التاريخ وعلم الآثار > شخصيات من سورية
1- السيف الدمشقيّ المَنسيّ!
قبل أنْ نَرويَ قصّةَ سيفِ دمشق؛ تلكَ القامةِ الشاهقة الّتي لم تؤدِّ دوراً محوريّاً في سورية فحسبُ؛ بل تجاوزتهُ إلى قضايا الشرق الأوسط ومنها القضيةُ الفلسطينيةِ؛ والكفاحُ ضدّ المستعمر الصهيونيّ، وسنشير قليلاً إلى أُسرتها؛ والبيتِ العرَبيِّ الأصيلِ الذي تفتّحت فيه تلك الأقحوانة.
"آل العابد" النسبُ والنِضال السِّياسيّ:
يَعودُ نسبُ آلِ العابدِ إلى عشيرةِ الموَالي مِنَ العَرَبِ، قَدِمَ جَدّهم "مُحمد بنُ الأميرِ قانص" إلى دِمَشقَ واستقرَّ في حيِّ المَيدانِ الدّمشقيّ بينَ عامي"1700\1701"م.
عملَ في تجارةِ الحبوبِ والمواشي، وأصبحَ لهم نفوذٌ واسعٌ في حيّ المَيدان، عُرفَ عنْ آلِ العابِد أولّ مُشاركةٍ سياسيةٍ عندما أوقَفَ "عُمر آغا العابد" بنفوذهِ أحداثَ الشغبِ في الميدانِ؛ والّتي اندلعتْ عامَ "1860" وَوضع مسيحيِّي حي بابِ مصلّى تحت حمايته.
الشكل(1): قصر آل العابد.
الصورة:
وبالعودةِ إلى "السيفِ الدمشقيّ" فوالدها هو "مُصطفى باشا العابد" من أعيانِ دِمشق، تولّى محافظةَ الكرك وولايةَ المُوصلِ في أواخرِ الفترةِ العثمانية، وأمّها "فريدة الجلاد" من النخبةِ المتنوّرةِ منْ نساءِ المُجتمعِ الدِّمشقي.
أَبصرتِ "السيفُ الدِمشقيّ" النور عام "1887" وسُمّيت "نازك"، ونشأتْ "نازك العابد" في بيئةِ النخبةِ؛ إذ تعلّمتْ مبادئَ اللغاتِ العربيةِ والتركيةِ في المدرستَينِ الرشيديّتَينِ الدمشقيةِ والموصلية، ودرستِ الفرنسيَّةَ في مدرسةِ الراهباتِ في الصالحيةِ بدمشق، وكذلكَ تعلّمتْ مبادئَ اللغتَين الإنكليزيةِ والألمانية، وعلى الرغم من مثاليةِ البدايات لكنّ الروحَ العربية والحِسَّ الوطَنيّ اللذَّين تأصّلَا في جُذورِ تلكَ العائلة جعلَا والدَها يأخذُ موقفاً مناضلاً ضِدَّ الاستعمارِ العُثماني في الحربِ العالميةِ الأولى، وطالبَ بالاستقلالِ عنْ تُركيا على الرغمِ مِنَ المكانةِ الّتي مَنحتها له السلطاتُ التركيةِ آنَذاك، ولكنّ انهيارَ الدولةِ وما لحِقَ بذلكَ من فسادٍ وجُورٍ على المُواطنين؛ وتَحوّلِها إلى دولةِ استعمار لم يجعلْ والدهَا يقفُ صامتاً؛ فاستشاطَ السلطانُ عليه غضباً ونُفيَ مع عائلتهِ إلى "أزمير".
ودخلتْ "نازك" مدرسةََ الفردوسِ للمرسَلينِ الأميركان، لِتتابعَ فيما بعدُ تحصيلَها العلميّ في المعاهدِ الخاصةِ للتعليمِ، إضافةً إلى تَعلّمِ فنونِ التصويرِ والموسيقا (البيانو)، والإلمامِ بعلمَيّ التمريضِ والإسعاف.
أرادتْ نازك أنْ تَنقُل تَجرُبتها إلى بنات جِلدتها من النساء؛ وأنْ تَحظى جميعُ نساءِ المجتمعِ العربِيّ بِما حصلتْ عليهِ من المساواةِ والعلمِ، فحملتْ على كاهلها همَّ الدفاعِ عن حقوقِ المرأة، وكانَ نشاطَها الأوّلَ قبلَ أنْ تبدأ مسيرتَها الحافلةَ في كُلّ الاتّجاهات بمجرّدِ عودتها مِنَ المَنفى في أواخرِ "1918"م، فبدأتْ تَطرَحُ الأفكار من خلالِ ثورةِ القلم، وعملتْ في مجالِ الكتابةِ في عدّةِ صُحفَ منها "لسانُ العرب"، واتّخذتْ من مجلَتيّ "العروس" -وهي أوّل مجلّةٍ صدرتْ في سوريّة لصاحبتها "ماري عجمي"- ومجلّة "الحارسِ" منبراً لآرائِها وأفكارِها المُستنيرةِ الجريئة، وكذلكَ شاركتْ في المؤتمراتِ النسائيةِ الوطنيةِ والدوليةِ في مصرَ ولبنان.
أسّستْ عقبَ الثورةِ العربيةِ الكُبرى عام "1916" جمعيةَ "نور الفيحاء" وترأّستْها، وجاءَ ذلكَ بتعيينٍ مباشرٍ ورَسميٍّ من الملك فيصل بن الشريف حسين لمساعدةِ ضحايا الثورة، وناصرتْ في كتاباتها حقّ المرأةِ في الانتخاب السياسيّ عندما طُرِح في المؤتمرِ السوري عام "1919"،
وتحدّثت بلسانِ الجمعيةِ، وقدّمتْ معروضاً مُوقّعاً من سيّداتٍ دمشقياتٍ لتأييدِ الاستقلالِ؛ وذلك أثناءَ وجودِ لجنةِ كراينْ الأميركيةِ لاستفتاءِ السوريين على الانتداب عام "1919"، و قادتْ تظاهُراتِ نساءِ المعارضةِ ممّا أثارَ إعجابِ مستر كراين بذكائِها وقوّةِ حجّتها، فكان اسمُها ضمنَ أبرزِ الأسماء في أوراقهِ وخواطرهِ.
وتقديراً لإنجازاتها مُنحَت "نازك العابد" رتبةَ جنرال شَرفيّ في جَيشِ الملك فيصل، وعندما دقّ ناقوسُ الغزو الفرنسيّ لسورية ومع أوّلِ إنذارٍ وجّههُ الفرنسيّون للملك فيصل بمغادرةِ دمشق، هرعتْ نازك لإنشاء مُستشفىً ميدانيّ لاستقبال الجرحى؛ وهيّأتهُ في بضعةِ أيّامٍ مستفيدةً من دراستها السّابقة في مجال التمريض.
وقد شاركت نازكُ في معركة ميسلون "24 تموز 1920"، وعلى الرغم من اقترابِ الثوارِ مِنَ الهزيمةِ لكنَّها لمْ تيئَس قطّ؛ فقد وَضعتِ اللثام واخترقتْ صفوفَ الثوار تشحذُ الهِمم؛ وتُوقِدُ فيهم روحَ الحماسة؛ وتتفقّدُ جَرحى الجُند، ويقالُ بأنّ وزيرَ الدفاعِ يُوسف العظمة تُوفّي على يدها.
وبعد دخول القوّات الفرنسيّة إلى الأراضي السورية وهزيمة الثوّار؛ عادتْ "نازك" إلى نشاطها السلميّ الثوريّ، فكانتْ تَقودُ المُظاهرات مع نساء دِمشقَ ضدّ الاحتلالِ الفرنسيّ؛ تجوبُ برفقتهنّ شوارعَ دِمشقَ مطالبةً برحيلِ القوّاتِ الفرنسيّةِ عن الأراضي السورية واستقلالِ سورية، وعندما قُمِعت انضمّت إلى إحدى الجمعيّاتِ السريةِ وكبَّدتْ المحتلَّ خسائرَ فادحةٍ.
ونتيجةً لمواقفها الوطنيةِ نُفيت مجدّداً إلى إسطنبول مدّة سنتين بين عامَي " 1920 – 1922 "، ثمّ عادتْ إلى سورية ووُضعتْ تحتَ المراقبةِ من قِبَلِ الفرنسيين، وتعرّضتْ لمضايقاتٍ شتّى بسببِ مواقفها الوطنيةِ الثابتةِ فأُرغِمت على اللجوءِ إلى شرقِ الأردنِ، حيثُ أُصيبتْ بخيباتٍ لمْ تكنْ تتوقّعها، فقرّرت أن تلتمسَ لقضيّةِ بلادها آفاقاً أُخرى، وآثرت أنْ تُحوّل وجهتَها إلى الغرب، لتنشرَ فيها أخبارَ الثورةِ العربيةِ وأسبابها وملابساتها، وتطالبَ بحقّ بِلادها في الحريةِ والاستقلالِ.
وقد ساعدتها شجاعتها وغِناها الماديّ على التجوالِ في أميركا وعواصمِ الغربِ شارحةً واقعَ بلادِها ومَطالبَ قومها الوطنية لزعماءِ السياسةِ والصحافة، فحظِيتْ بالإعجابِ والتقديرِ، وسُميَت منْ قِبَل الصحفِ الغربيةِ بـ"جان دارك العرب" وجعلتِ الرحالةُ والكاتبةُ الإنكليزيةُ "روزيتا فوريس" من مواقفِ نازكِ العابد حبكةً لروايتها "سؤال" الّتي نشرتها عام "1922".
الشكل (2): صورة لنازك العابد.
وفي عام "1925" أثارَ الحنينُ إلى الوطنِ مشاعرَ نازك عندما فاوضَها الاحتلالُ الفرنسِيّ على العودةِ في محاولةٍ منهُ لوأدِ نشاطِها خارجَ سورية، فوقّعتْ على تعهّدٍ بعدمِ ممارسةِ العملِ الوطني مقابلَ العودةِ إلى سورية، ووُضِعت قيد الإقامةِ الجبريّةِ في مزرعتِها الخاصّةِ الّتي تَقعُ في ضواحي دِمشق، وهناك قرّرتِ العملَ في الزراعةِ وتعايَشتْ معَ سكانِ الغوطة؛ وعملَتْ جاهدةً على تطويرِ الزراعةِ في تلكَ المنطقة...
ولكن؛ هل صدّقتَ عزيزي القارئ أنّ السلطات الفرنسية استطاعتْ حقاً أن تُثني عزيمتها؟!
لقد كانَ هذا الأمر ظاهريّاً فقط، لِتُلهيَ به المُستعمرَ الفرنسيّ الذي يترقّبُها ويُتابع نشاطَها، إذ لم تتوقّفْ في حقيقةِ الأمرِ عنِ النضالِ الثَوريّ، فقدْ كانتْ تتنكّر بزيِّ الرجالِ وعُرفِت بوصفها ثائراً بين ثوّار الغوطة عامَ "1925"!
وأمّا عن حياتِها الشخصية فلم تكُن على تلك الدرجة من المثالية، إذ تزوّجت زواجاً تقليديّاً ولم تُرزَق بأولاد، وعُرفَ عنها أنّها لمْ تخُضْ في علاقاتٍ غراميةٍ والتزمَت الجانب المحافظ في حياتها الخاصّة.
وقد تزوّجتْ مِنَ المؤرّخ اللُبنانيّ مُحمد جَميل بَيهَم؛ الّذي رآها للمرّةِ الأولى في المؤتمرِ السُّوري الأوّلِ في دِمشق، وكان آنذاك ممثّلاً عنْ بَيروتَ، وعادَ لخطبَتها في عام "1925" وكانتْ قدْ بلغتْ اثنين وثلاثين عاماً.
وبعدَ زواجها انتقلتْ إلى بيروتَ لتِلوّنَ فصلاً جديداَ من صَفحتها النِضاليةِ؛ فعملتْ في الجانبِ المدنيّ وأسّستْ جمعياتٍ اجتماعيةٍ عدّة منها: جمعية "مكافحةِ البغاءِ اللبنانيةِ"، والّتي أسّستها مُتحدّيةً بِها سُلطةَ الانتدابِ الفرنسّي المُشرعِنة لقوانينَ تُبيحُ انتشارَ تِلك الآفة، وفي عام "1948م كانتْ نازكُ العابد مِنْ أوائلِ المُتضامنينَ معَ الشعبِ الفلسطينيّ، وأسّست جمعيّةَ "مَشهَرة" لمساعدةِ اللاجئينَ مِنهم، وذلكَ كُلّهُ بمساعدةِ زَوجها اللبنانيِّ المُؤرّخ "مُحمد جميل بَيهَم"، والذي يُعدُّ مِنْ روّادِ النهضةِ الفكريةِ التنويرية، والمعروفُ بإيمانهِ ومناصرتهِ لقضايا المرأةِ ودعوتهِ لتحرّرها.
ومع أنّها لم تُنجب، لكنّها حَوّلت مشاعرَ أمومتِها نحو كلّ طفلٍ يتيمٍ كانتْ تَراهُ، فأسّستْ مَيتماً لتَربية بنات شهداء لبنانَ عام "1957".
وفي السبعين من عُمرها أسّست لجنةً مهمّتُها تثقيفُ الأمِّ اللبنانيةِ في مجالاتِ الحياةِ كافّة، وانتُخِبتْ عام "1959م" رئيسةً لها، وأُقيمَ بهذهِ المناسبةِ أوّلُ احتفالٍ بعيدِ الأمِّ في لبنان.
توفّيتْ "نازك العابد" في العامِ نفسهُ "1959"م عنْ عمرٍ يناهزُ اثنين وسبعين عاماً قضتها مناضلةً في سبيلِ عزّةِ بلادها وصونِ كرامتها، ودُفنت في مقبرةِ العائلةِ في بابِ الآس في حيّ الميدانِ في دمشق، وفي حفلِ تأبينها -الّذي أُقيم برعايةِ الجمعياتِ النسائيةِ اللبنانيةِ- تكلّم المُفكّرونَ والخطباء عن الأديبةِ والمناضلةِ السوريةِ الّتي صاغتْ بمواقِفها البطوليةِ جزءاً مهمّاً منْ تاريخِ سُوريةَ الوطنيّ.
لعلّها لُقّبت بالسّيفِ الدِمشقيّ المنسيّ من بعض من عايشوها بعد أن حملت اسمَ "سيف دمشق" إشارةً إلى تَجاهُلها تاريخيّاً ومُحاولةِ طَيّ صَفحتِها، ويُرجَّحُ ذلكَ بحسبِ بَعضِ النقاد إلى سَيطرةِ بعضِ الأقلامِ الذُكوريةِ على الصحفِ والإِعلامِ وتَفنيدِ التاريخ، فكانتْ ذِكراها أشبهُ بكارثةٍ وثورةٍ بحدّ ذَاتها، ثورةٍ على العنصريةِ المُوجّهةِ ضِدّ المرأةِ في الشرقِ الأوسط وفتنةٍ للمفتونين، فمجرّدُ التَّمَعّنِ في مسيرتها كفيلٌ بإعادتهمْ إلى جادّةِ الصواب.
لمْ تَكنْ نازكُ العابدْ المرأةَ الوحيدةَ التَّي شارَكت في الثورةِ العربيةِ الكُبرى في سورية، بل كُنّ نِساءً تَوزّعنَ على المُحافظاتِ كافّةً كما تَوزّعت الرُموز المَعروفة منْ قياداتِ الثورةِ ضِد الاحتلالِ الفرنسيّ، وقد أدَّت بعضهُنّ أدواراً محوريّة، وسجلَّت أُخرَياتٌ مواقفَ بطولية يُنحنَى لها احتراماً كانتْ سبباً في تَغيّرِ خارطةِ الحرب.
ولمْ تكُن "نازك العابد" المرأةَ الوحيدةَ الّتي تجاهلها التاريخ؛ بلْ كُنَّ نساءً كثراً، ومنْ بابِ المفارقةِ أنَّ تِلكَ الظاهرةُ لم تَكنْ على مُستوى سورية فحسب؛ بل تَجاوزتها إلى الوطنِ العربيّ ومنه إلى أنحاءِ العالمِ ،وشملتِ العديد من النساء القدوات الرائداتِ في مُختلف الميادين ….
ولذلكَ سَيجري الكشفُ عن تلك الشخصياتِ المتفرّدة تباعاً في سلسلةٍ حصريةٍ على "الباحثون السوريون" وستحمل اسمَ "استحقاقٍ أُنثَويّ".
تابعونا ...