الفيزياء والفلك > فيزياء
أَربعة اكتِشافاتٍ فيزيائيّةٍ غَيّرَتْ نَظرتَنا إلى الكَون
تَقتصِر تَجربة مُعظمِ النّاسِ مع العِلم على دُروسِ المدرسةِ المُملّة، وعلى الرّغمِ من أنَّ العِلم يُحيط بِنا في كلِّ مكانٍ ويُؤثّرُ على كُلِّ جوانبِ حياتنا - بغضِّ النّظر إن كُنّا نُلاحظُه أم لا - فإنَّ الكثيرين منّا لا يَزالونَ يَجهلون العَديد مِن القِصَص الشائقةِ والمُثيرةِ للإلهام وَراءَ أهمِّ الاكتشافاتِ في تاريخِ العِلم .
وإذا أردتَ أن تَتعرف على كَيفيّةِ عَملِ الكَون والقوانينِ التي تَحكُمه فعليكَ التّركيزِ علَى هذه الاكتشافاتِ الأربعةِ الرّائعةِ والقِصص وراءَها .
انحِفَاظُ الطّاقَة
كانَ غاليليو غاليلي (1642-1564) في عَامِ 1609 قَد فَهِم الكَثيرَ عَن انحِفاظِ الطّاقَة ما بَين طاقةٍ حَركيّةٍ (طاقةُ الجِسمِ المُتحرّك) وطَاقةٍ كامنةٍ (الطّاقة التي يَختزِنُها الجِسم)، وذَلك مِن خِلالِ تَجارِبه علَى اهتِزازِ النّواسات والسّقوط الحُرِّ للأجسامِ أو تَدحرجِها على السّطوحِ المائِلة .
ومع ذلك فقد بَقيَ غاليليو عاجزاً عَن تَقدِيمِ تَعريفٍ واضِحٍ للطاقةِ أو إدراك حَالاتِها الأُخرى، وهذا ما بقي سِراً أمامَ العلماء لمئتيّ عامٍ أُخرى، لمَ كُلُّ هذهِ المُدّة ؟ الحرارة .
كَانَ يُنظَر إلى الحَرارَة في نهايةِ القرنِ الثّامنَ عشر على أنَّها نَوعٌ مِن السّوائلِ يُمكنُه التّدفّق خِلاَل الأجسامِ العاديّةِ ما لم يَبدُ غريباً على أيّة حال، فالحرَارةُ عَلى سَبيلِ المِثال تَتدفّقُ مِن القَهوةِ السّاخنةِ عَبر الكأسِ لتَصِل إلى يَدك فتَشعُر بِها .
يَعودُ الفَضلُ في فَهمِ العَلاقَة بَين الحرارةِ والعمل إلى يوليوس روبرت مَاير (1878-1814) و جيمس بريسكوت جُول (1889-1818) إذ وَضّحا أنَّ الحرارةَ هي أحدُ أشكالِ الطّاقة، وبناءً على عملهما هذا؛ قام هيرمان فون هيلمهولتز (1894-1821) ببناءِ نظريّةٍ رياضيّةٍ تَصِف انحفاظَ الطّاقةِ بما في ذلك الطّاقة الحركيّة والكامنة والحرارة، بالإضافةِ إلى أشكالٍ أُخرى للطاقةِ مِثل الطّاقةِ الكَهربائيّةِ والمِغناطيسيّة والكيميائيّة، وأدّت هذه الجهودُ مُجتمعةً إلى صياغةِ القانونِ الأوّل (الطّاقةُ لا تَفنى ولا تُوجد مِن العدَم) في عامِ 1850 .
الإنترُوبيّة تَزدادُ دَائماً
أَرادَ سادي كارنو (1832-1796) أن يَفهمَ السّببَ وَراءَ عَدمِ فاعليّةِ المُحركاتِ الحَراريّةِ (مِثل مُحرّكِ السّيارة) في تَحويلِ الحرارةِ إلى عَمل، وكَانت هذه مُشكلةً جديّةً في ذلك الوقت، إذ كَان المُحرّكُ الحَراريُّ يَستخدم 6 بالمئة فقط منَ الحرارةِ لتحويلها إلى عمل أمّا الباقي فكانَ يَضيعُ في البيئةِ المُحيطةِ. ووجدَ كارنو أنَّ أكثر المُحرّكات مِثاليّة (دونَ أيّة طاقةٍ ضائعةٍ في الاحتكاكِ بينَ أجزائهِ ) لا يُمكنُ أن يكونَ فعّالاً بنسبةِ مئةٍ بالمئة؛ إذ لا يستطيعُ أن يقومَ بتحويلِ الحرارة كلِّها إلى عمل وكأنّ الكون يقتضي دائماً أن تكونَ هناك خسارةٌ في الحرارة! أمّا السؤالُ الذي لم يستطع الإجابة عنه فهو: لماذا؟
قَامَ ويليام تومسون (1907-1824) الذي عُرف لاحِقاً بـ اللورد كلفن بنَشرِ مَقالٍ في عامِ 1852 وَضّح فيهِ أنَّ أنواعَ الطّاقةِ لا تتولّد على نحوٍ مُتساوٍ، وأنّ بعضِ أنواعِ الطاقة تَصلُح لِأن تتحوّل إلى عَمل، في حين أنّ بعضَها أقلُّ إذعانًا.
فاستخراجُ العملِ من تدفُّقِ النَّهرِ المُنتظمِ على سَبيلِ المِثال أسهلُ مِن استخراجه مِن أمواجِ المُحيطِ المتلاطمة والعشوائيّة .
استنتجَ تومسون أنَّ الطبيعة تُفضُّل الطّاقةَ المُشتّتة أو العشوائيّة وعندما تُشتت الطّاقة يُصبح من الأصعب تحويلُها إلى عمل، وباكتِشافه هذا كان قد اكتشفَ شيئاً جديداً لم يُذكر في القانونِ الأوّل للطاقة .
اعتمدَ رُودولف كلاوسيوس (1888-1822) على أعمالِ كارنو ليكتشفَ خَاصيّةً فيزيائيًّة جديدةً أُطلق عَليها عَام 1865 اسمَ الإنتروبيّة؛ إذ وَجد كلاوسيوس أنَّ الإنتروبيّة تَزدادُ دائِماً في كُلِّ التّفاعلاتِ التي تَحدثُ في الطّبيعةِ (مثل تبريدِ القهوة) وهذا ما لَخّصهُ في قولِه "إنتروبيّة الكون تَسعى دائماً إلى الازدياد " ما يُذكّرنا بقولِ تومسون أنَّ الطّاقة تَميل دائماً إلى التَشتَت .
أظهرَ لودفيغ بولتزمان (1844-1906) أنَّ الإنتروبيّة مرتبطةٌ بالحركةِ الميكروسكوبيّة للذرّاتِ والجزيئات، فقد دَرس على نحوٍ خاصٍّ مجموعةً مِن ذرّاتِ الغازِالمُتصادمةِ بعضِها مع بعضٍ، وأطلقَ على مَوقِع كُلٍّ مِنها وسرعتها (في لَحظةٍ مُعيّنة مِن الزّمن ) اسمَ الحالةِ الميكروسكوبيّة، فالطّبيعة في وَصفِ بولتزمان تُفضّل العمليّات الفيزيائيّة التي تزيدُ عددَ الحالاتِ الميكروسكوبيّةِ وبالتّالي تزيدُ مِن الإنتروبيّة ( مِثل خفقِ القَهوة والكريمة) .
الضَّوءُ يَأتي علَى شَكلِ جُسيمَات …… وأيضاً أموَاج
شكّلَتْ طَبيعةُ الضّوءِ مَوضوعاً للنقاشِ مُنذ زَمنِ الإغريقِ القدماء، ولكِن بفضل أعمال جيمس كليرك ماكسويل (1879-1831) وُحِّدَت الكهرباءُ والمِغناطيسيّةُ في عامِ ،1864 وقُبِلَ الضّوءُ بوصفه موجةً كهرطيسيّةً، وقد نجح هذا التوصيف للضوء في تفسيرِ العديدِ مِن الظّواهرِ الفيزيائيِّة، لذا لم يجرؤْ أحدٌ أن يعبثَ بِه، باستثناءِ فيزيائيّ واحدٍ فقط كان لهُ رأيٌ مُغاير .
اقترحَ آينشتاين ذو السّتةِ والعشرينَ عاماً فِي سَنة 1905 أنَّ الضَوءَ يأتِي بكميّاتٍ مُحدّدةٍ نُطلقُ عَليها اليوم اسمَ الفوتونات، وقد تَوصّل آينشتاين إلى ذلكَ بإظهارِه أنَّ إنتروبيّةَ الغازِ المِثاليِّ تَمتَلك شكلَ إنتروبيّة الضّوءِ ضَعيفِ الشّدة ذاتَهُ، ولكنَّ المجتمع الفيزيائيّ - للأسف - لم يكُن مُستعدّاً لاكتشافٍ كهذا، واستغرق الأمرُ عشرينَ عاماً حتّى يتقبّلهُ كليّاً.
تَبقى فِكرةُ ازدواجيةِ الضّوءِ هذه (كما كُلّ جُسيمات الكمِّ الأُخرى : الإلكترونات و البروتونات والنويترونات ) على الرُغمِ من غرابتِها جُزءاً بسيطاً من عالمِ فيزياءِ الكَمّ العَجيب .
الكَونُ يَقومُ عَلى الاحتِمالات
استغرقَ إرفين شرودنغر(1961-1887) ابنُ الثّمانيةِ والثّلاثين عاماً سنةً كاملةً في كتابةِ ستّة صفحاتٍ علميّةٍ وَضعت عام 1926 الأسسَ لميكانيكِ الكمّ، وقَدّمت لنا مُعادلته الموجية الشَهيرة التي أدّت تَبِعاتُها إلى تَفجيرِ ثَورةٍ في عالمِ الفيزياء واستنكارٍ من قبل آينشتاين، بل حتّى شرودنغر نفسُه لم يُخفِ بعضاً مِن النّدمِ تِجاهها .
حَاولَ عِدّةُ فيزيائيينَ تفسيرَ ذَلك؛ ولكنَّ النجاحَ قَد حالفَ ماكس بورن (1970-1882) الذي قدّمَ التّفسيرَ الفيزيائيَّ التّالي :
قوانينُ ميكانيكِ الكَم قائمةٌ على الاحتمالات وكذلك الكَونُ بأسره .ماذا؟ مهلًا!! هل يُمكن ذلك حقاً ؟
فلنَأخذ أبسطَ الذّراتِ وهَي ذَرّةُ الهيدروجين التي تَملكُ إلكتروناً واحداً وبروتوناً واحداً، يَعتقدُ غالبيّتُنا أنَّ الإلكترون يَتحرّكُ حَول البروتون في مسارٍ دائريٍّ كما تَدورُ الأرضُ حَولَ الشّمسِ وعلى الرُغمِ مِن كَونِ هذه الصّورة مُرضيَةً وبسيطةً؛ لكنّها تتعارضُ مع ميكانيكِ الكمّ، فالإلكترون بوصفه جُسيماً كَميّاً لا يُمكنُ تَحديدُ مَسارهُ أو خصَائصه الفيزيائيّةِ في أيّةِ لحظةٍ مِن الزّمنِ على نحوٍ كاملٍ، بَل تَكون الأمورُ - بدلاً مِن ذلكَ - ضبابيّةً بعضَ الشّيء، وكُلُّ ما يُمكنُ قَولَه أنَّ الإلكترون يَتحرُّك بَين الحالاتِ الكميةِ حَسب احتمالاتٍ تُحدّدها مُعادلةُ شرودنغر الموجيّة .
يتلو العلمُ على مسامعنا العديدِ من القِصصِ الشائقةِ مِثلَ هذه؛ تلك التي لا يُمكن أن تُوصَفَ بالمملّةِ عند الاطّلاعِ عَليها،
تأمّل حالياً في هذه العجائبِ التي نَأملُ أن تُلهمكَ لكِي تَكتشفَ المزيدَ مِنها في المُستقبل .
المصدر: هنا