الاقتصاد والعلوم الإدارية > الأسواق المالية
الحلقةُ الثّالثة - المُشتقّاتُ الماليّة (المُستقبليّاتُ غيرُ المُنظّمة، والمُستقبليّاتُ المُنظّمة)
تعدُّ المُستقبليّاتُ من أقدمِ أنواعِ المُشتقّات، إذ كانت تُستخدَمُ قبلَ بدءِ الدّعوةِ الإسلاميّة، لكنّها كانت مختصّةً بالزّروعِ والثّمار، إذ كانَ المزارعُ في تلك الفترةِ يقبضُ ثمنَ الزّروعِ والثّمارِ حتّى قبلَ أن يقومَ بحراثةِ الأرضِ وزراعةِ البذورِ فيها؛ على أن يُسلّمَ كميّةَ المحصولِ المُتّفَقَ عليها للمشتري في وقتٍ محدّدٍ في المستقبل.
كانت الفائدةُ من هذا العقدِ آنذاك: أولاً إعانةُ المزارعِ على تكاليفِ الحياة؛ إذ إنّهُ يعملُ في الزّراعة فقط، فلا دخلَ له سوى ما يحصلُ عليهِ من زراعتِه، ثانياً تقديمُ التّمويلِ اللّازمِ للمزارعِ حتّى يتمكّنَ من شراءِ البذورِ والأدواتِ اللّازمةِ للزّراعة، وأمّا فائدةُ المشتري فهيَ أنّهُ يضمنُ حصولَه على المحصولِ الّذي يريدُه بسعرٍ محدّدٍ سلفاً؛ إذ يأمنُ مخاطرَ التّقلّباتِ السّعريّة (يطلقُ اسمُ بيعِ السّلّمِ على هذا النّوعِ منَ العقود).
وهناك نوعانِ منَ المُستقبليّاتِ اليوم: النّوعُ الأوّلُ هوَ المُستقبليّاتُ غيرُ المُنظّمة، ونقصدُ بكونِها غيرَ مُنظّمةٍ؛ أي أنّهُ لا يوجدُ لها بورصةٌ خاصّةٌ للتّداول، ويمتازُ هذا النّوعُ بتحديدِ طبيعةِ العقدِ وشروطِه باتّفاقِ كلّ منَ بائعِ العقدِ ومُشتَرِيه على عكسِ المُستقبليّاتِ المُنظّمة، فمثلاً لو أرادَ شخصٌ ما شراءَ سلعةٍ ما، وبفرضِ أنّه أرادَ شراءَ قاربٍ شراعيّ بعدَ 12 شهراً، لكنّه يتوقّعُ ارتفاعَ سعرِ القواربِ الشّراعيّةِ في ذلك الوقت؛ لذا فإنّه يتّفقُ معَ البائعِ على شراءِ القاربِ بسعرٍ يُحدّدُ اليومَ على أن يجري الدّفعُ بعدَ 12 شهراً، وبفرضِ أنّ السّعرَ المُتّفقَ عليهِ هو 150 ألفَ دولارٍ أمريكيّ تُدفَعُ بعدَ 12 شهراً، وقد ترتفعُ الأسعارُ أو تنخفضُ في نهايةِ السّنة، ولنفترض أنّ الأسعارَ قدِ ارتفعَت وأصبحَ سعرُ القاربِ الشّراعيّ 165 ألـفَ دولارٍ أمريكيّ، ممّا يعني أنّ المُشتري (the one with a long position) قد حقّقَ ربحاً قدْرُه 15 ألفَ دولارٍ أمريكيّ، إذ إنّه يستطيعُ بيعَ القاربِ في السّوقِ والحصولَ على الفرق، أمّا البائع (the one with a short position) فقد خسرَ 15 ألفَ دولارٍ أمريكيّ، وذلكَ لأنّه باعَ القاربَ بسعرٍ أرخصَ من سعرِ السّوق.
وقد يبدو عقدُ المُستقبليّاتِ غيرِ المُنظّمةِ بسيطاً ومفيداً في الوقتِ ذاتِه، لكنّه ينطوي في الواقعِ على كثيرٍ من المشكلاتِ والنّواقصِ الّتي تجعلُه من أكثرِ العقودِ إشكالاً.
وهناك ثلاثُ مشكلاتٍ رئيسيّةٍ تتعلّقُ بعقودِ المُستقبليّاتِ غيرِ المُنظّمة، أوّلُها مشكلةُ تزامنِ الحاجات (multiple coincidence of wants)، ففي حالةِ مثلِ هذِه العقود؛ يجبُ على المُشتري أن يجدَ شخصاً يريدُ أن يبيعَ السّلعةَ الّتي يريدُها، وأن تتوافقَ رغباتُ الاثنينِ على السّعرِ ووقتِ التّسليم، وقد يبدو الموضوعُ بسيطاً إلى حدّ ما بينَ الأفراد، لكن عندما تكونُ الصّفقاتُ بين شركاتٍ كُبرى؛ عندها تصعبُ العمليّةُ كثيراً، أمّا المشكلةُ الثّانيةُ فهي مشكلةُ التّسعيرِ غيرِ العادلِ (unfair pricing)، ونعني بهذِه المُشكلةِ هو أنّ السّعرَ المُتّفقَ عليه بينَ الطّرفينِ يومَ تنفيذِ العقدِ قد يكونُ مجحفاً بحقّ أحدِهما كثيراً، إذ يربحُ أحدُهم ما يخسرُه الطّرفُ الآخر؛ ممّا يؤدّي إلى احتمالِ وقوعِ المشكلةِ الثّالثة، وهي إلغاءُ الصّفقةِ وعدمُ تنفيذِ العقدِ من قِبَلِ الطّرفِ الخاسِر (default risk). وقد أدّت هذِه المشكلاتُ الثّلاثةُ إلى ظهورِ نوعٍ جديدٍ من عقودِ المُستقبليّات وهي العقودُ المُنظّمة، وتمتازُ هذِه العقودُ بأنّها أكثرُ تنظيماً، وبأنّ لها آليّةَ تنفيذٍ معيّنة.
ساعدَت عقودُ المُشتقّاتِ المُستقبليّة المُنظّمةِ على حلّ مشكلتينِ من المشكلاتِ المُرتبطةِ بالعقودِ المُستقبليّةِ غيرِ المُنظّمة، إذ إنّ مشكلةَ تزامنِ الحاجاتِ غيرُ موجودة، إذ لعبتِ البورصةُ دورَ الوسيطِ بينَ كلٍّ منَ البائعينَ والمُشترين، فلا حاجةَ للبحثِ عن من يبيع، ولاحاجةَ للبحثِ عن من يشتري، وكذلك فإنّ وجودَ مراكزَ تبادلٍ أو غرفَ مُقاصَّة (clearing houses) حلّ مشكلةَ التّخلّفِ عن تنفيذِ العقدِ من قبلِ الطّرفِ الخاسر، إذ يُلزِم كلّاً من الطّرفينِ - عندَ استحقاقِ التّنفيذِ - بتنفيذِ العقدِ بالسّعرِ المُتّفقِ عليه.
ولضمانِ تنفيذِ العقد؛ يُطلَبُ من كِلا الطّرفينِ وضعُ مبلغٍ من المالِ يُمثّلُ نسبةً من قيمةِ الصّفقة (margine)، ويقيّمُ العقدُ يوميّاً بناءً على سعرِ السّوق (marked to market)، وفي حالةِ ارتفاعِ قيمةِ الصّفقةِ بنسبةٍ معيّنةٍ يُطلَبُ من الطّرفِ الخاسرِ زيادةُ نسبةِ المبلغِ المُودَعِ ليتناسبَ مع القيمةِ الجديدةِ للصّفقة، ويعدُّ الارتفاعُ والانخفاضُ في قيمةِ العقدِ ربحاً لطرفٍ وخسارةً للآخر، ممّا يعني تحقّقَ ربحٍ لأحدِهما على حسابِ خسارةِ الآخر.
تجدرُ الإشارةُ إلى استخدامِ المُستقبليّاتِ غيرِ المُنظّمةِ للحدّ من مخاطرِ تقلّباتِ الأسعار، بينما تستخدمُ المُستقبليّاتُ المُنظّمةُ للحدّ من مخاطرِ تقلّباتِ الأسعارِ والمضاربةِ على الأسعار (المقامرة)، إذ يستطيعُ مالكُ عقدِ المُستقبليّاتِ المُنظّمةِ بيعَ العقدِ في البورصةِ لشخصٍ آخر، ممّا يعني عدمَ إلزامِه بممارسةِ حقّه في شراءِ سلعةٍ ما، أمّا المُستقبليّاتُ غيرُ المُنظّمةِ؛ فمن الصّعبِ إيجادُ شخصٍ يرغبُ بشراءِ العقدِ من المُشتري الأوّل.
ولكن ما زالَت هناكَ مشكلةٌ لم تُحلّ من خلالِ استخدامِ المُستقبليّاتِ المُنظّمة؛ ألا وهي مشكلةُ التّسعيرِ غيرِ العادل.
إذ لو كانَت خسارةُ أحدُ الطّرفينِ كبيرةً جداً، فعندها قد يقومُ هذا الطّرفُ بالتّهرّبِ من تنفيذِ العقد، وبالتّالي فإنّه سيخسرُ فقطِ النّقودَ (margine) الّتي أودعها كضمانٍ على جدّيتِه في تنفيذِ العقد، ولهذا كان لا بدّ من إيجادِ حلّ لهذِه المشكلة، وهذا أدّى إلى إيجادِ نوعٍ جديدٍ من المُشتقّاتِ ويسمّى الخيارات (options).
ما هي عقودُ الخيارات؟ وكيفَ تعمل؟ وما هيَ ميّزاتُها؟ هذا ما سنناقشُه في الحلقةِ المُقبِلة.
مصطلحات:
long position : مصطلحٌ للدّلالةِ على الشّخصِ الّذي يشتري حقّ الشّراء، وهو الرّاغبُ في شراءِ القاربِ الشّراعيّ في مثالِنا المذكورِ سابقاً.
short position: مصطلحٌ للدّلالةِ على الشّخصِ الّذي يبيعُ حقّ شراءِ سلعةٍ منهُ بسعرٍ وتاريخٍ مُحدّدين، وهو بائعُ القاربِ الشّراعيّ في مثالِنا الآنفِ الذّكر.
clearing houses: هي مؤسّسةٌ عاملةٌ في بورصةِ المُستقبليّاتِ مسؤولةٌ عن تنظيمِ عمليّاتِ البيعِ والشّراء، وكذلك فإنّها مسؤولةٌ عن ضمانِ تنفيذِ الأطرافِ كافةً لالتزاماتِهم تجاهَ الأطرافِ الآخرينَ من خلالِ متابعةِ مستوى الضّمانِ الماليّ يوميّاً، وفي حالةِ نزولِه عن مستوى محدّد يُطلَبُ من صاحبِ العلاقةِ وضعُ المزيدِ من الأموالِ في حسابِه، وكذلك تقومُ هذِه المؤسّسةَُ مقامَ الطّرفِ الثّالثِ بينَ البائعِ والمُشترِي، إذ تُعدُّ بائعاً لكلّ مشتري، وكذلك فإنّها تُعَدُّ مشترياً لكلّ بائع.
marked to market: وهي آليّةُ تقييمِ مستوى ودائعِ المتعاملينَ في بورصةِ المُشتقّات، إذ تُخصَمُ الخسائرُ من وديعةِ الطّرفِ الخاسرِ ويُودَعُ الرّصيدُ في حسابِ الطّرفِ الرّابح، وفي حالةِ نزولِ مستوى الوديعةِ عن نسبةٍ محدّدةٍ؛ يُطلَبُ من صاحبِ الوديعةِ ضخّ المزيدِ من الأموالِ في حسابِه وإلّا فإنّه سيخسرُ العقدَ الّذي يُباعُ لطرفٍ آخر.
المصادر: