كتاب > روايات ومقالات
فهرنهايت 451
يقدمُ لنا راي برادبوري هذا المجتمعَ بكلِّ سوداويّتهِ وكآبتهِ عبرَ روايتِه "فهرنهايت 451" والتي كتبَها في منتصفِ خمسينياتِ القرنِ الماضي في الولاياتِ المتحدة الأمريكية تحتَ تأثيرِ الحقبةِ المكارثيةِ نسبةً إلى السيناتور جوزيف مكارثي وذلكَ في بدايةِ الخمسينيات أثناءَ الحربِ الباردةِ والمطارداتِ والاتهاماتِ التي طالتِ العديدَ من الأدباءِ والكتّابِ والسياسيين في الولايات المتحدة وأقصتِ الكثيرَ مِنهم بتهمةِ الشيوعية.
تندرجُ الروايةُ تحتَ تصنيفِ رواياتِ الديستوبيا أو أدبِ المدينةِ الفاسدة، الذّي يقدمُ مجتمعاً مستقبليّاً خياليَاً فاسد، تعبّرُ أحداثُ الروايةِ عن ذلكَ بشكلٍ مباشرٍ عن طريقِ حياةِ بطلِ الروايةِ "مونتاغ" في ظلِ نظامٍ شمولي.
يعملُ "مونتاغ" كرجلِ إطفاء، ولكنَّ لرجلِ الإطفاءِ في هذهِ الدولةِ مَهمةٌ غيرَ المَهمةِ التي نعرفُها نحنُ في حياتنا، فوظيفتُه هي إحراقُ الكتبِ وملاحقةُ أصحابها. علماً أنَّ البيوت لا تحترقُ منذُ أن عمَّ نظامُ إطفاءِ الحرائقِ الأوتوماتيكي في كلِّ بيوتِ الدولة. يقومُ هذا النظامُ الشموليُّ بالسيطرةِ على عقولِ مواطنيه من خلالِ وسيلةِ المعرفةِ الوحيدةِ ألا وهي التلفاز، حيثُ تُبَثُ البرامجَ التفاعلية مع جميعِ المواطنين الذّينَ فَقدوا كلَّ معنى للحياةِ منذُ فقدانِهم المعرفة، وأصبحوا آلاتٍ جامدةً بليدةً يَزرعُ النظامُ بعقولها ما يريدُ زرعه، ويسلبُ مِنهم ما يريدُ سلبه.
تحدثُ نقطةُ التحوُّلِ العظمى في حياةِ "مونتاغ" عندما يلتقي جارتَه المثقفة "كلاريس" التي تُشعلُ مخيلتَه بالحديثِ عن الحياةِ الجميلةِ بكافةِ تفاصيلها، وحينَ تُفاجأهُ بسؤالِها: "هل أنتَ سعيد؟" تنقلبُ حياتُه رأساً على عقب، ويبدأُ رحلةَ البحثِ عن المعرفةِ من خلالِ سرقتِه للكتبِ التي يقوم هو وباقي رجالِ الإطفاءِ بإحراقِها فيحتفظُ بنسخةٍ مِنْ كلِّ بيتٍ يتمُ اقتحامه لحرقِ ما فيه مِنْ كتب.
يطرحُ برادبوري في هذه الروايةِ سيناريوهين لعشاقِ الكتب: الأول يعتبرُ حدثاً تكررَ في التاريخِ بشكلٍّ كثيفٍ بسببِ تعاقبِ الديكتاتورياتِ عبرَ رحلةِ الحضارةِ البشريّة في كلِّ مكانٍ على هذه الأرض، ألا وهو إحراقُ الكتبِ، حيثُ تمَّ الحديثُ عن هذا الحدثِ في كلِّ الحضاراتِ والقومياتِ والأجناسِ التي عرفتِ الحضارةَ والأنظمةَ الديكتاتوريةَ والشمولية، فإحراقُ الكتبِ والمعرفةِ هي أولُ وسيلةٌ لقمعِ العقولِ والسيطرةِ عليها. أما الثاني فهو حدثٌ تخيليٌّ يوتوبيٌّ لا يتحققُ إلّا في أحلامِ عشاقِ القراءةِ والمعرفةِ وهو تحوّلُ القارئُ إلى كتاب، تخيّل نفسكَ عزيزي القارئ أنّكَ مسرحيةُ هاملت لشكسبير، كتابُ قصائدَ لجون ميلتون، أو أنّكَ كتابُ السياسةِ لأرسطو. هذا السيناريو المعرفيُّ الجميلُ هو ما يَختمُ به راي برادبوري رائعته، ولنتركْ لكَ النهايةَ مفاجأة، دعوةً لقراءتها.
روايةُ فهرنهايت 451 روايةٌ لا تُقرأُ كلَّ يوم، بل تُقرأُ مرةً في العمر، وعليكَ بعدها أن تحملَ عودَ الثقابِ وتضعهُ بالقربِ مِنَ الكتابِ متأملاً في أحداثِ الروايةِ وإسقاطاتِها عبرَ تاريخِ الحضارةِ البشريّةِ أجمع وأن تسألَ نفسكَ: لماذا يمثلُ هذا الكتاب المعرفةَ البشرية؟
من الجديرِ بالذكر أنَّ هذه الروايةُ قد نالت جائزة بوليتزر عام 2007 والتي تُعدّ مِن أرفع الجوائز الأمريكية والتي تُقدمُها جامعةُ كولومبيا في نيويورك.
معلومات الرواية:
الكتاب: فهرنهايت 451.
المؤلف: راي برادبوري.
المترجم: سعيد العظم.
الناشر: دار الساقي.
عدد الصفحات: 226.