الاقتصاد والعلوم الإدارية > العلوم الإدارية
الهندسة المالية وإدارة المخاطر
عندما نتحدَّثُ عن الهندسةِ الماليّةِ لا بدَّ أن نُشيرَ إلى أنّها علومٌ تعتمد على الإبداع اعتماداً كبيراً، فَما يفعلُه أهلُ هذا الاختصاص إنَّما هو ابتكارُ أدواتٍ تساعد على التحكُّمِ بالمخاطرِ، والقضاءِ على نسبة كبيرة منها. ويعتمد المهندسون الماليون كثيراً على أجهزةِ الحاسوب، إذ إنَّ ظهورَ الأجهزة السريعة ذاتِ الكفاءة العالية ساعدت جدّاً على تطويرِ الهندسة المالية وأسسِ دراسة المخاطر. ومع أهميّةِ الهندسة المالية؛ لكنَّ بعضَ الاقتصاديِّين ينظرون إليها على أنَّها أحدُ أهمِّ أسبابِ الأزماتِ المالية في العالم، فقد كانت الهندسةُ الماليةُ المسؤولَ الأكبرَ في الأزمةِ الماليَّةِ الأخيرة 2007-2008، إذ طوّرَ المهندسون الماليون ما يُسمَّى بالـ credit default swaps (CDS) واستخدموها، وهي - باختصار - عبارةٌ عن واحدةٍ من المشتقات المالية التي يُضمَن بها سدادُ الدَّينِ لحاملِ سنداتِ الدَّين من طرفٍ ثالثٍ (الطرف المصدر لهذه الأداة المالية) في حالِ تعثُّرِ مصدر السندات المالية، فهي تُشابه في عملها عملَ شركاتِ التأمين تقريباً، ويَعُدُّ العديد من الاقتصاديين أنَّ استخدامَ (CDS) كانَ أحدَ أهمِّ أسبابِ حدوثِ الأزمة المالية العالمية.
وترتكزُ الهندسةُ المالية إلى علومٍ متعدِّدةٍ ومختلفةٍ نذكرُ منها: الرياضياتِ، والإحصاءَ، والعلومَ المالية والإداريةَ كإدارة المخاطر والمَحافِظ المالية، ولذلك فَكي تكونَ مهندساً ماليّاً مؤهَّلاً لا بدَّ لكَ من حيازةِ خلفيَّةٍ كافيةٍ من هذه العلوم. وتوظِّفُ العديد من مؤسسات الوساطة المالية وشركات الاستثمار والتأمين مهندسينَ ماليِّينَ يعملون على مساعدة هذه المؤسسات المالية على تقليلِ مستويات المخاطر الاستثمارية، وضمانِ زيادة الأرباح والعوائدِ المُحقَّقةِ. ولكن؛ متى بدأ الاهتمامُ بعلوم إدارة المخاطرة المالية؟ وما هي أنواعُ المخاطر التي تواجه السوقَ؟ وكيف يمكن مواجهتُها باستخدام الهندسة المالية؟
بدأ الاهتمامُ بدراسة المخاطر وكيفيةِ إدارتِها منذ سنة 1955؛ أي بعدَ الحرب العالمية الثانية، وقد ارتبطت دائماً باستخدامِ تأمينِ السُّوقِ (شكلٍ من أشكالِ الحمايةِ من الخسائرِ المُتعلِّقةِ بالمخاطر الصافية التي لا تتمكَّنُ الشركةُ من تغطيتِها).
وقد أصبح علمُ إدارة المخاطر في السبعينيّات أكثرَ شعبيِّةً، إذ اعتمدَتْ عليه كثيرٌ من المؤسسات المالية كالبنوك وشركات التأمين وغيرِها من المؤسسات المُعرَّضةِ لمخاطر تقلُّباتِ الأسعار مثل تقلُّبات أسعارِ الفائدة، ومخاطرِ تغيُّرِ العوائدِ على الأسهم، وتقلُّباتِ أسعارِ الصَّرفِ، إضافة إلى تغيُّرِ أسعارِ المواد الأولية. وكانت الشركاتُ آنَذاك تعتمدُ على الاحتفاظ باحتياطيٍّ نقديٍّ - يُعَدُّ أبسطَ شكلٍ من أشكال الوقاية من مخاطر التقلبات السعرية التي تؤثر على العوائد الاستثمارية مباشرةً -، ولكنَّ ارتفاعَ تكاليف الاحتفاظ بهذا الاحتياطي وأثرَهُ على أعمال الشركةِ أدَّى إلى تطوير ما يُسمَّى بالمشتقَّاتِ المالية التي بدأت تُستخدَمُ وتنتشرُ في بدايات العام 1970، وهي عبارةٌ عن عقودٍ تحمي الشركات من بعض أشكال المخاطرِ الاستثمارية، وتستمدُّ قيمتَها من قيمةِ الأصلِ الذي بُنيَت عليه، وكانت هذه العقودُ تُستخدَم كإجراءٍ من إجراءاتِ التأمينِ للشركات، ولكنَّها غدَتْ بعد فترةٍ أداةً للمضاربةِ والمُقامَرة (قد يبدو فهم هذا الأمرِ مُعقَّداً، ولكنَّنا سوف نوضِحُهُ في الحلقاتِ اللاحقة).
وَيُعَدُّ القطاعُ المالي عموماً والبنوكُ خصوصاً من أكثر القطاعات تنظيماً وتقنيناً، إذ إنَّ إفلاسَ أيِّ بنكٍ من البنوك الكبيرةِ سيتسبَّبُ بكارثةٍ اقتصاديةٍ على المستوى المحلي وقد يتجاوزُه إلى المستوى العالمي، ولنا فيما حدثَ في الأزمة المالية 2008- 2007 خيرُ دليلٍ على هذا، وقد وُضِعَتِ العديد من القوانين والتشريعات للحدِّ من مخاطرِ الأعمال البنكيَّةِ؛ وأهمُّها بازل1، وبازل2، وبازل3. وتتضمن هذهِ القوانينُ تشريعاتٍ تتعلّقُ بكيفيّةِ تعاملِ البنوك مع مخاطر الائتمان، ومخاطرِ السوق، والمخاطرِ التشغيلية، إضافة إلى مخاطرِ السيولة ومَخاطرَ أُخرى.
وإنَّ المخاطرَ التي قد تتعرَّضُ لها الشركاتُ التجاريّةُ والمؤسساتُ الماليّةُ تُصنَّفُ - عموماً - إلى صنفَين: مخاطرَ نظميّةٍ ومخاطرَ غير نظميّةٍ (Systematic and unsystematic risk)، ويُسمَّى الصنفُ الأوّلُ بتسمياتٍ أُخرى مثلَ خطرِ السوق، ويؤثِّرُ على حالةِ السوق كاملةً بلا استثناء مثلَ حدوثِ كَسادٍ، أو وقوعِ كارثةٍ طبيعيةٍ، فهي مخاطرُ لا تختصُّ بقطاعٍ دون آخرَ، ويمكِنُ التخلُّصُ منها بواسطةِ المشتقات المالية، وتُقاسُ بوحدةٍ تسمى البيتا Beta؛ وهيَ معيارٌ لقياسِ المخاطرِ في الاستثمارات (لا مجالَ للحديث عنها هنا).
وفيما يتعلّقُ بالصنفِ الثاني من المخاطر فهو المخاطرُ غيرُ النظمية، وتُسمَّى بأسماءٍ أُخرى مثل المخاطرِ قابلةِ الإزالةِ بتنويعِ الاستثمارات (diversifiable risk)، ولا يشمَلُ هذا الصِّنفُ السوقَ كاملاً وإنَّما شركةً واحدةً، أو قطاعاً اقتصاديّاً واحداً، فمثلاً إذا ما أضربَ عُمَّالُ شركةٍ ما عن العمل فإنَّ إضرابَهم هذا يُمثِّلُ خطراً يمسُّ الشركةَ ذاتَها فقط، ويُمكِنُ تخطّي هذا الصّنفِ من المخاطرِ بواسطةِ تنويع الاستثمارات؛ إذ في حالةِ المستثمرين الذين استثمروا أموالَهم في الشركة الَّتي أضربَ عُمَّالها عن العمل، فيُمكنهم تجاوزُ خطرِ إضراب العمال بتنويعِ مَحافِظهم الاستثماريةِ وشراءِ أَسهُمٍ في شركاتٍ متعددةٍ.
وختاماً؛ للمخاطرِ الماليّةِ آثارٌ هدَّامةٌ على صِحّة الاقتصاد، لذا كان لزاماً على الاقتصاديّين إيجادُ وسيلةٍ للتقليلِ والحدِّ من هذه المخاطرِ، ممَّا أدَّى إلى ظهورِ إستراتيجيات تُسمَّى (المشتقَّات المالية)؛ التي تُفصَلُ بها المخاطرُ عن العمليات الاستثماريّةِ والإتْجارِ بهذه المخاطر؛ إذ إنَّ هناكَ مَن يرى فيها ثروةً حقيقية. تُرى ما هي المشتقاتُ الماليةُ؟ وما هي أنواعُها؟ وكيف تعملُ؟ وتساؤلاتٌ أُخرى كثيرةٌ سوف نجيبُ عنها في الحلقات القادمة.
المصادر: