البيولوجيا والتطوّر > التطور
المفهومات الأساسية لنظرية التطور وعملية الانتقاء الطبيعي
كم من مِرّةٍ تردَّدَ فيها على مَسامِعنا بأنَّ "أصلَ الإنسانِ قِردٌ"، فربَّما كانت هذه الجملةُ وحدَها كفيلةً بإبعادِ الكثيرين عن قبولِ نظريّة التطور أو حتَّى مناقشتِها.
وكذلك قد يتسرَّعُ البعض من المتحمِّسين للنظرية ليعدّوا أنَّ الانتقاءَ الطبيعي سيؤدي إلى إنتاج الكائنِ ذي التركيبة الجينية الأمثل؛ إذ استخدمَ داروين عبارةَ "survival of the fittest"؛ أي: "البقاءُ للأكثرِ تكيُّفاً"، ولكنَّنا تسرَّعنا في الترجمةِ وأخذنا نقول: "البقاءُ للأفضل"، ويصبح التضاد ما بين المفهومَين واضحاً إذا ما ناقشنا الآتي: في بيئةٍ تُفضِّلُ كائناتٍ ضعيفةً وكسولةً وجبانةً سيأخذُ الانتقاء الطبيعي مجراه لِيُبقي على الأكثر تكيُّفاً؛ أي يُبقي على الكائناتِ الكسولة!
وبالطريقةِ ذاتِها انتشرَ التباسٌ آخرُ لا بدَّ لنا من تقويمه؛ ويبدو أنّ الوقتَ قد حانَ لتوضيح المفهوماتِ الأساسية لِـ "نظريةِ التطور" ؛ لعلَّنا نبرِّئُها من المغالَطات الشائعة!
في عام 1801 اقترحَ لامارك - وهو عالمٌ بيولوجيٌّ وخبيرٌ في التاريخ الطبيعي - آليَّةً تشرح التغيُّراتِ الوراثية والمرتبطة بصفاتٍ مُكتسَبةٍ؛ بهدفِ تكيف الكائن الحي مع محيطه، وقد ناقش لامارك آليةَ التطور لدى الزرافة، مفترضاً أنَّ رقبتها تطوَّرَت لِتُصبح بهذا الطول وهذا الشكل نتيجةً لفعل التمدد المتكرر الذي تقوم به الزرافة بهدف الحصول على الطعام، ولم تكُن فرضيَّةُ لامارك صحيحةً، وإنّما دلّت أنَّ العلماءَ في بداية القرن التاسع عشر قد بدأوا يتداولون احتمال التطور الطبيعي.
وأثناءَ رحلةٍ في جزرِ غالاباغوس بدأَ الشابُّ البريطاني الشهير تشارلز داروين ذو الـ 21 عاماً - مدفوعاً بفضوله وبأسئلته عن نشأة الكائنات - بجمعِ العيِّناتِ، وتسجيلِ الملاحظات.
وهنا بدأت الاختلافات المدهشة تظهر؛ إذ لاحظَ أنَّ ترسَ السلاحف الخارجي carapace يختلف من بيئةٍ إلى أُخرى، وكذلك لاحظَ أنَّ طيورَ finches (العصفور الدوري) على الرّغم من تشابهِها فهي تتميزُ باختلافاتٍ طفيفةٍ من جزيرة لِأُخرى، وتختلف عن طيور finches في إكوادر التي تبعد 600 ميل شرقاً. وقد شغَلَت ذهنَ داروين أنماطُ توزُّعِ هذه الكائنات جغرافياً والتشابهُ فيما بينها، فرسَمَ هذه الصورةَ في دفتر أبحاثه، إذ لاحظَ اختلافاً في شكل المنقار وحجمه، وعزا ذلك إلى اختلاف أنواع البذور والحشرات المتوفرة في كل بيئة، وتبايُنِ أحجامها.
عاد داروين إلى إنكلترا بعدَ سنواتٍ من الاستكشاف؛ حاملاً ثلاثةَ آلاف صفحةٍ من الملاحظات، إضافةً إلى عيِّناتٍ لأكثر من ألفٍ وخمسمئةِ نوعٍ، وفي عام 1859؛ نشرَ كتابَه المُكوَّنَ من 500 صفحة بعنوان " أصل الأنواع بوسائل الاصطفاء الطبيعي" “on the origin of species by means of natural selection”
فلنكتشفْ معاً بكلماتٍ بسيطةٍ: عمَّ تكلم داروين؟!
- تتغيرُ الأنواعُ وفقاً للزَّمان والمكانِ؛ فمجموعةُ الكائنات الحية والأنواعُ الَّتي نراها الآن تختلفُ عمّا كانت في الماضي، وكذلك تختلفُ المجموعاتُ الحية باختلافِ موقعها الجغرافي بهيئتها وسلوكها، وتقدِّمُ المستحاثات المكتشَفَةُ أدلّةً وافرةً على هذا الافتراض.
- تمتلكُ الكائناتُ الحيّة - على تنوُّعها - أسلافاً مشترَكةً تُعيدُها إلى سَلَفٍ واحدٍ مُشترَكٍ، وسنجدُ لأيِّ زوجٍ من الكائنات الحيّة سلفاً مشتركاً في حُقبةٍ زمنيةٍ ما.
كيف ذلك؟
يشتركُ البشر مع الشمبانزي بسلَفٍ منذُ 8 مليون سنة، ومع الحيتان منذ ستين مليون سنة، ومع الكنغرو منذ 100 مليون سنة.
وبقدر ما يبدو ذلك غريباً فإنَّ فرضية الأسلاف المشتركة تُعطي تبريراً منطقياً للتشابهِ بين الكائناتِ الُمصنَّفة معاً في وقتنا الحالي، وينتج هذا التشابهُ عن توارثِ السِّماتِ من السلَف المشترك.
- عدَّ داروين أنَّ التغيُّرَ التطوري مُتدَرِّجٌ وبطيءٌ.
عملية الانتقاءِ الطبيعي:
هناك أربعةُ عناصرَ في مفهوم داروين للانتقاء الطبيعي:
- الاختلاف: تُبدي الكائناتُ الحيَّةُ - ضمنَ الُمجمَّعاتِ الأحيائية - اختلافاتٍ فرديّةً في الهيئة والسلوك تتضمّنُ حجمَ الجسم، أو لونَ الشعر، أو الملامحَ الوجهية، أو الخصائصَ الصوتية، أو التعدادَ النسلي.
- التوريث: تنتقل بعضُ السِّماتِ من الآباء إلى النسل بصورة ثابتة، وبالمقابل تُظهِرُ بعضُ السماتِ خصائصَ توريثيّةً ضعيفةً متأثِّرةً بالظروف البيئية المحيطية.
- معدَّلات التكاثر المرتفعة: كما نعلم فإنَّ المجتمعات الأحيائية - على تعدد أنواعها - تتضخَّمُ وتزدادُ وصولاً إلى المرحلة التي تجعل المواردَ الغذائيّةَ المحليّةَ غيرَ كافيةٍ لِسدِّ حاجاتِها، وهذا يؤدّي إلى صراعٍ على مصادرِ التغذية، ونتيجةً لذلك؛ سُيعاني كلُّ جيلٍ من مُعدَّلِ وفيّاتٍ يتناسبُ مع المصادرِ المتوافرة للأنسال المولودة حديثاّ.
ومن ثَمَّ فالأفرادُ الذين لديهم سماتٌ مناسِبةٌ لهذا الصراع ينالونَ أفضليَّةَ البقاء، ويتكاثرون بمعدَّلاتٍ أكبرَ في الأجيال اللاحقة.
- الصراع على موارد الغذاء - أو كما أسماه داروين "الصراع لأجل البقاء" - يمنحُ أفراداً مُحدَّدينَ أفضليّةَ البقاء على غيرهم، وذلك - ببساطة - لتمتُّعهم بسماتٍ وراثيةٍ تساعدُهم على البقاء وإنجاب المزيد من الأفراد جيلاً تلو الآخر، وهذا ما يُسمَّى الانتقاءَ الطبيعيَّ، وويُطلَق اسمُ التكيُّف على هذه الصفات الجديدة التي تُعطي الأفضليّةَ لمجموعةٍ معينةٍ للبقاءِ والتكاثر.
صديقي القارئ: يُعَدُّ هذا المقالُ تمهيداً نظرياً لما سنناقشه في مقالاتٍ لاحقةٍ عن أهميّةِ فهمِنا لنظرية التطور وعملية الانتقاء الطبيعي. تابِعنا!
المصادر: