الموسيقا > الموسيقا والطب
الموسيقا و تأثيرُها على الصِّحة العامَّة ج2
تكلَّمنا في الجزء الأوّلِ من مقالنا عن تأثيرِ الموسيقا وكيفيَّةِ قيامِها بذلك على أدمغتِنا، ولكن هل تتدخَّلُ في تعديل التوتّر وتخفيفِه لدى الحالاتِ المرَضيَّة؟
أثبتَتْ دراسةٌ أُجريَت في نيويورك على 40 شخصاً - في سنِّ الـ 75 ومافوق - كانوا مُستعدِّينَ للخضوع لعملياتٍ جراحيةٍ مُختلفةٍ، وقد أُسمِعَ نصفُهم الموسيقا قبل العمليّةِ وبعدَها وأثناءَها، في حين تلقّى النصفُ الآخرُ اهتماماً عادياً دون أيَّةِ إضافاتٍ.
وقبلَ البدءِ بإجراءات العمليَّةِ أظهرَتِ المجموعتان مستوياتِ ضغط الدم ذاتِها، ولكن عندما طُبِّقتِ الدراسةُ استمرَّ ضغطُ الدم في الارتفاع لدى المجموعةِ الَّتي لم تستمِعْ للموسيقا، في حين أخذَ ضغطُ الدم بالانخفاض لدى المجموعة الأُخرى - الّتي استمعتِ إلى الموسيقا - إلى أنْ وصلَ إلى حدودِه الطبيعيَّة.
وقد فُحِصَت معدَّلاتُ ضغط الدم والتوتر لدى الأطباء في كلتا الحالتَين، ولوحِظَ أنَّ المجموعةَ الَّتي استمَعت إلى الموسيقا أثناءَ القيام بالعملية كانَ ضغطُ أفرادها طبيعياً أكثر من المجموعة الأخرى أيضاً.
وأيَّدَتْ هذه الدراسةُ والعديد من الدراساتِ الأُخرى الَّتي أُجرِيَت على مَرضىً تحتَ تخديرٍ عامٍّ أو تخديرٍ موضعي، وفي جميع الحالات أثبتت الموسيقا تأثيرَها عموماً على خفضِ حالات التوتر وارتفاع ضغط الدم لدى المرضى والأطباء على حدٍّ سواء؛ وإذا ما استطاعتِ الموسيقا خفضَ التوتِّر فهذا يعني قدرتَها على تنظيمِ ضرباتِ القلب ومُعدَّل الأوكسجين المطلوب داخل الجسم.
إنَّ العنصرَ الرئيسَ الموجودَ داخل الموسيقا والذي يؤثِّرُ على الإنسان عند الاستماع إليها هو الإيقاع الموسيقي، فالاستماع إلى موسيقا ذاتِ إيقاعٍ هادئٍ يسبِّبُ الإحساسَ بالهدوء والاسترخاء، وأمَّا الاستماعُ إلى موسيقا ذاتِ إيقاعٍ سريعٍ فإنّه يدفعُ إلى حيويةِ المستمعِ ونشاطه، وعندَ توقُّفِها تعودُ مستوياتُ نبضاتِ القلب وضغط الدم إلى وضع الاسترخاء لدى الإنسان.
وإضافة إلى ذلك؛ فإنَّ الذهابَ إلى الحفلاتِ الموسيقية يؤثِّرُ إيجابيّاً على جسم الإنسان؛ ويجعله بوضعٍ أكثر استرخاءً.
والموسيقا هي أداة فعَّالةٌ لخفضِ التوتر لدى الإنسان؛ بسببِ الرابطِ المميز بينها وبين المشاعر البشرية وخاصّةً الموسيقا الكلاسيكية الَّتي لديها تأثيرٌ على العمليات الحيوية في جسم الإنسان كتعديل معدلات النبض وضغط الدم، وتمتلكُ الموسيقا القدرةَ على أسرِ أذهانِنا، ويمكِنُ أن تكونَ مصدراً لِتشتيتِ الأفكار في بعض الأحيان، وهذا يعني أنها مساعدٌ جيدٌ لعملية التأمل؛ إذ تزيدُ تركيزَ المستمع، وحتَّى و إن لم تكنْ تستمع للموسيقا الكلاسيكية عادةً فإنَّها قد تكون خياراً جيّداً عندما تريد الاسترخاء أو التخلّصَ من التوتّر.
ويميلُ الأشخاصُ الذين يعانون من التّوتر إلى تجنُّبِ الاستماع إلى الموسيقا، ولكن - كما نعلم - تزدادُ إنتاجيّةُ الأشخاصِ عندما ينخفضُ معدل التوتر لديهم، وبهذا فإنَّ الاستماعَ للموسيقا أو الغناء كاريوكي مثلاً يمكن أن يكون خافض جيد للتوتر في هذه الحالات -بعكس ما هو معترف عليه -.
وإذا كانت الموسيقا تؤثِّرُ تأثيراً كبيراً على تعديلِ حالةِ التوتر؛ فهل من الممكن أن تغيِّرَ مزاجَ مرضى الاكتئاب؟
أثبتت دراساتٌ وأبحاثٌ كثيرةٌ - تناوَلت هذا الموضوع - أنَّ الموسيقا لديها القدرةُ على تعديلِ المزاج السيّئ لمرضى الاكتئابِ وتخفيفِ آلام اكتئابِ المصابين بأمراض مزمنة وتبعاتِ عجزِهم؛ إضافةً إلى مساعدة الذين يعانون من صعوبات في النوم بالتخلُّصِ منها جزئيّاً.
ومن جانبٍ آخرَ توصلتِ دراسة مشتركة بين جامعة دروهام Durham University في المملكة المتحدة وجامعة يوفاسكولا University of Jyväskylä في فنلندا إلى أنَّ الموسيقا الحزينةَ قد تولِّدُ مشاعرَ سلبيةً ناجمةً عن أسىً عميق، وإن كان صحيحاً أنَّ الإيقاعَ هو العنصر الرئيسُ الذي يشغَلُ دماغنا فإنَّ التجربةَ المرتبطةَ بالموسيقا تُعدُّ هي الأُخرى عاملاً أساساً لذلك.
تضمنت الدراسة ثلاث استبياناتِ أُجريَت على أكثر من 2400 شخص في كلٍّ من المملكة المتحدة وفنلندا؛ إذ ركّزَ على المشاعر والتجارب المرتبطة بالاستماع إلى الأغاني المحبطة، فكانت معظمُ نتائج التجارُب التي طُبِّقَت على المشتركين إيجابية.
وقد أفاد الكاتب و البروفسور في الإدراك الموسيقي Tuomas Eerola في جامعة Durham في المملكة المتحدة من خلال بيان صحفي : " إنَّ نتائجَ البحث تساعدُنا في التحديد الدّقيق للطرائق التي يتَّبعُها الناسُ لتعديل مزاجهم بمساعدة الموسيقا، إضافةً إلى كيفيَّةِ مساهمةِ التأثيرِ العلاجي للموسيقا في الشعور بالراحة و السرور، وذكر إيرولا أنَّ هذه الدراسة قد تساعد في تحديد الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى الاستماعِ للموسيقى الحزينة أو تجنُّبِها أيضاً.
وتبيَّنَ في دراسةٍ سابقةٍ أنَّ معظمَ الناسِ يميلون إلى الاستماعِ إلى موسيقا مأساوية عند خوضهم تجربة انفصال في العلاقات الشخصية؛ فالموسيقا الحزينة توفّرُ تعويضاً عن الفقدِ العاطفي بعد الانفصال، إذ تكون بالنسبة إليهم بمثابةِ صديقٍ متعاطفٍ معهم؛ أيْ شخصٍ يفهمُ بصدقٍ الذي يمرون به.
وركزت دراسات أُخرى على السعادةِ التي تجلبها الموسيقا الفَرِحة، فوجدت صحفية Positive Psychology في دراسةٍ أجرتها عام 2013م أنَّ الناسَ الذين يستمعون إلى موسيقا سعيدةٍ يُمكنُ أن تساعدهم على تحسين مزاجهم، ويمكن أن تزيدَ سعادتَهم خلالَ أسبوعين فقط!، فهذه السعادةُ ذاتُ آثارٍ تمتدُّ إلى أكثرَ من مجردِ شعورٍ لحظيٍّ جيّدٍ وحسب؛ كما أشارَت الباحثة Yuna Ferguson.
وللموسيقى تأثيرٌ قويٌّ على أمراضٍ أُخرى؛ فمثلاً: تعزِّزُ قابليِّةَ التَّحرُّكِ والتوازن لدى المصابين بمرض الباركنسون بحسب التجارب والأبحاث، وكذلك فهي تزيدُ من التركيز وتُخفِّفُ مخاطرَ السقوطِ للكبار في السن .
وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الموسيقا ليست الدواءَ الشافي للأمراض، ولن يكونَ هنالك استغناءٌ عن العلاجِ، ولكن مع كل هذه التجارب التي تؤكِّدُ تأثيرَها الصحي على الإنسان لا ضير من الاعتقادِ بأنَّ سحرَ الموسيقا موجودٌ وأنَّها تخاطبُنا فعلاً.
فيديو ملحق بالمقال:
من الرابط: هنا
مصادر المقال:
1 - هنا
2 - هنا
3 - هنا
4 - هنا