بذلك سرعة انتقاله.
ولكن مع رغبة البشر الملحّة في اكتشاف الفضاء وخاصّة أنّ طموح البعض أكبر من كرتنا الأرضيّة أو قمرها أو حتّى المريخ نفسه، فقد أصبحت الوسائل الحاليّة في التنقّل أشبه بالعربات الّتي تجرّها الخيول، لذلك يلزم البشر وسائل نقل من نوع آخر ندثر من خلالها كل السّجل التّاريخي لتطوّر وسائل النّقل وننتقل إلى سجّل تاريخيّ آخر.
في الحقيقة حتّى سرعة الضّوء لا تفي بالغرض إذا ما أردنا في يوم من الأيام السّفر عبر المجرّات المختلفة الّتي تفصل بينها ملايين السّنوات الضوئيّة، لذلك عمد كتّاب روايات الخيال العلميّ إلى ابتداع مفهوم آخر في التنقّل وسمّوه "الانتقال الآنيّ"، فما هو الانتقال الآنيّ؟ وهل البشريّة قريبة من تحقيقه؟ لنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في السّطور القادمة.
ما هو الانتقال الآنيّ؟
كما قلنا فإنّ كتّاب روايات الخيال العلميّ هم من اخترعوا مصطلح "الانتقال الآنيّ"، أو يمكن القول بأنهم من تنبّؤوا به، لذلك ستجد هذا الأمر منتشراً بشدّة في مسلسلات وأفلام الخيال العلميّ، وأوضح مثال هو سلسلة أفلام حرب النّجوم. ففي هذه السّلسلة ينتقل الأبطال ضمن مجرّات مختلفة تبعد عن بعضها البعض آلاف السّنوات الضوئيّة، فكيف فعلوا ذلك؟
نحن الآن أحد أبطال سلسلة حرب النّجوم، ونريد السّفر إلى مجرّة أخرى بهدف إنقاذ أحد الأبطال الآخرين، فما لنا إلّا أن نتوجّه نحو غرفة تشبه المصعد، وبعد أن ندخل الغرفة ونضغط على الزرّ الأحمر الكبير، تبدأ أصوات عالية بالهدير، ويبدأ شعاع ليزر بمسح جسدنا من الرأس حتّى القدم، لنبدأ بعدها بالشّعور بذرات جسمنا تتدمّر الواحدة تلو الأخرى، ومن ثمّ نغيب عن الوعي قليلًا لنجد أنفسنا أو (نسخة عنّا ربما) بعد ذلك في غرفة أُخرى ولكن في المجرّة الهدف.
إذاً الانتقال الآنيّ، ليس انتقالاً بالمعنى الصّريح للكلمة، وإنّما هو أقرب إلى تدمير نسخة وإنشاء نسخة أُخرى طبق الأصل عنها في المكان الهدف، كما نفعل يوميّاً مع الملفّات على حواسبنا، ولكنّ الفرق أنّ البشر ليسوا ملفّات حاسوبيّة، بل هم عبارة عن "تريليونات تريليونات" الذرّات؛ لذلك يبدو أنّ نظرة كتّاب الخيال العلميّ للموضوع لم تكن بتلك الرّصانة في النّهاية.
إلى أين توصّل العلم؟
لأنّ الخيال العلميّ لم يوصّف الموضوع بتلك الرّصانة؛ فما علينا إلّا التّوجّه للعلم الحقيقيّ علّه يُسعفنا بالجواب الشّافي عن حقيقة الانتقال الآنيّ، وإلى أيّ مدى أصبحت البشريّة قريبة من تحقيقه.
لنتفق أوّلاً على أنّ أيّ حديث علميّ عن الانتقال الفوريّ سيقودنا مباشرةً إلى الحديث عن ميكانيك الكم (الكمومية) للمزيد عن ميكانيك الكم يمكن الاطّلاع على المقالين التّاليين:
حيث أنّه وبكلّ بساطة ووفق الميكانيك التّقليديّ (ميكانيك نيوتن) ، فإنّ النّقل الفوريّ أمر مستحيل الحدوث، فالميكانيك التّقليديّ يعتقد بأنّ المادّة مصنوعة من كرات بلياردو صغيرة، وصلبة، ولا يمكن للأجسام أن تتحرّك ما لم تُدفع، وببساطة لا يمكنها الاختفاء ثمّ الظّهور في مكان آخر. ولكن في ميكانيك الكم هذا ما تستطيعه الجسيمات تماماً، إذ أنّه تمّت الإطاحة بقوانين نيوتن الّتي ظلّت صالحة لمدّة 250 عام في عام 1925، عندما طوّر فيرنر هايزنبرغ ووإرفين شرودينغر وزملاؤهما نظريّة الكوانتم، فعندما حلّل الفيزيائيّون الخصائص الغريبة للذّرات، اكتشفوا أنّ الإلكترونات تعمل كموجة ويمكنها أن تحقّق قفزات كموميّة في حركتها العشوائيّة ظاهريّاً ضمن الذرّة، وبعدها تمكّن إرفين شرودينغر من إيجاد معادلاته الشّهيرة (معادلات شرودينغر للإلكترونات) بعد أن تحدّاه زميله بيتر ديبي بسؤاله: إذا كانت الإلكترونات توصف على أنّها موجات، فما هي معادلتها؟
ولكن مازال هناك سؤال ملحّ يطارد الفيزياء حتّى اليوم، وهو أنّه إذا كانت الإلكترونات توصف بموجة، فما الّذي يسبّب التّموّج إذاً؟
وقد أجاب الفيزيائيّ ماكس بورن عن هذا السّؤال بقوله: إنّ هذه الأمواج في حقيقتها أمواج احتمال، وهي تخبرك فقط باحتمال العثور على إلكترون معيّن في مكان ما عند وقت ما، وبعبارة أخرى فالإلكترون جسيم، لكنّ احتمال العثور على هذا الجسيم يعطى بمعادلة شرودينغر الموجيّة فكلما كبرت الموجة زاد احتمال العثور على الجسيم عند تلك النّقطة.
وبهذه التّطوّرات أُدخِلت المصادفة والاحتمالات فجأة إلى قلب الفيزياء، وفي النّهاية صِيغَ عدم التّأكّد من قبل هايزنبرغ عندما اقترح مبدأ عدم التّأكّد، أي أنّك لا تستطيع أن تعرف سرعة إلكترون ومكانه بدقّة في الوقت ذاته، ولا يمكنك أيضاً معرفة طاقته بدقّة مقاسة خلال فترة زمنيّة معيّنة، وعلى مستوى الكوانتم فإنها تخترق قوانين التّفكير السّليم الأساسيّة كلّها: يمكن للإلكترونات أن تختفي ثم تظهر في مكان أخر، ويمكن لها أن تكون في أماكن عدّة في الوقت ذاته.
حتّى نفهم بالضّبط ما علاقة النّقل الفوريّ بميكانيك الكم، فلنعد بالزّمن قليلاً لنتعرّف على تجربة تُدعى(EPR الأحرف الثّلاثة الأولى لأسماء كلّ من ألبرت أينشتاين، وبوريس بودولسكي، ونيثن روزن)، الّتي أوجدوها لقتل فكرة إدخال الاحتماليّة إلى الفيزياء مرّة وللأبد، حيث تقوم تجربة EPR على وجود تناغم بين الكترونين، فإذا اهتزّا من البداية بتوافق، فيمكنهما أن يظلّا في حالة من التّناغم الموجيّ مهما كانت المسافة الّتي تفصل بينهما، حتّى لو بلغت عدداً من السّنين الضوئيّة، وعلى الرغم من المسافة الكبيرة إلّا أنّ هناك موجة شرودينغر غير المرئيّة تربط بين الالكترونين كالحبل السرّي، ولو حدث شيء لأحد الإلكترونين فسينقل بعض المعلومات فوراً إلى الإلكترون الأخر، ويدعى هذا (بالتّواصل الكمومي) وهو المبدأ الّذي ينصّ على أنّ الجسيمات الّتي تهتزّ بتناغم لها نوع من الاتّصال العميق الّذي يربطها بعضها ببعض.
دعونا نبدأ إذاً بإلكترونين متناغمين يهتزّان بتزامن، دعهما يقفزان بعيداً في اتّجاهين متناقضين، وكلّ إلكترون بمثابة قمّة دوّارة، يمكن لهذين الالكترونين الدّوران نحو الأسفل أو نحو الأعلى، ولنفرض كذلك أنّ الدّوران الكلّيّ للنّظام (الالكترونين) معدوم.
سنعرف انطلاقاً من هذه الافتراضات أنّ أحد الالكترونين يدور للأعلى بمجرّد معرفة أنّ الالكترون الآخر يدور نحو الأسفل وفق نظرية الكوانتم، حتّى لو فصلت بينهما عدّة سنوات ضوئيّة، والأمر المثير هنا أنّنا سنعرف هذه المعلومة بسرعة أكبر من سرعة الضوء.
صمّم أينشتاين وزملاؤه هذه التّجربة بهدف نقض ميكانيك الكم، لأنّه بنظر أينشتاين لا يمكن لشيء أن ينتقل في الكون بسرعة أكبر من سرعة الضّوء، لكنّ تجربةً عمليّةً لـ EPR أُجريَت في الثّمانينات في فرنسا قامت بالانتصار لميكانيك الكم وأيّدت النّتائج النّظريّة للكم بدقّة، إذ قام العلماء باستخدام كاشفين يبعدان عن بعضهما 13 متراً، وقاسوا دوران الفوتونات الصّادرة عن ذرّات الكالسيوم، إذاً نحن أمام بداية جيّدة حيث انتقلت المعلومات بما يشبه الانتقال الفوريّ، ولو أنّ هذه المعلومات غير مفيدة لأنّها كانت معلومات عشوائيّة، ولسنواتٍ استخدمت هذه التجربة كمثال على النّصر العظيم الّذي حقّقته نظريّة الكوانتم على منتقديها، لكنّه كان نصراً فارغاً من دون نتائجَ عمليّةٍ ملموسة حتّى الأن.
لكنّها وبالرّغم من ذلك تعتبر خطوة أولى جيّدة وبعد هذه البداية يجب أن ننتقل إلى المرحلة التّالية وهي نقل الأجسام الماديّة، وهذا ما يقودنا للحديث عن النّقل الفوريّ الكمّي.
محطّتنا التّالية في العام 1933، حيث قام مجموعة من العلماء في شركة IBM ببرهان فيزيائيّ لإمكانيّة نقل الأجسام الفوريّ على المستوى الذريّ، ومنذ ذلك الوقت تمكّن الفيزيائيّون من نقل فوتونات وحتّى ذرات سيزيوم بأكملها، أمّا طريقة النقل فعلى الشّكل التّالي:
يبدأ العلماء بذرّتين x وz، بحيث نريد نقل المعلومة من x إلى z. وحتّى نقوم بذلك فإنّنا بحاجة لذرّة وسيطة ولتكن Y ويجب أن تكون كل y و z مرتبطتين.
الآن نقوم بنقل المعلومة من x إلى y فتصبحان مرتبطتين، وبالتّالي تنتقل المعلومة كذلك إلى z لأنّها بالأساس مرتبطة مع y، وبهذه الطّريقة نكون قد نقلنا معلومات ذرّة إلى أُخرى حتّى لو كان الفاصل بينهما مسافة كبيرة.
هل من الممكن أن يصبح الانتقال الآنيّ واقعاً في يوم من الأيّام؟
لنبدأ من حيث انتهينا حيث قمنا بنقل معلومات ذرّة إلى أخرى، والنّتيجة النهائيّة: ذرّة في المكان الهدف تحوي معلومات مطابقة عن المعلومات الّتي في الذرّة في مكان الانطلاق، وهنا يجب أن نعرف أنّ المعلومات في الذّرّة x (الذّرّة الّتي أردنا نقلها)، قد تدمّرت تماماً.
أي أنّه لا يوجد نسختان بعد النّقل الفوريّ، فإذا أردنا الآن نقل إنسان بهذه الطريقة فماذا يحدث؟ ما سيحدث هو موت هذا الإنسان، وبصورة أدقّ تدمير ذرّاته الواحدة تلو الأخرى، ثمّ ظهور المحتوى المعلوماتيّ لجسمه في مكان آخر، أو يمكن القول نسخة طبق الأصل عن هذا الإنسان ولكنّه ليس ذات الإنسان، وهذا ما سيقودنا إلى سؤال فلسفيّ مهمّ، فمن هذا الّذي ظهر في النّقطة الهدف؟ هل هو ذات الإنسان الّذي انطلق في البداية أم لا؟ يمكنكم متابعة هذا المقطع الذي يصوّر ميشيو كاكو (أحد أشهر الفزيائيّين المعاصرين) وهو يطرح هذا السّؤال، مع الإجابة.
مستقبل النّقل الفوريّ.
ما نعرفه بكلّ تأكيد أنّ العلم لن يقف عند مستوى الذّرات، بل سيحاول نقل أشياء أكبر مثل الجزيئات، ومن ثمّ ولم لا أوّل جزيء DNA، وأوّل فيروس، ولكن قبل التوجّه إلى نقل البشر علينا الإجابة عن السّؤال الّذي طرحناه قبل قليل، وربّما سينتقل البشر آنيّاً وربّما لن يستطيعوا ذلك، ولكن ما هو أكيد أنّ النقل الفوريّ هو أمر رائع إذا ما استطعنا إنجازه فهل سيحمل لنا المستقبل القريب أخباراً جيّدة في هذا الخصوص؟، هذا ما سنتركه للزّمن والعلم!
إ
المرجع
فيزياء المستحيل، ميشيو كاكو، سعد الدين خرفان، عالم المعرفة، إبريل 2013.