الطبيعة والعلوم البيئية > علم الأرض
القطبُ المتجمّدُ الشّماليّ .. لن يبقَى متجمّـداً!
لم يقتصرْ تأثيرُ التّغيّرِ المناخيّ على الهواءِ فقط، إنّما اتّسعَت رقعتُه ليؤثّرَ على المناطقِ الجليديّةِ من سطحِ الأرض، بل وتعدّاها ليعيدَ رسمَ خارطةِ تلك المناطقِ بالكامل.
إذ بدأ غطاءُ الجليدِ البحريّ الّذي يغطّي المحيطَ المتجمّدَ الشّماليّ بالتّقلّصِ في الوقتِ الّذي كانَ يفترضُ به أن يتمدّد، كما ارتفعَت درجاتُ الحرارةِ في القطبِ الشّماليّ في بعضِ الأوقاتِ أكثرَ من 20 درجةٍ مئويّةٍ فوقَ وضعِها الطّبيعيّ؛ ممّا أثّرَ على سلوكِ الدّببةِ القطبيّةِ أيضاً.
وكذلك تُشيرُ التّوقّعاتُ إلى إمكانيّةِ فقدانِ جليدِ المحيطِ المتجمّدِ الشّماليّ بحلولِ صيفِ عامِ 2030، وهو تحوّلٌ جذريّ من شأنِه أنْ يقلبَ النّظمَ البيئيّةَ في القطبِ الشّماليّ، ويسبّبَ اضطّرابَ العديدِ من المجتمعاتِ الطّبيعيّةِ الشّماليّة، كما سيطالُ هذا التّغييرُ الأماكنَ الواقعةَ خارجَ حدودِ المنطقةِ أيضاً.
إذ يمكنُ أن يؤدّي ذوبانُ الجليدِ البحريّ إلى زيادةِ الاحترار، وحتّى اضطراب أنماطِ الطّقسِ في جميعِ أنحاءِ العالم، ممّا استدعى البحثَ في احتماليّةِ مواجهةِ هذا التّغيّرِ ومعرفةِ الكائناتِ الأكثرَ تأثّراً بهِ وطرقِ حمايتِها، إذ يكمنُ جزءٌ كبيرٌ من الحلّ في إيقافِ -وحتّى عكس- الزّيادةِ في انبعاثاتِ غازاتِ الدّفيئةِ ممّا سيؤدّي إلى تأثيرٍ معاكسٍ لذوبانِ الثّلوجِ أو على الأقلّ توقّفاً لذوبانِها.
فترةٌ زرقاءُ على المحيطِ المتجمّدِ الشّماليّ:
على الرّغمِ من معرفةِ العلماءِ بتناقصِ جليدِ المحيطِ المتجمّدِ الشّماليّ بسرعة، إلّا أنّهم لم يتوقّعوا رؤيةَ هذهِ الخسائرِ الكبيرةِ في مساحاتِ الجليدِ قبلَ منتصفِ القرنِ الحادي والعشرين، لكن ومع ذلك لا تزالُ هناكَ فرصةٌ من النّاحيةِ النّظريّةِ لمنعِ الفقدانِ الكاملِ لجليدِ البحرِ الصّيفيّ، إذ تشيرُ النّماذجُ الحاسوبيّةُ إلى إمكانيّةِ إنقاذِ حوالي ثلاثةِ ملايين كيلومتر مربع -أي ما يقاربُ نصفَ مساحةِ غطاءِ الجليدِ الصّيفيّ الأدنى في العقودِ الأخيرة- إذا وفَت دولُ العالمِ بالتزاماتها تجاهَ اتّفاقِ المناخِ الّذي أُبرِم حديثاً في باريس، والّذي يحدّ من الاحترارِ العالميّ إلى درجتين مئويّتين فوقَ مستوياتِ ما قبلَ الثّورةِ الصّناعيّة، وقد تحدّثنا عن ذلك في مقالٍ سابق.
ومع ذلك، فلا يعوّلُ باحثو الجليدِ البحريّ على ذلك، إذ قلّلت تلكَ النّماذجُ دائماً من شأنِ معدّلِ ذوبانِ الجليد، ممّا أثارَ قلقَ العلماءِ من أنّ الانخفاضَ في العقودِ القليلةِ القادمةِ سيتجاوزُ التّوقّعات، ونظراً للالتزاماتِ المحدودةِ الّتي تعهّدت بها البلدانُ حتى الآن للتّصدّي للتّغيّر المناخيّ؛ يشكّكُ العديدُ في إمكانيّةِ تحقيقِ هدفِ اتفاقيّةِ باريس، لكنّ ما نعرفُه هو أنّنا سنشهدُ فصولَ صيفٍ خاليةً من الجليدِ في المتجمّدِ الشّماليّ، إذ سترتفعُ الحرارةُ فيها بحوالي 4-5 درجات، وذلكَ بسببِ العمليّاتِ الّتي تحدثُ في خطوطِ العرضِ العليا، كما سيشعرُ سكّانُ القطبِ الشّماليّ البالغُ عددُهم 4 ملايين نسمةٍ -بمن فيهم 400000 من السّكّان الأصليّين- بأكثرِ الآثارِ المباشرةِ لفقدانِ الجليد، وستضطّرُّ مجتمعاتٌ ساحليّةٌ بأكملها -كالكثيرين في ألاسكا- إلى الانتقالِ مع ذوبانِ طبقةِ الجليدِ الأرضيَ "Permafrost" وتدهورِ الشّواطئ دون جليدٍ بحريّ ليحميها من صدماتِ العواصفِ العنيفة.
ووفقاً لتقريرٍ أُعِدّ عام 2013، سيجد سكّان غرينلاند صعوبةً في السّفرِ على الجليدِ البحريّ، وسيكافحُ رعاةُ الرّنّةِ في سيبيريا من أجلِ إطعامِ حيواناتِهم، وفي الوقتِ نفسِه ستُفتَح فرصٌ اقتصاديّةٌ جديدة؛ لأنّ المياهَ المكشوفةَ تتيحُ إمكانيّةً أكبرَ للوصولِ إلى مناطقِ الصّيد ورواسبِ النّفط والغاز.
وحتّى سكّان خطوطِ العرضِ الوسطى لن يكونوا آمنين، إذ يشيرُ بحثٌ حديثٌ إلى أنّ المياه المكشوفةَ في القطبِ الشّماليّ قد تكون ساعدت في تضخيمِ أحداثِ الطّقس، مثل موجاتِ البردِ في الولاياتِ المتّحدةِ وأوروبا وآسيا في فصولِ الشّتاءِ الأخيرة.
وبالفعل فإنّ الآثارَ قد تصلُ إلى جميعِ أنحاءِ العالم، وذلك لأنّ الجليدَ البحريّ يساعدُ على تبريدِ الكوكبِ من خلالِ عكسِ أشعّةِ الشّمس ومنعِ المحيطِ المتجمّدِ الشّماليّ من امتصاصِ الحرارة، ويؤدّي إلى بقاءِ درجاتِ حرارةِ الهواءِ والمياهِ المحليّةِ منخفضة، وهذا يؤدّي بدورهِ إلى الحدّ من ذوبانِ الصّفائحِ الجليديّةِ في جرينلاند وطبقةِ الجليدِ الأرضيّ (Permafrost).
وبغيابِ الجليدِ الصّيفيّ، يمكنُ أن تساهمَ الأنهارُ الجليديّة في غرينلاند في ارتفاعِ مستوى سطح البحرِ ارتفاعاً أكبر، كما يمكنُ أن يطلقَ الجليدُ الأرضيَ مخازنهُ من غازاتِ الدّفيئةِ مثلَ الميثان، وكلُّ ذلك بسبب جليدِ القطبِ الشّماليّ.
لكنّ النّظمَ البيئيّة في القطبِ الشّماليّ سوف تتعرّضُ للصّدمةِ الأكبر، فعلى سبيلِ المثال؛ لاحظَ علماءُ الأحياءِ في عامِ 2007 شيئاً غريباً في ألاسكا؛ إذ انتقلت أعدادٌ كبيرةٌ من أحصنةِ البحرِ إلى الشّاطئ على ساحلِ بحرِ تشوكشي، حيث ترتاحُ عادةً فوقَ الجليدِ البحريّ، بينما تبحثُ عن الغذاءِ في البحر، ولكن خلال ذاك العام، وكلّ عامٍ تقريباً منذ ذلك الحين، تراجُعُ الجليدِ البحريّ في أواخرِ الصّيف جعلَ ذلكَ مستحيلاً، ممّا دفعَ أحصنةَ البحرِ في المحيطِ الهادئ للتكيُّفِ عن طريقِ تنقّلها على اليابسة، وهذا ما أقلقَ العلماءَ من احتماليّةِ تناقصِ أعدادِ هذه الكائنات، وانتقالِ تأثيرِ القطبِ الشّماليّ.
وبالنّسبةِ للمحيط، ستحلّ العوالقُ محلّ الطّحالبِ الّتي كانت تنمو على الجليد، وتشيرُ بعضُ النّماذجِ إلى إمكانيّةِ تزايدِ المؤشّراتِ البيولوجيّةِ بحوالي 70% في حالِ اختفاءِ ذوبانِ الثلوجِ الموسميّ بحلولِ عام 2100 مما سيزيد من مردودِ عمليّاتِ الصّيدِ هناك (الطبيعيّ منها إذ وافقت خمس دول قريبة من القطبِ الشّماليّ على منع الصّيد الجائر)، كما يبدو أنّ العديدَ من الحيتانِ قد بدأت تستفيد بالفعلِ من وفرةِ الطعام.
ولكن من ناحيةٍ أخرى، سيشكّل هذا التّغيّر تحديّاً للأنواعِ الّتي ترتبطُ دوراتُ حياتِها بالجليدِ البحريّ، مثل أحصنةِ البحر وفقماتِ القطبِ الشّماليّ، وكذلك الدّببة القطبيّة الّتي لا يتوافرُ لها الكثيرُ من الغذاءِ على اليابسة، إذ يكونُ مصيرها الموت في حال استمرّت فتراتُ غيابِ الجليدِ أطول من اللّازم، الأمر الّذي أدى إلى إدراجِ الدّببةِ القطبيّةِ عام 2008 ضمنَ الكائناتِ المهدّدةِ بالانقراض.
آخرُ مناطقِ الجليد:
تُعتبرُ الشّواطئ المتجمّدةُ الشّماليّةُ لجرينلاند وكندا الأكثرَ ترجيحاً للبقاء، إذ تشيرُ الدّراساتُ إلى أنّ حوالي نصف مليون كيلومتر مربّع من الجليدِ الصّيفيّ سينجو بعد أن تذوب بقيّةُ المنطقةِ القطبيّة الشّماليّةِ لأنّ أنماطَ الرّياحِ تسبّبُ تراكمَ الجليدِ هناك، وسماكةُ الجليدِ تساعدُ على منعِه من الذّوبان.
ولحمايةِ هذهِ المنطقة، أدرجها الصّندوقُ العالميّ للحياةِ البريّة WWF كموقعِ تراثٍ عالميّ كونها تشكّلُ موطناً للكثيرِ من الأنواعِ الحيوانيّة، وفي كانون الأوّل الماضي؛ أعلنت كندا أنّها ستبدأ بخططِ حمايةِ تلك المناطق، وانضمّت لها بعضُ الجماعاتِ في ذلك، كما تعهّدت الولاياتُ المتّحدةُ وكندا بحماية 17٪ من أراضي القطبِ الشّماليّ بين البلدين و 10٪ من المناطقِ البحريّة بحلولِ عام 2020 -خلال فترةِ حكمِ باراك أوباما- ولكن مع ذلك، فهناكَ حدودٌ لإمكانيّاتِ تلك الشّواطئ، فهي تضمُّ حوالي 2000 دبّاً قطبيّاً ممّا مجموعه 25،000 دبّاَ، واتّساعها لمزيدِ يعتمدُ على تكيّفها مع التّغيّر الحراريّ، وقد تكونُ هذه المنطقةُ أيضاَ أكثرَ قدرة على التّأقلمِ ممّا توضّحه لنا النّماذج.
وإن بدا مستقبلُ القطبِ الشّماليّ مخيفاً، فهناك مصدرٌ وحيدٌ للتّفاؤلِ؛ إذ يمكنُ للجليدِ أن يتشكّلَ مرّةً أخرى إذا انخفضت درجةُ حرارةِ الكوكب حتّى لو اختفى كلّه، فخلافاً للصّفائحِ الجليديّةِ الأرضيّة -البطيئة التّشكّل-؛ سينمو الجليدُ البحريّ سريعاً حالما تصبحُ درجاتُ الحرارةِ الصيفيّةِ مناسبة، لكنّنا مع ذلك لا نعرف تلك الدّرجات تحديداً، إلّا أنّنا نعلمُ أنّ تركيزَ غازاتِ الدّفيئةِ في الجوّ سيبلغ 450 جزءاً بالمليون ppm-وهو أعلى من التّركيزِ الحاليّ بحوالي 50 جزءاً- ومع ذلك يوجد ما يؤثّر على معدّلِ نموّ الجليدِ إلى جانبِ تركيزِ الغازات، مثل زمنِ غيابِ الجليدِ والثّلج عن منطقةٍ ما، الأمرُ الّذي يحدّدُ كميّةَ الحرارةِ الّتي يمكن أن تُختزَن.
تبريدٌ عالميّ:
ونظراً للمخاطر؛ اقترحَ بعضُ الباحثين مشروعَ هندسةٍ جيولوجيّةٍ على نطاقٍ عالميّ لتبريدِ الكوكب، وبالتّالي الحفاظُ على الجليدِ أو استعادتُه.
ويرى آخرون أنّه قد يكون من الممكنِ تبريدُ الشّمالِ فقط، مثلاً عن طريقِ تبييضِ المحيطِ المتجمّد الشّماليّ اصطناعيّاً بواسطةِ جسيماتٍ عائمةٍ ذاتِ لونٍ فاتحٍ لتعكسَ أشعّة الشّمس، كما اقـتُرِحَ هذا العام تركيبُ مضخّاتٍ تعملُ بطاقةِ الرّياحِ لجلبِ المياهِ الباردةِ إلى السّطح في فصل الشّتاء، إذ تجمُدُ، وتشكّلُ جليداً أكثرَ سمكاً.
إلّا أنّ العديدَ من الباحثين يتردّدون في تبنّي الهندسةِ الجيولوجيّة، ويتّفقُ معظمهم على أنّ المشاريعَ الإقليميّةَ تتطلّبُ جهوداً هائلةً مقابلَ فوائدَ قليلة؛ نظراً لأنّ دوراتِ المناخِ الأرضيّةَ يمكنُ أن تجلبَ المزيدَ من الحرارةِ إلى الشّمال للتّعويض، ويرونَ أنّ إدارةَ غازاتِ الاحتباسِ الحراريّ - والملوّثات المحليّة مثل الكربون الأسود النّاتج عن الشّحن - هي الحلّ الوحيدُ الطّويلُ الأمد.
إنّ العودةَ إلى عالمٍ يمتلكُ جليداً يمكنُ أن يكونَ لها امتيازاتٌ كبيرة، مثل استعادةِ بعضِ الخدماتِ المناخيّةِ الّتي يقدّمها القطبُ الشّماليّ للعالمِ واستقرارِ أنماطِ الطّقس.
وفي المنطقةِ نفسِها؛ فإنّ استعادةَ قطبٍ شماليّ أبيضَ يمكنُ أن ينقذَ الدّببةَ القطبيّةَ والأنواعَ الأخرى المعتمدةَ على الجليد، وقد يكونُ باستطاعةِ هذهِ الكائناتِ النّجاة لفترةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ نسبيّاً خاليةٍ من الجليد، إمّا عبرَ البقاء في منطقةِ الجليد الأخيرة أو أماكنَ أخرى غيرِها مُعدّةٍ للحفاظ على التّنوّعِ الحيويّ، وعندما يعودُ الجليد؛ يمكنها أن تنتشرَ مرّة أخرى لاستيطانِ القطبِ الشّماليّ من جديد.
وقد حدث ذلك بشكلٍ شبه مؤكّد خلالَ تقلّباتٍ مناخيّةٍ سابقة، فعلى سبيلِ المثال؛ يعتقدُ الباحثون أنّ القطبَ الشّماليّ قد يكون شهدَ فصولَ صيفٍ خاليةً من الجليدِ تقريباً خلالَ فترةِ ما بين العصورِ الجليديّةِ الماضية، أي قبل 130000 سنة.
ولكنّ هناك شيئاً مؤكّداً هو أنّ العودةَ إلى عالمٍ فيه جليدُ بحرٍ صيفيّ في القطبِ الشّماليّ لن يكونَ أمراً بسيطاً من النّاحيةِ السّياسيّة أو التّقنيّة؛ لن يتقبّلَ الجميع العودةَ إلى قطبٍ شماليّ مغطّى بالجليد، خصوصاً إذا بقي خالياً لعدّة أجيال، إذ أصبحتِ الشّركاتُ والبلدانُ تتطلّع بالفعلِ إلى فرصِ استكشافِ النّفطِ والغاز والتّعدين والشّحن والسّياحة وصيدِ الأسماكِ في منطقةٍ تحتاجُ بشدّة إلى التّنميةِ الاقتصادية.
المصدر: