التاريخ وعلم الآثار > حضارة اسلامية
أبو القاسم الزهراوي
يكنوني بين أهلي بأبي القاسم، ويلقبونني في قرطبة بالزهراوي لأنني من مواليد الزهراء، وأعرف عند الغربيين بـ"ألبوقاسس" للكنة في لسانهم على لفظ اسمي. وفي اسمي لقب الأنصاري نسبة لأنصار الرسول في المدينة.
ولدت في العام ثلاثة وستين وتسعمئة للميلاد في الزهراء، وقضيت عمري في جارتها قرطبة وذلك حتى وفاتي في عام ثلاثة عشر بعد الألف، أي بعد عامين من تدمير القشتاليين لبلدي الزهراء. أنا من أطباء الأندلس، ومن أعظم جراحي العصور الإسلامية حتى كنيت بأبي الجراحة الحديثة.
عملي الطليعي في علم الجراحة إجرائياتٍ وأدوات كان له بالغ الأثر في الطب في الشرق والغرب حتى العصر الحديث. حتى أن بعض اكتشافاتي ما زالت تطبق حتى يومنا هذا.
أما عن حياتي فقد كنت في بلاط الخليفة الحكم الثاني، وقد كرستها بالكامل لتقدم علم الطب، وخصوصا منه الجراحة. وقد طورت العلاج بالكي واخترعت عدة أدواة للجراحة وللاستخدام في التحري في المجاري البولية، وإزالة الأجسام الغريبة من الحلق، وتفقد الأذن. وكنت أول من تحدث عن الحمل المنتبذ الذي كان مهلكا في زمني. كما كنت الأول في استخدام قنوات حديدية ومعادن كاوية في علاج الثؤلول وكنت الأول في استخدام الصنارة ذات الطرفين المدببين في الجراحة.
من أشهر كتبي كتاب التصريف الذي كتبته في ثلاثين فصلا، وأنهيته في عام ألفٍ ميلادية، فصار موسوعة لممارسة الطب. يغطي كتابي الكثير من المواضيع، من السنية وحتى الولادة. كلها معلومات قضيت خمسين سنة في جمعها ما بين تدريب وتعليم وممارسة. كما ذكرت فيهي حرصي على وجود علاقة طيبة بين الطبيب والمريض وأن على الطبيب أن يراقب كل حالة بحالتها بعناية. وكنت أصر دائما أن على الطبيب أن يعالج المريض بغض النظر عن مكانته الاجتماعية.
ومن أهمية كتابي ترجمه رجل يدعى جيرار من كريمونا في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية، فأصبح كتابي، لقرون عدة، المرجع الأهم للمعارف الطبية في أوروبا.
كما أن كتابي هذا يتحدث عما صار يدعى بطريقة "كوتشير" لعلاج خلع الكتف، ووضعية "فالتشير" في طب التوليد. وقد تحدث في كتابي أيضا عن كيفية ربط الأوعية الدموية قبل ستمئة عام من أمبرواس باريه. وكان كتابي أيضا هو أول وثيقة مسجلة تتحدث عن الأدوات السنية وكنت أنا أول من نوه للطبيعة الوراثية لمرض الناعور. وقد كنت الأول في وصف العملية الجراحية لعلاج الشقيقة والتي بدأ الحديثون يعودون لاستخدامها من جديد وعلى رأسهم يد الجراح الجنوبأفريقي إليوت شيفيل.
وقد وصف كتابي أيضا كيفية استخدام الملقط في الولادة الطبيعية، وقدمت للطب أكثر من مئتي أداة جراحية.
أما الخيط الجراحي المصنوع من أحشاء الحيوانات الذي كنت أول من استخدمه فما زال يطبق حتى هذا اليوم في العمليات الجراحية لكونه المادة الطبيعة الوحيدة التي يتقبلها الجسم ويستطيع امتصاصها. كما وصف كتابي كيفية استخراج الجنين الميت باستخدام الملقط.
أما عما قدمته في علم الصيدلة فقد كنت من الطليعين في تحضير الأدوية باستخدام التصعيد والتقطير.
ولكثرة ما قدمته للعلم فاسمي هو أكثر اسم يستخدم كمرجع في علم الجراحة الطبية من العصور الوسطى.
وقد قلت عن نفسي "أن أي موهبة لدي قد حصلت عليها من قراءاتي المطولة لكتب الأقدمين وبتعطشي لفهمها وذلك حتى استخرج المعرفة منها. ثم ولطوال حياتي ألزمت نفسي بالتجربة والممارسة... لقد جعلت من كل ذلك علما في متناول اليد وأنقذته من لجة الإطالة" ولأنني قد درست كل العلوم التي تخصصت فيها بعمق وإمعان فأنا أصدق أنني أستطيع أن أتصدى وأطعن بالأقوال التي كان يجلها الأقدمون.
يقول البعض أن أسلوبي في الخطاب توجيهي جازم، ولكن هذا يأتي من علمي الواسع، وفهمي الشاسع للعلم الذي درسته ودرّسته. فكثيرا ما أنبه قرائي لصعوبة الإجرائيات الموصوفة في كتبي، وضرورة وجودة المهارة اللازمة لأدائها. فمثلا في أحد كتبي، وحيث كنت أتكلم عن علاج الخدر بالكي، كنت حازما في وصف المهارة اللازمة إذ قلت "لا يجوز لمن لا يملك معرفة تامة بتشريح الأطراف ومخارج الأعصاب التي تتحرك في أنحاء الجسم أن يقوم بهذه العملية" . وبهذا كنت أحذر الجراحين غير المتمرسين من ممارسة هذا الإجراء، وذلك ليس إلا توخيا مني للدقة وخوفا من الزلل.
فأنا على الرغم من كوني تلميذا نجيبا للأقدمين، إلا أن التلميذ هنا قد تفوق على أستاذه. فالأقدمون بشر، وأقد أخطأوا في بعض المواضع، وأنا هنا لتقويم ما كان منهم من زلل. فعلى سبيل المثال، كان الأقدمون يقولون أن الكي لا يصح إلا في الربيع، ولكنني أقول أن الكي يصح في كل الأوقات. كما كانوا يقولون أن الذهب هو أفضل معدن للكي، ولكنني أقول أن الحديد هو الأفضل لذلك.
كان ما قدمته للعلم كثيرا، وكان تأثيري عميقا، وكان اعتماد العالم لعلمي لقرون طويلة اعتمادا بحق..
ولكن هل تظن أن من حقي أن أعتبر لنفسي هذه المكانة، وأن هذا ليس كبرا مني وإنما هو معرفة بقدري؟ أم أنني بالغت وصار علي أن أعود إلى التواضع؟