علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث
كيف يُمكن لعمل الأمهات خارج المنزل أن يُحسِّنَ صحتَّهنَّ الجسدية والنفسية؟
إذا أردتَ أن تتحدث عن السعادة فعليك بالحديث عن يوم العطلة، وهو - كما جرَتِ العادةُ - يومُ الجمعة لدى شعوبِنا؛ وهو يومٌ جميلٌ مشرقٌ خالٍ من الهموم وضغوط العمل، وبعيدٌ عن التوتر والقلق، ولكنْ انتظرْ لحظة! إذ بعيداً عن كلِّ مشاعر البهجة والراحة التي يمدُّنا بها يومُ العطلة فقد توصَّلَ العلماءُ إلى حقيقةٍ ستصدُمك حيالَ هذا الموضوع.
ففي بحثٍ أُجرِيَ عام 2012 استنتجَ العلماءُ أنَّ الأمهاتِ اللَّائي يعملْنَ بدوامٍ كاملٍ طيلةَ أيام الأسبوع هُنَّ أصحُّ جسدياً ونفسياً وعقلياً من الأمهات اللَّائي يعملْنَ بدوامٍ جُزئيٍّ، وهؤلاءِ - بطبيعةِ الحال - أصحُّ من الأمهات اللائي لا يعملْنَ على الإطلاق!
وكما نعلمُ جميعاً؛ فالعملُ ومسؤولياتُ الحياة المنزلية كلاهما قد يكونَا مُرهِقَين إلى درجةٍ كبيرةٍ، ولكنْ هل نستطيع القولَ بأنَّ العملَ مع كلُّ ما يتضمَّنُه من إرهاقٍ وتوتُّرٍ ومطالبَ كثيرةٍ يُمكِنُ أن يكون أقلَّ إرهاقاً من الحياة المنزلية؟
وكيف يُمكن للأمهات اللاتي يعملْنَ ساعاتٍ طويلةً - بما تحتويهِ من مطالبَ كثيرةٍ تحتاج لمزيدٍ من الجهد وتسبِّبُ كثيراً وكثيراً من التوتر - أنْ يَكُنَّ أصحَّ عقليّاً وجسديّاً؟
السببُ الأوّلُ والأهمُّ هو حرية الاختيار الذاتي، فالأمهات اللاتي يتمتَّعْنَ بحرية الاختيار، ويَخترْنَ العملَ بانتظامٍ منذ بداية حياتهنَّ؛ تراهُنَّ يتمتَّعن صحةً أفضلَ، وكذلك غالباً ما تحظى الأمهاتُ العاملاتُ بمزايا عديدةٍ، فَمِنَ المرجح أن يكُنَّ قد نشأنَ مع والدَين مُتزوِّجَين وأن يكُنَّ قد أكملْنَ المدرسة الثانوية، والأرجح أنْ يكُنَّ في علاقة مستقرة مع أزواجهنَّ قبل ولادةِ طفلهنَّ الأوَّل.
والسبب الثاني الذي يؤدّي دوراً مهمًا في ذلك هو أنَّ العديد من الناس يجدون أنَّ العملَ أقلُّ إرهاقاً من حياتهم المنزلية، فالعمل بالنسبة إليهم يُشكِّلُ مَلاذاً يلجؤون إليه للهروب من مشكلات الحياة المنزلية وتوتُّرِها، ويؤكِّدُ فرويد هذا بقولِهِ الشهير: "العملُ والحبُّ هما المصدرُ الأساسُ للرِّضا والارتياحِ العاطفي في الحياة".
وللتأكُّد علمياً من نتائجِ البحث السابق المذكورةِ آنِفاً؛ إليكم هذه التجربةَ: أُجرِيَت دراسةٌ شملت عدداً من الرجال والنساء العاملين، إذ جُمِعَتْ عيِّناتٌ من لُعابِ المتطوعين طوالَ اليوم ثم اختُبِرَت لاحقاً لقياس مستويات الكورتيزول (وهو أحد هرمونات الجسم ويعرف بهرمون الشدة أو الإجهاد)، وكانت النتيجة أنَّ مستويات الكورتيزول لم ترتفِع عندما كان المتطوعون في العمل؛ وارتفعَت عندما كان المتطوعون في المنزل!
ومن ثَمَّ فعندما ننظر إلى الفروق في مستويات الكورتيزول (والذي يُعَدُّ علامةً بيولوجية على التوتر) بين المنزل والعمل نلاحظُ أنَّ مستوياتِ الكورتيزول لدى الناس أقلُّ بكثيرٍ في العمل ممَّا هي عليه في المنزل، ما يدعونا للاستنتاج أنَّ لدى النّاسِ - على الأقلّ بيولوجياً - مستوياتٌ أقلُّ من التوتر فى العمل، هذا وإنَّ مستويات الهرمون كان أميلَ للانخفاض على نحوٍ أكبرَ عند الأشخاص ذوي الدخل المنخفض وأولئك الذين ليس لديهم أطفالٌ.
دعُونا نُبسِّطُ الفكرةَ إلى أبسطِ شكلٍ ممكنٍ: إذا ما قارَنَّا بينَ نوع الضغط الذي يواجهه الناسُ فى المنزل ونوع التوتر الذي يواجهونه فى مكان العمل سنجد فرقاً جوهرياً بينهما، فالمشكلاتُ التي تواجه الشخصَ في منزله كالمشكلاتِ الصحية، ووفاةِ أحبائه، ومتطلَّباتِ الأسرة وغيرها تؤثُّرُ على نفسية الفرد تأثيراً أعظمَ بكثيرٍ من مشكلاتِ العمل، لأنَّه مهما كان الأمرُ مُلِّحاً أو مستعجلاً في العمل فإنَّك لن تكونَ متوتراً بسببه كما لو كان الأمرُ له علاقةٌ بأحدِ أفراد عائلتك، فنحن مرتبطون عاطفياً بالأمور التي تحدثُ في المنزل ارتباطاً أعمقَ بكثيرٍ منها في العمل.
وبالإضافة إلى ذلك؛ فإنَّ لدى معظم العمَّال بطاقةٌ رابحةٌ يستطيعونُ التأثير بها على المشكلات التي قد تواجههم فى العمل؛ الأمر الذي قد لا يشعرون به فى حياتهم الشخصية.
وكذلك فمهما تصِلْ بك الأمورُ إلى حدِّها الأقصى في العمل فأنت تعلمُ دائماً بأنَّك تستطيعُ التخلي عن كل شيءٍ والمضيَّ في طريقك؛ إذ بإمكانك تَركُ عملِكَ، وتركُ رئيسِكَ ومشكلاتكَ السيّئة معه ببساطةٍ؛ ومن ثمَمَّ تبحثُ عن عملٍ جديدٍ، وأنت لا تحظى بهذه الإستراتيجية في المنزل؛ فقرارُك بِتركِ عائلتك ومنزلك بسبب بعض التوتر والمشكلات ليسَ قراراً هيناً، ولن يُقدِمَ معظمُنا عليه، وكذلك تعيشُ معظم العائلات في جو من التوتر من حينٍ لآخرَ؛ فهيَ ليست مشكلة بإمكانك حلُّها بمجرِّد قرارِك بالتخلّي عن العائلة.
وربَّما نستطيعُ الآن أن نفهمَ لماذا قد تكون الأمهاتُ اللاتي يعملْنَ خارج المنزل بدوام كاملٍ أصحُّ جسديّاً ونفسيّاً من أولئك اللاتي لا يعملْنَ مُطلَقاً، ولكنْ يبقى أمامنا سؤالٌ يطرحُ نفسَه بقوَّةٍ: لماذا نسمع كثيراً عن الوظائفِ المُجهِدةِ والرؤساءِ السيّئينَ والمطالبِ الصَّعبةِ في العمل في حين لا نسمعُ إلا قليلاً قليلاً عن صعوبات الحياة المنزلية؟!
لَرُبَّما يكونُ أحدُ الأسباب أنَّ الناس يجدونَ الحديث عن مشكلات العمل أسهلَ بكثيرٍ من الحديث عن المشكلات والتحديات التي تواجهُهم في حياتهم الشخصية؛ إذ يبدو مقبولاً في العُرْف الاجتماعي أن نقدّمَ شكوى علنيّةً عن حياةِ عملنا ومشكلاته؛ بينما يعيقُ هذا العُرفُ ذاتُه التحدُّثَ علناً عن المشكلات الصحية مثلاً أو غيرها من الضغوطِات في حياتنا الشخصية!
المصادر:
1 - هنا
2 - هنا