الموسيقا > موسيقا
ما بينَ سورِ الصّينِ وجبالِ البيرينه... موسيقا الشّرقِ الأوسط
تجلّى ارتباط الموسيقا الإسلامية بالموسيقا الغربية في كلٍّ من النظرية الموسيقية وتطبيقها، فبحلولِ القرنِ التّاسعِ الميلادي؛ تُرجِمَت العديد من الأُطروحاتِ اليونانيّةِ إلى اللّغةِ العربيّة، ومنها الكتاباتُ الموسيقيّةُ اليونانيّةُ الّتي احتفظَ بها العرب، واتّبعَ نُظَرَاؤهم هذِه النّماذجَ وعمدُوا إلى تطويرِها؛ ومن ثَمَّ فإنّ معظمَ تلك الكتاباتِ الموسيقيّةِ وصلَتِ الغربَ في نسختِها العربيّة.
ساعدَ الاحتلالُ الإسلاميُّ لإسبانيا والبرتغال - إضافةً إلى الحروبِ الصليبيّةِ - في قُدُومِ العديد من الأوروبيّين الّذين كانوا على اتّصالٍ معَ الكتاباتِ العربيّةِ وفنّ الموسيقا الإسلاميّ المُزدهر، وأصبحتِ الآلاتُ الموسيقيّةُ كالعودِ والريبيك rebec (آلةٌ صغيرةٌ مُنحنيةٌ مُشتقَّةٌ منَ الرّبابة) والكيتلدرم kettledrum (مكوّنةٌ من زوجٍ من الكيتلدرم وتُسمّى نيكرز nakers – أو النّقرة بالعربيّة) من الآلاتِ الرّاسخةِ في الموسيقا الأوروبيّة.
وكذلك تُرجِمَت العديد من الكتاباتِ العربيّةِ ومن بينِها دي سيانتيس De scientiis إلى لغاتٍ أُخرى، لتعطيَ هذِه التّرجماتُ مؤشّراً إضافيّاً للتّأثيرِ الّذي يمارسُه الكُتّابُ الإسلاميّون، ولعلّ أبرزَهم الفيلسوفُ العظيمُ والموسيقيّ في القرنِ العاشرِ الميلادي (الفارابي) وفي اللّاتينية (الفارابيوس).
أدّى سقوطُ الإمبراطوريّةِ الرّومانيّةِ ثمَّ الغزو البربريُّ لأوروبا فيما بعد إلى تراجعٍ في المستوى الثّقافيِّ تراجعاً واسعَ النّطاق؛ فقد تناقصَ عددُ المُثقّفين الرّومانِ نتيجةً للحروبِ آنذاك، وكذلك كانَ لكلٍّ منَ الجوعِ والفقرِ ومنازعاتِ الشّعوبِ الأوروبيّةِ أثرُه في الوصولِ إلى مستوىً كبيرٍ من الانحدارِ الثّقافيّ، واحتكرتِ الكنيسةُ قِطاعَ التّعليم؛ وحاربت كلَّ الأفكارِ القادمةِ من أيِّ مجالٍ خارجَ مجالِها تحتَ ذريعةِ محاربةِ الوثنيّة.
وتزامناً معَ هذِه التّغيّراتِ على المستوى الثّقافيّ؛ نلاحظُ اختفاء الموسيقا الشّعبيّةِ للعهدِ الرّومانيّ أو تحوّلِها إلى ما أصبحَ يُعرَفُ باسمِ الموسيقا الكنسيّة؛ واّلتي كانت مُهيمنةً في ذلك العصر، ويُعرَفُ هذا النّوعُ من الموسيقا باسمِ (الأُنشودةِ الغريغوريّة)؛ والّذي كان مُستخدماً لإخضاعِ السّكانِ لإرادةِ الكنيسة.
واحتفظَت أوروبا بهذِه الطّريقةِ حتّى القرنِ الثّاني عشَر؛ إلى أن حصلَ أمرٌ مفاجِئٌ أدّى إلى تغييرِ الجوانبِ الثّقافيّةِ والفكريّةِ الرّئيسةِ بما فيها الموسيقا والفنون، وقد أدّتِ الأصولُ الإسلاميّةُ دوراً في هذا الإحياء؛ ولكن تحظى هذِه النّظريّةُ بتأييدِ عددٍ قليلٍ من الأكاديميّين فقط.
ولذا فإنَّ الاعتراضَ ونكرانَ أيّ دورٍ قد أدّاه الإسلامُ في عمليّةِ إحياءِ الفنّ في أوروبا وولادته؛ والادّعاءَ المُستمرَّ الكاذبَ بأنّها مُتوارثةٌ ومُحتفظٌ بها من اليونانيّين هو أمرٌ غيرُ واقعيّ، إذ يوجدُ كثيرٌ من الأدلّةِ الّتي تُثبِتُ فقدانَ أوروبا كلَّ ما يصلُها بالتّراثِ الرّومانيّ واليونانيّ في تلك الفترة، ويعدُّ الرّكودُ الثّقافيُّ سبباً رئيساً وراءَ هذا الفقدانِ عموماً؛ والنّاجمُ عنِ التّراجعِ العامِّ في القوى الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ، وعدوانيّةِ الكنيسةِ للتّعليمِ اليونانيّ؛ إذ عدّته شكلاً من أشكالِ الوثنيّة، فقد نجحَ قليلٌ من الأعمالِ اليونانيّةِ فقط نتيجةً للحروبِ المختلفةِ وخاصةً مع البرابرة؛ الّتي أدّت إلى تدميرِ المخطوطاتِ واستبدالِ اللّغةِ اليونانيّة باللّاتينيّة.
وبعدَ سقوطِ روما؛ لم يكنْ هناك عملٌ مُنفردٌ ذو أصولٍ دالّةٍ على الموسيقا اليونانيّةِ لدى باحثي الموسيقا في أوروبا الغربّية؛ واستمرَّ ذلكَ قروناً بعدَ الاتّصال بالحضارةِ العربيّة، وعلاوةً على ذلك ووفقاً للسكّانِ القدماء؛ فقد حصلَ الإغريقُ على معرفتِهم بالموسيقا من حضاراتٍ ساميةٍ سبقتهم مثلَ الحضاراتِ البابليّةِ والآشوريةِ والفينيقيّة.
وهناكَ نظريّاتٌ تُصرِّحُ بأنّ كلّاً من الموسيقيّين المصريّين والسّوريين خصوصاً والعربِ عموماً قد عملُوا على نطاقٍ واسعٍ وبأعداد كبيرةٍ في كلّ من اليونان وروما.
استطاعَ الشّرقُ الأوسطُ التّأثيرَ بموسيقاه؛ ليس فقط على الغربِ وإنّما على الشّرق الأقصى، إذ وصلتِ الغزواتُ العربيّةُ إلى الهندِ في وقتٍ مُبكّرٍ من عامِ 711م؛ مُجتاحةً كلّاً من الجيوشِ المنغوليّةِ والتّركمانيّة، لتؤدي فيما بعدُ إلى التّواصلِ بينَ الموسيقا الإسلاميّةِ وموسيقا الشّرق الأقصى البعيد؛ ونلاحظُ ذلك من خلالِ التّشابهِ بينَ النّظامِ الموسيقي في الهند (الراغس ragas) وشبيهه في الشّرق الأوسط (نظام المقام maqām)، وبينَ المفاهيمِ الكونيّةِ والأخلاقيّةِ للموسيقا في كلٍّ منهُما، إضافةً إلى ما يُسمّى هجرةَ الآلاتِ الموسيقيّةِ من المنطقةِ الإسلاميّةِ إلى شرقِ آسيا؛ كالمزمارِ الصّينيّ(السونا suona) والّتي اشتقّت من نظيرتِها في الشّرق الأوسطِ (الزورنا أو السورن zornā)، وأيضاً كالعودِ الهنديّ طويلِ العنقِ والمؤلّفُ من عددٍ مختلفٍ من الأوتارِ الفارسيّة (السِتار setār)؛ والّتي أخذَت اسمَها وقسماً من شكلِها من الستار، والمثالُ الأخيرُ هو الدلسيم الصّينيّ (يانغين yangqin) وهو آلةُ القانونِ بحُلّتِها الأجنبيّة؛ والّتي نشأَت في سانور الشّرقِ الأوسط.
من ناحيةٍ أُخرى نرى تشابُه الآلاتِ الموسيقيّةِ بينَ حضاراتٍ مختلفةٍ في عصورِ ما قبلَ الإسلام؛ كالتّشابُهِ بينَ آلةٍ نفخيّةٍ تقليديّةٍ في غربِ إيران مع مثيلتِها في شرقِ آسيا وهي الشّنغ الصّينيّ Chinese sheng.
لطالما كانَ تأثيرُ الشّرقِ الأوسطِ بثقافتِه الغنيّةِ والنّابضةِ بالحياةِ كبيراً على كلٍّ من الغربِ والشّرقِ الأقصى، ولكن - ومع ذلك - فمنَ الصّعبِ إثباتُ التّأثيرِ العربيِّ الإسلاميّ على الموسيقا في القرونِ الوسطى، فالآلاتُ والعناصرُ المأخوذُ عنها قد حُوِّلت كليّاً.
وأمّا بالنّسبةِ إلى تأثيرِ الموسيقا الإسلاميّةِ على الموسيقا الأوروبيّة فما زال موضوعَ جدلٍ في الوقتِ الحاضر.
المصادر: