المعلوماتية > عام
هل تحويل الضوء إلى صوت ممكن؟!
تُعتَبرُ معالجةُ البياناتِ وتوجيهها بشكلٍ صحيحٍ من أهمِّ خطواتِ الإرسالِ وأكثرِها حساسيّةً، وفي هذه الحالة فإنَّ سُرعةَ الضَّوءِ هي نقمةٌ، فإذا استغرَقَت 1 نانو ثانية لتُقَرِّرَ إلى أينَ يجبُ أن توجِّهَ بت واحد يكون هذا البتُّ قد سارَ في الكبلِ مسافةً تتراوحُ بين 20 سم إلى 30 سم، وبمقارنة هذا مع حياتنا اليوميّةِ فالأمر يماثل تماماً إخبارَك سائقَ سيارةِ الأجرةِ الّتي تُقلُّكَ أن يلتفتَ يساراً بتأخيرٍ قدره 30000 خطوة!
إنَّ المشكلة الّتي نواجهها إذًا هي أنَّ حركةَ البتِّ أسرعُ من اتّخاذِ قرارِ توجيهه، ولذلك فإنَّ اتّخاذَ قرارِ توجيهٍ سليمٍ يتمُّ عن طريقِ تخزينِ البياناتِ في سجلِّ الذّاكرةِ Memory Register، ثمَّ اتّخاذِ القرارِ، ثمَّ استخراجِ البياناتِ مُجدَّدًا وتوجِيهها بحسبِ ذلك القرار.
لكنَّ تخزينَ البياناتِ الكترونيًًّا هو عمليّةٌ بطيئةٌ جدًّا وتحتاجُ إلى استراتيجيّاتٍ ذكيّةٍ لتقليلِ عددِ المرَّاتِ الّتي نحتاجُ فيها لاتِّخاذِ أيِّ نوعٍ من القراراتِ المُتعلِّقَةِ بالبياناتِ المنقولة.
قد يتبادر للأذهانِ أنَّهُ لتجنُّبِ مشاكلِ التَّوجيهِ الخاطئ أو بُطءِ السِّجلَّاتِ، يُمكننا إبطاءُ الضَّوءِ بحدِّ ذاتِه ريثما تنتهي إجراءاتُ المعالجةِ ويُتَّخَذْ قرارُ التَّوجيهِ، ثمَّ نعيدُ الضَّوءَ لسرعتِه الأساسيّةِ لينطلقَ البِتُّ نحوَ وُجهتِهِ الصَّحيحةِ.
لكنَّ السُّؤال هنا: كيفَ نُقلِّلُ من سرعةِ الضَّوءِ؟ّ! وهل هذا ممكنٌ فيزيائيًّا؟!
الفكرةُ الرَّئيسيّةُ بسيطةٌ إلى حدٍّ ما، حيث يتمُّ ترميزُ البِتِّ على شكلِ نبضةٍ ضوئيَّةٍ، وعند الحاجةِ يتمُّ تحويلُ نبضةِ الضَّوءِ إلى نبضةِ صوت، والّتي بدورِها تنتقلُ بسرعةٍ أبطأُ بكثيرٍ من سرعةِ نبضةِ الضَّوءِ. وبعدَ عدَّةِ نانو ثانية (الوقتُ اللَّازمُ لمعالجةِ البِتِّ واتِّخاذِ قرارٍ بشأنِ وجهته) يتمُّ إعادةُ تحويلُ نبضةِ الصَّوتِ إلى نبضةٍ ضوئيّةٍ، وبالتّالي إعادةُ سُرعةِ النَّقلِ إلى ما كانت عليه. وتتحقَّقُ عمليَّةُ تحويلِ الضَّوءِ إلى الصَّوتِ والعودةُ مرَّةً أخرى باستخدامِ النَّبضاتِ الخفيفَةِ Light Pulses (هي النَّبضاتُ الّتي مُدَّتُها الزَّمنيّةُ من مرتبةِ بيكوثانية أي 10-12ثانية أو أقل)، وبذلك يتمُّ التَّخلُّص من خطواتِ المعالجةِ الإلكترونيّةِ إلى حدٍّ ما.
كيف يتمُّ توليدُ نبضةٍ صوتيّةٍ باستخدامِ الضَّوءِ؟
هذا ما يحدثُ في الواقعِ في كلِّ وقتٍ ولكن مع كفاءةٍ مُنخفضةٍ جدًّا، دعونا نبدأ بالتَّفكيرِ في ما تبدو عليه الموجاتُ الصّوتيّةُ، لنتخيّلُ معًا السَّفرَ من خلالِ مادَّةٍ بلّوريّةٍ حيث تتموضَعُ جميع الذَّراتِ في صفوفٍ مُنتظَمَةٍ. إنَّ الذَّرّاتِ مرتبطةً ببعضِها البعضِ عبرَ الإلكتروناتِ المُشتركةِ، هذا الارتباطُ ليسَ ثابتاً، وإذا قُمَتَ بتحريكِ واحدةٍ من الذَّرَّاتِ مسافةً صغيرةً والسَّماح لها بالتَّحرُّرِ فلن تتولَّدَ ذرّةٌ أخرى مكانَها من العدم، إنَّما تتأرجحُ الذَّرّةُ ذهابًا وإيابًا حتّى تستقرَّ أخيرًا وتعودَ إلى وضعِها العاديِّ. هذه الحركةُ تُنشِّطُ الذَّرّاتِ المجاورةِ لتتحرَّكَ، وتبدأ موجةَ الحركةِ هذه عبرَ البُنيةِ البلّوريّةِ.
أمّا عند انتشارِ الضَّوءِ خلالَ المادةِ، فإنَّهُ لا يؤثِّرُ كثيرًا على الذَّرّاتِ لأنَّ الذَّرّاتِ ثقيلةٌ، لكنَّ الإلكتروناتِ حولَ النَّواةِ تتأثَّرُ بشكلٍ كبيرٍ لأنَّ الضَّوءَ يحتوي على حقلٍ كهربائيٍّ يؤثّرُ على الإلكتروناتِ ويُحرّكُها من مكانٍ إلى آخرَ، ممّا يؤدّي إلى تغييرِ شكلِ السَّحابةِ الإلكترونيّةِ حولَ النَّواةِ من كرويٍّ إلى إهليلجيٍّ ثمَّ إلى كرويٍّ مرّةً أُخرى عندما تجدُ الإلكتروناتِ مستقَرَّها.
لتوليدِ نبضةٍ صوتيّةٍ من الضَّوءِ يجبُ أن نعرفَ أنَّ الأمواجَ الصَّوتيّةَ تُولَّدُ عادةً ضمنَ مجالٍ تردُّديٍّ محدَّدٍ بحسبِ المادة، وهنا تكمنُ الخدعة، فبدلًا من إرسالِ شُعاعٍ ضوئيٍّ واحدٍ، يتمُّ إرسالُ شعاعينِ باختلافٍ بسيطٍ بينَ درجةِ لونِهما، ويكونُ فرقُ التَّردُّدِ بينهما هو تردُّدُ موجةِ الصَّوتِ البديلةَ الّتي سنحوّلُ الضَّوءَ لها ريثما نتّخذُ قرارًا بشأنه.
بعد الانتهاءِ منَ المعالجةِ تتمُّ إعادةُ توليدِ شعاعينِ ضوئيَّينِ بفارقِ تردُّدٍ مساوٍ لتردُّدِ موجةِ الصَّوتِ، ونستغني عن شُعاعِ الضَّوءِ ذي التَّردُّدِ العالي لنحتفظَ بشعاعِ الضَّوءِ ذي التَّردُّدِ المنخفضِ (شعاع البياناتِ الأساسيِّ) ليمرَّ عبرَ الكابلاتِ وينقلَ البيانات.
هل هذا كافٍ لحلِّ المشكلة؟
للأسف الجواب هو لا، والسَّببُ هو عرضُ الحِزمةِ Bandwidth، المشكلةُ الرّئيسيّةُ في إرسالِ الموجاتِ الصَّوتيّة. لو كانَ لدينا نبضةٌ ضوئيّةٌ مُدَّتها أقلُّ من نانو ثانية فإنّها تحتاجُ إلى حوالي جيجا هرتز كعرضِ حزمةٍ صوتيّةٍ لتوليدِ موجةٍ صوتيّةٍ من تلكَ النَّبضةِ. لكنَّ التَّردُّداتِ الصَّوتيّةِ العاليةِ غيرَ مرغوبٍ بها بسببِ حساسيَّتِها لعيوبِ الوسطِ الَّذي تنتشرُ فيه، والتَّردُّداتِ المُنخفضةِ لا يلبّي عرضُ نطاقها الصَّغيرِ معدَّلاتِ نقلِ البياناتِ الحديثة.
ما الحلُّ إذًا؟
ابتكرَ باحثونَ في جامعة Cornell في نيويورك، في الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيّةِ، ما يُسمّى بأدلّةِ الموجةِ waveguides في الزُّجاجِ (كوسطٍ ماديٍّ لاختبارِ التِّقنيّةِ)، وهي قادرةٌ على توجيهِ الموجاتِ الضَّوئيَّةِ والصَّوتيّةِ معًا. تكمنُ الفكرةُ الرَّئيسيّةُ لبنيةِ التّوجيهِ هذهِ في التَّحكُّمِ في الدَّليلِ المَوجيِّ عِوضًا عن التّحكُّمِ في الموجةِ بحدِّ ذاتِها، الأمرُ الّذي يسمحُ باختيارِ خصائصِ الدَّليلِ المَوجيِّ كعرضِ النِّطاقِ لتوليدِ الصَّوتِ الّذي يزدادُ بشكلٍ كبيرٍ بالنّسبةِ للتّردُّداتِ المُنخفضَةِ، ولأنَّ الأمواجَ الصَّوتيّةَ تقتصرُ على الدَّليلِ المَوجيِّ فإنَّها تبقى قويّةً جدًّا (أي لا تتخامد) بعدَ عدَّةِ نانو ثانية ما يعني إمكانيّةَ استخدامَ الدَّليلِ الموجيِّ لاستعادةِ النَّبضةِ الضَّوئيّةِ من نبضةِ الموجةِ الصَّوتيّةِ.
وهذا بالضَّبطِ ما قامَ به الباحثون، فقد بيَّنوا في البدايةِ إمكانيّةَ تحويلِ نبضةٍ ضوئيّةٍ قياسيّةٍ إلى نبضةٍ صوتيّةٍ وإعادتِها إلى ضوئيّةٍ مُجدَّدًا في زمنٍ قدرُهُ 3.5 نانو ثانية، والّذي لايُعتبَرُ وقتًا طويلًا جدًّا إلّا أنَّهُ طويلٌ كفايةً ليكونَ مُفيدًا.
النّقطةُ المهمَّةُ المتبقيّةُ هي التّأكدُ من أنَّ هذه التِّقنيّةَ تُحافِظُ على البياناتِ المنقولةِ ولاتُغيِّرُها. في الماضي كُنّا ننقلُ بِتًّا واحدًا في كلِّ لحظةٍ عن طريقِ تفعيلِ وتعطيلِ on/off المنبعِ الضَّوئيِّ، أمّا اليوم فإنَّنا نستخدمُ كلًا من مطالِ amplitude وطَورِ phase الضَّوءِ، ما يعني أنَّه وبدلًا من إرسالِ بِتِّ بياناتٍ واحدٍ في كلِّ ومضةٍ ضوئيّةٍ فإنَّنا نُرسِلُ 4 بتّاتٍ أو أكثرَ معًا. لكن وعندَ تحويلِ النَّبضةِ الضَّوئيّةِ إلى صوتيّةٍ هل تحتفظُ النّبضةُ الصَّوتيّةُ بمعلوماتِ الطَّور؟ الجوابُ هو نعم، فقد قامَ الباحثونَ بقياسِ طورِ النَّبضةِ الضَّوئيّةِ قبلَ تحويلِها إلى صوتيّةٍ ووجدوا أنَّه قد تمَّت المحافظَةُ على طورِ النَّبضةِ وهذا بدوره يعني أنَّ نظامَ الذَّاكرةِ الصَّوتيّةِ جاهزٌ لإنشاءِ نظامِ اتّصالاتٍ حديثٍ تمامًا.
هل سنستخدم هذه التّقنيّةَ إذًا؟
لا يزالُ الوقتُ مبكِّرًا جدًّا لقولِ ذلكَ لأنَّه لا تكفي دراسةُ جدوى التِّقنيّةِ ومدى فاعليَّتِها، لكنَّ كِلفةَ اعتمادِ نظامِ شبكاتٍ قائمٍ بشكلٍ كاملٍ على هذه التّقنيّةِ لا بُدَّ أن تُؤخَذَ بعينِ الاعتبارِ.
المصدر: هنا