الفيزياء والفلك > مقالات بقلم فيزيائيين وفلكيين معاصرين
توضيح لمفهوم النسبية الخاصة
لا يختلفُ اثنانِ على أهميّةِ النّظريّة النّسبيّةِ، لقد درستُها منذ أكثرَ من خمسةٍ وعشرينِ عاماً، ومع ذلكَ في كلّ مرّةٍ أجلسُ لأفكّر بها تُدهشني من جديدٍ، وتحديداً ثباتُ سرعةِ الضّوء؛ والّتي قادتنا بدورها إلى استنتاجِ أنّ الزّمانَ والمكانَ نسبيّانِ حسبَ منظورِ الرّاصد.
نسبية الزمان والمكان
يحملُ كلٌّ منّا ساعتَهُ الخاصّةَ لقياس الوقت، ولكن عند حركة أحدنا بالنّسبةِ لشخصٍ آخرِ فإنّ السّاعتين لا تتوافقانِ لأنّهما غيرُ متزامنتينِ؛ إذ تقيسانِ مدّتينِ مختلفتينِ من الزّمنِ المنقضي بين حدثينِ معيّنين. ينطبق هذا على المسافةِ أيضاً، فكلّ منّا يحملُ شريطَ قياسِ الطّول الخاصِّ به، والّذي يقيسُ المسافاتِ بدقّةٍ، وعند حركةِ أحدنا نسبةً للآخرِ فإنّ مسافتي الشّريطينِ لا تتفقان، إذ تقيسانِ مسافتينِ مختلفتينِ بين موقعي حدثينِ معيّنين.
لو لم يكنِ الزّمانُ والمكانُ نسبيّينِ فلن تكونَ سرعةُ الضّوءِ ثابتةً، وستعتمدُ على حالةِ الرّاصدِ الحركيّةِ. لكنّ المؤكّدَ في الفيزياءِ هو أنّ سرعةَ الضّوءِ ثابتةٌ، وأنّ الزّمانَ والمكانَ يتصرفانِ بطريقةٍ نسبيّةٍ، إذ يضبط الزّمانُ والمكانُ قيمتيهِما بحيثُ تؤدّي جميعُ عمليّاتِ رصدِ سرعةِ الضّوء إلى نفسِ النّتائجِ بغضّ النّظرِ عن سرعةِ الرّاصد.
يتطلّب فهمُ اختلافِ قياساتِ الزّمان والمكان في النّظريّة النّسبيّة الخاصّة مستوىً متقدمٍ في مادّةِ الجبر، لكنّ الرّياضيّات المُتقدّمة ليستِ التّحدّي الوحيدَ أمامَ من يريدُ استيعاب تلك النّظرية، بلّ مدى غرابةُ الأفكارِ وعدمِ توافقها مع تجاربنا اليوميّة. تتمحورُ النّظرية حول فكرةٍ أساسيّةٍ غيّرت مفهوم نيوتن الّذي امتد لنحوِ مئتي عامٍ حول طبيعة المكان والزمان، والّتي أدركها آينشتاين ولم يعد من الصّعبِ تحليلُ العمليّات الحسابيّة، كما أنّهُ نجحَ في حسابِ كيفيّة اختلافِ المسافاتِ والمُددِ الزّمنيّةِ لحركّةِ شخصٍ ما بالنّسبة لآخرينَ مع ضمانِ ثبات سرعةِ الضّوء.
فكرة بسيطة للغاية:
لتوضيح فكرةِ أينشتاين، تخيّل أنّ "بارت" يتحرّكُ على لوحِ تزلّجٍ بسرعةِ قصوى تصل إلى 65 ميل في السّاعة، فإن كان متّجهاً نحو الشّمال بسرعته القصوى ثمّ انعطفَ باتّجاه الشّمال الشرقيّ، فإن سرعتَه باتّجاه الشّمال ستَقل عن 65 ميل في السّاعة، وتفسيرُ ذلك؛ في البدايةِ كانت سرعتُه متوجّهةً بالكامل نحو الشّمال، ولكن عندما غيّرَ وجهتَه فإن جزءاً من سرعتهِ تحوّل نحو الشّرق تاركاً ما تبقّى من السّرعةِ للاتّجاهِ الشمالي، وهنا تكمُن فكرةُ النّظرية النسبية الأساسيّة.
لقد اعتدنا على حركةِ الأجسامِ عبر المكان، ولكن هناك نوعٌ آخرُ من الحركةِ بنفسِ الأهمية، وهو حركة الأجسامِ عبر الزّمن، فساعةُ مِعصمِكَ تدقّ وتؤكّد أنّك - وكلّ شيءٍ من حولك - يتحرّك عبر الزّمنِ حركةً بلا هوادةٍ، من ثانيةٍ إلى أخرى. لقد اعتقدَ نيوتن أنّ الحركةَ عبر المكانِ منفصلةٌ كلياً عن الحركةِ عبرَ الزّمن، لقد افترض أنّهما غير متداخلتين، إلا أنّ أينشتاين وجدَ أنّهما مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً.
الحركة عبر الزمن:
إليكمُ الفكرةُ الثّوريةُ في النّظريّة النسبيّة. عندما تنظرُ إلى جسمٍ ما، ولنَقلْ سيارةً مركونةً ثابتةً من منظورك؛ أيّ لا تتحرّكُ عبر المكان، فإنّ حركتها متجهةٌ كلياً عبر الزّمن، في الواقعِ ليستِ السّيارةُ فقط هي ما يتحرّك عبر الزّمن في مشهدنا هذا، بل سائقها والشّارع وأنت أيضاً يتحرّكون عبر الزّمن بتزامنٍ مثاليّ، ثانيةً عقبَ ثانية بتوقيتٍ موحّد.
ولكن ماذا لو كانتِ السّيارةُ مُتحرّكةً؟ سيتحوّلُ جزءٌ من حركتها عبر الزّمنِ إلى حركةٍ عبر المكان، كما حدثَ مع "بارت" عندما تباطأت سرعتهُ نحو الشّمال أثناء تغييرِ اتّجاه حركته من الشّمالِ إلى الشّمال الشّرقي، لذا فإنّ سرعةَ السّيارةِ خلال الزّمنِ تتناقصُ بسببِ تحوّلِ جزءٍ من حركةِ السّيارةِ عبر الزّمن إلى حركةٍ عبر المكان؛ بمعنى أن تقدّمَ السّيارةِ باتّجاه الزّمن قد تناقصَ بعضُ الشّيء، لذلك فإن الزّمن المنقضي بالنّسبةِ للسيارةِ المتحرّكة ومَن بداخلِها يسيرُ أبطأ من الزّمن المنقضي بالنّسبةِ لكَ كمراقبٍ ولكلّ من هو خارجَ السّيارةِ والّذي يُعتبرُ ثابتاً. باختصار… هذه هي النّظريّةُ النّسبية الخاصّة.
الحركتان مكمّلتان لبعضهما:
يمكننا أن نكونَ أكثرَ دقّةً وننقلَ الشّرح لمستوىً أعلى. هل تذكرون "بارت" ولوحَ التّزلّج؟ لنفترض أنّ عليه الالتزامَ بسرعتِه القصوى 65 ميل في السّاعة، لهذا الافتراضِ أهميّةٌ كبرى في قصّتنا، لأنّه إذا أسرعَ بما فيه الكفايةَ أثناء انتقالهِ من الاتّجاه الشّمالي إلى الاتجاه الشّمالي الشّرقي، عندئذٍ يمكنهُ أن يعوّضَ عن التّباطؤِ الحاصلِ في الانتقالِ، وبهذا يُحافظُ على السّرعةِ الصّافيّةِ الأوليّة الّتي كان يسيرُ بها باتّجاه الشمال. إلا أنّهُ، وبغضِّ النّظر عن محاولاته لزيادة سرعة محرك لوحهِ، فإنّ سرعتَه الكليّةُ (مجموعُ سرعته باتّجاه الشّمال مضافاً إليها سرعته باتجاه الشرق) ستبقى ثابتةً بمقدار 65 ميل في السّاعة. لذا عندما ينقلُ اتّجاهَ حركتهِ نحو الشّرق فإن سرعتَه ستَتضاءلُ حتماً عن سرعتهِ الأوّلية.
تعلنُ النّسبيةُ الخاصّةُ عن قانونٍ مشابهٍ للحالة السابقة وينطبق على كل أنواع الحركة، ومفاده أن السرعة المركّبة لأيّ جسمٍ متحركٍ عبر المكان والزّمان تُساوي سرعةَ الضّوء بدقّةٍ. بدايةً قد تستغربُ هذه العبارةَ، خاصةً إذا كنتَ تعلم فكرةَ عدمِ قدرةِ أيَ شيءٍ على السّفرِ بسرعةِ الضّوء، ولكن هذه الفكرةُ تنطبقُ فقط على الحركةِ عبر المكان، أما الآن فنحنُ بصددِ حركةٍ مشابهةٍ لكنّها أشملُ؛ هي حركةُ مُرَكّبةٍ لجسمٍ ما عبر المكان والزمان.
الحقيقةُ الأساسيّةُ الّتي أدركها أينشتاين هي أنّ هاتين الحركتينِ مكملّتين لبعضهما دائماً، فعندما تتسارعُ السّيارة التي كانت متوقفةً، فإنّ ما يحدثُ حقاً هو أنّ جزءاً من حركتِها بسرعةِ الضّوء قد تحولّت من حركةٍ عبر الزّمن إلى حركةٍ عبر المكان، محافظةً على سرعتها الكليّةِ دونَ أيّ تغيير، وهذا التّحوّل يؤكّد بلا شكّ أنّ حركةَ السّيارةِ عبر الزّمن قد تباطأت.
توقف الزمن:
يبدو أنّنا لن نترك "بارت" ولوحَ تزلّجه، لكنّناا سنلجأ إليه مرّةً أخيرةً، وهذه المرّةُ سنفترضُ إمكانيّةَ أن يتحرّكَ بلوحِ التّزلّجِ خاصّته بسرعة ٍتبلغ 500 ميل في السّاعة (وهي تساوي حوالي ثلاثةَ أرباعِ سرعةِ الضّوءِ البالغةُ 670 ميل في السّاعة) ولنَتخيّل أنَ أخته "ليزا" متوقّفةٌ، ولنقل إنّها تستطيعُ رؤيةَ ساعةِ "بارت" أثناء مرورِه من أمامها. سترى "ليزا" أنّ ساعة شقيقُيها تشيرُ إلى وقتٍ أبطأَ بحوالي الثُّلثينِ عن ساعتها، أي أنّ مُقابلَ كلّ ثلاثِ ساعاتٍ تراها " ليزا" قد مرّت في ساعتها الخاصّةُ، سترى أن هنالكَ ساعتانِ فقط قد انقضتا في ساعة "بارت"، وهذا يعني أن سرعتَهُ العاليةُ عبرَ المكانِ قد استنزفتِ من سرعتِه عبر الزّمن.
يُضافُ لكلِّ ما سبق، يُمكن الوصولُ للسّرعةِ القصوى عبر المكانِ عندما تتحوّلُ كلّ الحركةِ بسرعةِ الضّوء عبر الزّمنِ إلى حركةٍ بسرعةِ الضّوء عبرَ المكان، وهنا يتّضحُ لنا سببُ عدم إمكانيّةِ الحركةِ عبر المكانِ بسرعةٍ تفوقُ سرعةَ الضّوء. إلا أننا نستثني الضّوء ذاتهُ من هذه القاعدةِ؛ إذ يمكنُه التّحرك بسرعةِ الضّوء عبر المكانِ وهو حالةٌ خاصّة تُحقّق التّحولّ الكلّي.
وكما أن الحركةَ باتّجاهِ الشّرقِ لا تتركُ أيّة حركةٍ باتّجاه الشّمال، فإن الحركةَ بسرعةِ الضّوءِ عبر المكانِ لا تتركُ أيّةَ حركةٍ للسّفرِ عبر الزّمن، لذلك يتوقّفُ الزّمنُ عند السّفرِ بسرعةِ الضّوءِ عبر المكان. لذا فإنَ السّاعة الّتي يرتديها جسيمٌ ضوئيٌّ لن تتحرّك على الإطلاق. ببساطة، يُحقّقُ الضّوءُ كلّ ما تعدنا بهِ صناعةُ المستحضراتِ التّجميليّة، لأنه لا يتقدّمُ بالعمر.
طبيعة الطبيعة:
كما يتضّحُ لنا من الشّرحِ السّابق فإن تأثير النّظريّةِ النّسبيّة يظهرُ كلّما اقتربت سرعةُ الحركةِ عبر المكانِ من سرعةِ الضّوء، وعلى الرّغم أنّ الطّبيعةَ غيرِ المألوفةِ للحركةِ عبر المكانِ والزّمان، إلا أنّها تنطبقُ دائماً. ما نقولهُ هنا ليس حاذقاً أو نوعٌ من المراوغةِ أو حتّى وهم نفسيّ، أنّه - وببساطةٍ - الطّريقةُ الّتي يعملُ بها الكون.
في العام 1971، حلّق جوزيف هافيل وريتشارد كيتنغ ومعهما أحدثُ السّاعاتِ الذّريّةِ المصنوعةِ من أشعّةِ السيزيوم حولَ العالمِ على متن طائرةِ بام الأمريكيّة التّجارية، وعندما قارنا بين السّاعاتِ الموجودةِ على الطّائرةِ والسّاعات المُطابقةِ لها على الأرضِ وَجدا أنّ الزّمن المنقضي في السّاعاتِ المُتحرّكةِ أقلّ منهُ في السّاعاتِ الّتي بقيت على الأرض. كان الفرقُ صغيراً جدّاً؛ أيّ حوالي بضعَ مئاتِ الأجزاء من مليار جزءٍ من الثّانيةِ، إلا أنّ هذا الفرقَ كان متوافقاً بشكلٍ دقيقٍ مع اكتشافاتِ أينشتاين.
المصدر: