كتاب > روايات ومقالات
الإنسان والشيطان أم الإنسان الشيطاني؟ .. مراجعة رواية
في الرّوايةِ الثّانيةِ لكارلوس زافون من سلسلته "مقبرةُ الكتبِ المنسية" يَصعقُ زافون قُرَّاءَه، ويَضعهم في متاهةٍ حَبكويَّةٍ مختبئةٍ بينَ السطورِ وحروفِ الرّواية والمحاورات فيها، فبعدَ أن قدّمَ روايته "ظل الريح" في أسلوبٍ بوليسيٍّ ومُغَامَراتيٍّ مثير، ينقلُ الجوَّ الرّوائيّ في لعبةِ الملاك إلى جوٍّ غامضٍ سوداويٍّ مليءٍ بالأجواءِ القاتمةِ على مستوى السّردِ والحبكةِ المليئةِ بالحبكاتِ الثانويّة التي تبدَأُ وتنتهي في ظلّ الحبكة الرئيسة.
لعبة الملاك هي في الحقيقةِ بادئةٌ لظلِّ الرّيحِ التي تأتي بعدها في الأحداث.
في جوٍّ قوطيٍّ وفي زمنِ ما قبلَ الحرب الأهلية تقعُ أحداث الرواية.
ينتقلُ (ديفيد مارتين) الشّابُّ الصّحفي - الذي قاسى آلامَ طفولةٍ صعبةٍ في ظلِّ غيابِ والدِه الذي قُتِلَ بين يديه - بمساعدةِ (بيدرو فيدال) إلى إحدى الصّحفِ الكتالونيّةِ؛ ليبدأ نجمُه بالسطوعِ عبْر كتابةِ قصصٍ بوليسيّةٍ، ثم يأتيه عرضٌ من إحدى دورِ النّشرِ لكتابةِ قصصٍ باسمٍ مستعارٍ بعنوان "مدينة الملاعين"، وهنا تبدأُ المحنةُ في الظهورِ بسببِ قسوةِ الشّروطِ على (ديفيد)، ويبدأُ انحدارُ أسلوب الحياة والإرهاقُ الهائلُ الذي يجتاح كيانه، وفجأةً يُشَخَّصُ بِوَرَمٍ في الدّماغ.
يأتي (ديفيد) عَرْضٌ غريبٌ من شخصٍ غامضٍ يُدعى (النّاشر أندرياس كورييلي) لتأليفِ كتابٍ عن إنشاءِ دينٍ معيّنٍ، وبالمقابلِ يحصلُ على مبلغٍ كبيرٍ من المال (مئة ألف فرنك) يُوْدَعُ في البنك، فيَقبلُ (ديفيد) هذا العرضَ، وبجوٍّ سحريٍّ يُخلَّصُ (ديفيد) من الورمِ الدّماغيّ بعمليّةٍ جراحيّةٍ بواسطةِ كورييلي، وفي هذه الأثناءِ يصلُ (ديفيد) إلى مقبرةِ الكتبِ المنسيّة بواسطةِ (دون سيمبيري)، ويلتقطُ (ديفيد) أحدَ الكتبِ التي تصادفُ أنّها لشخص بأحرف اسمه نفسها (د.م)، وكي تكتملَ المصادفةُ يكونُ هذا الشّخصُ قد سكنَ المنزلَ الذي يعيشُ فيه ديفيد حالياً، تتسارعُ الأحداثُ ليرى (ديفيد) نفسه في دائرةٍ حيثُ يسقطُ الجميعُ من حولِه قتلى، ليدخلَ في صراعٍ مع (كورييلي) الشيطانيّ الذي يريدُ الدّيانةَ الجديدةَ بينَما (ديفيد) يريدُ خلاصَ روحه من هذه المحنة.
ولكي نجيبَ عن كثيرٍ من غموضِ القصةِ، ينبغي أن نفهمَ طبيعةَ السّردِ في هذه الرّواية التي اعتمدَ فيها زافون على نحوٍ رئيس على تقنيةِ ما وراءِ القصّ؛ أي؛ إضافةُ وعيٍ ذاتيٍّ للنصِّ وإضفاءُ بُعدٍ تخيُّليٍ فوقَ الرّوايةِ التخيُّلية الأصل، وهنا يكمنُ سرُّ (ديفيد مارتين) الغامض الذي استطاعَ إبرامَ عقدٍ مع الشّيطان (كورييلي) على الطّريقةِ الفاوستيّة مقابلَ المالِ والتّخلّصِ من المرضِ.
ولكن؛ أَكان (كورييلي) شيطاناً حقّاً أم كان يتخذُ الصّفاتِ الشيطانيّة!؟ من غيرِ الإمكانِ أن أجزمَ بذلك، ولكن هناك تلاميحُ في النّصّ تعكسُ الصّورةَ الشّيطانيّة لـ(كورييلي)، ففي أحدِ الحواراتِ بينَ (كورييلي) و(مارتين)، يسألُه مارتين: وأنتَ ماذا كنتَ ترغبُ في شبابِك؟
فيجيبه كورييلي بأنّي أرغبُ أن أكونَ الرَّبَّ، وهذه إشارةٌ واضحةٌ إلى الهالةِ الملائكيّةِ التي خلقها (زافون) حول (كورييلي)، ونلاحظُ لمحةً أُخرى تأتي في نهايةِ الرّوايةِ، عندما يأتي كورييلي إلى (ديفيد) في أحدِ الأكواخِ على أحدِ الشّواطئ التي انعزلَ فيها (ديفيد مارتين)، إذ يصطحب (كورييلي) (كريستينا) الصغيرة، ويقول لديفيد:
"قررتُ أن أردَّ إليكَ ما سلبْتُه منك، أعزُّ ما أحبَّه قلبُك، قررتُ أن أضعك مكاني لمرةٍ واحدةٍ، لتشعرَ بما أشعرُ به، لن تشيخَ أبداً، وسترى كيفَ تكبرُ (كريستينا)، وستُغرَمُ بها ثانيةً، ستكبرُ بجانبِك، وستراها يوما ما تموتُ بين ذراعيك، هذه نعمتي وانتقامي".
والإشارةُ في هذا المقطعّ جدُّ واضحةٍ تِجاه اللعنةِ الإلهيّة التي أتتْ على الشيطانِ عندَ لعنته وخسارته الفردوس، فهنا قرَّرَ الشيطانُ أن يضعَ (ديفيد) مكانَه مرّةً واحدةً لكي يُقاسيَ ما يقاسي الشيطانُ نفسُه في عذابٍ أبديّ، فإنَّ ديفيد سيرى حبيبته تكبرُ، وسيخسرُها كخسارةِ الشّيطانِ للفردوس الأعلى.
ولكن لنضع النظرةَ الدّينيّة جانباً قليلاً؛ ماذا يمثّلُ الشّيطانُ هنا؟ أو ماذا أرادَ (كارلوس زافون) من طرح كل هذه القصة!؟
الشيطان هو الحربُ، الحربُ الأهليّةُ الإسبانيّةُ والحربُ العالميّةُ الثّانيةُ التي كان سببُ كلٍّ منهما الإنسانُ، فالإنسانُ هنا هو الشّيطانُ؛ وهذه ثنائيّة متخفيَّةٌ جدّاً على نحوٍ غامض في النّصّ، ولكي نستطيعَ أن نراها علينا أن نعرّي نصّ زافون حتّى القشرةِ الأولى، فبعدَ بداياتِ الرّوايةِ التي تبدأُ أحداثُها في عشرينيات القرن الماضي، تستمرُّ الأحداثُ حتّى نقرأَ رسالةَ (إيزابيلا) التي توفيت بعدَ فترةٍ قصيرةٍ من الحربِ الأهليّة الإسبانيّة، إذ جاءَ على لسانِها: "لقد وقعتِ الكثيرُ من الأمورِ المرعبةِ والكارثيّة خلال ذلك".
أما التعريةُ النهائيّةُ ضدَّ الإنسانِ نفسه، وضدّ الشيطانيّة الإنسانيّة وضدّ العقائدِ الدّينيّة والإيديولوجيات جميعها والتي أرادَ أن يهشِّمها (كارلوس زافون)، تأتي من سردِ (ديفيد مارتين) للخاتمة إذ يقول: "خلالَ أعوامِ طوافي، رأيتُ بأمّ العين ذلك الجحيمَ الموعودَ، الذي صورته في الصفحاتِ المكتوبةِ لربّ العمل، ينفث من نيرانِه على دربي هربت من ظلي نفسِه ألفَ مرّة.... كنت أتمشّى على طولِ الشاطئ، أو أجلسُ قبالةَ الكوخِ، على الرّصيفِ الخشبيّ لِأقرأَ كومةً من الجرائدِ القديمةِ، التي وجدتُها في إحدى الخزانات، تفيضُ صفحاتُها بأخبارِ الحرب التي تحرِقُ العالمَ، مثلما حلمت به من أجل ذلك الناشر."
وفي نهايةِ هذا النصّ، يجبُ أن أشيرَ إلى شيءٍ مهمٍّ عن (كارلوس زافون): لم أكنْ أتوقّعُ نهائيّاً أن أقرأَ أدباً بهذه الجودةِ والقوّةِ والعمقِ من بعد قراءَتي لدوستويفسكي وهوغو وديكنز وكافكا، إذ إنَّ (كارلوس زافون) كاتبٌ يستطيعُ أن يسلبَ عقلَ قرّائِه بكلّ بساطة، وميزتُه في نصوصِه أنه يُفعم القارئَ بقوّةِ المُغامرةِ، فلا يستطيعُ القارئُ أن يترَكَ النّصّ الروائيّ دون أن ينهيه وبسرعة، ومن ميزاته قدرتُه على الوصفِ بأسلوبٍ جميلٍ جدّاً وحيويٍّ وواضحٍ؛ فعندما يصفُ لنا غروبَ برشلونة أو هطولَ الأمطار عليها فكأنّه ينتقلُ بنا إلى تلك اللحظةِ بالذات مُنسيًا قارِئَه أنّه يقرأُ نصّاً قد يكونُ في إحدى البلدان البعيدة جدّاً عن كتالونيا.
أتوقّعُ أن يحصلَ زافون على نوبّل للأدب خلالَ 5 أو عشر سنوات كحدٍّ أقصى فهو نقلَ كتالونيا للعالم كما لم نرها من قبلُ، وقدم لنا أدبًا كتالونيًّا مفعمًا بالأدبيّة.