كتاب > روايات ومقالات
مراجعة "ثلاثية القاهرة" لنجيب محفوظ.
ثلاثية نجيب محفوظ أو كما اشتهرت بثلاثية القاهرة، ثلاث روايات قدمها لنا الروائي العربي الحائز على جائزة نوبل في الأدب. حيث كُتبت جميعها على شكل قصةٍ واحدة طويلة ولكن قد تعثرت في النشر بسبب طولها، فتمّ تقسيمها لاحقاً لثلاثة أجزاء لتُفجر الوسط الأدبي العالمي وليس فقط العربي كواحدة من التحف الأدبية العالمية.
لم أكن أتوقع أبداً عند بداية قراءتي للجزء الأول من الثلاثية والمسمى "بين القصرين"، أن يكون نجيب محفوظ قادراً على أن يُقدم لقُرائه رواية أكثر اكتمالاً من أولاد حارتنا، ولكن يبدو أنني كنت مُخطأً في توقعي.
تدور أحداث رواية "بين القصرين" في حارات القاهرة وأزقتها ومنازلها في ظل الحماية الإنجليزية على مصر. الطابع العام للرواية يُقدَم لنا على أنه معالجة اجتماعية لمجتمعٍ شرقيٍ قديم ومُحافظ يصل إلى درجة التشدد. فعائلة السيد أحمد عبد الجواد بطل الرواية وسيد العائلة وكبيرها والتاجر المعروف، هو الشخص الذي يقوم بحُكم منزله وعائلته بحُكمٍ حديدي مليء بالغضب والسخط. أمّا الشخصية الحقيقية للسيد أحمد عبد الجواد فنراها خارج المنزل، حيث تعود الشخصية إلى وجهها الحقيقي اللطيف والدمث مع الأصدقاء والأقرباء والزبائن بحُكم عمله، بالإضافة إلى الكثير من المجون واللهو وعشق النساء في سهراته وليالي أُنسه في القاهرة مع العوالم والراقصات، حيث تحيا كؤوس الخمر وتُراق شرابها حتى الصباح الباكر ليعود إلى منزله حيث تنتظره زوجته كطقسٍ معتاد لا يعكس إلا العبودية الكاملة للمرأة العربية الشرقية.
الغِنى الكبير في الشخصيات الذي قدمه نجيب محفوظ في هذه الرواية هو تنوعٌ فريد من نوعه، قد عكس قُدرة أدبية هائلة من محفوظ على تتبُع نفوس الشخصيات ودراستها وتحليلها وسبر ما يجيش في أعماقها ببراعة منقطعة النظير. هو لم يعالج شخصية أو ثلاث، بل عالج أكثر من عشرة شخصيات في روايته. هذه الشخصيات التي عكست عدة شرائح من المجتمع المصري، وهو ما أراد محفوظ أن يُقدمه، بأن غنى هذا المجتمع يكمن في تنوعه وتناقضاته من الدين إلى الثورة والمحافظة والجنس واللهو.
وما قد زاد من جمال هذا التنوع أنه أضفى على الشخصيات بُعداً هزلياً في تناولها للمُعطيات كشخصية السيد أحمد عبد الجواد، حيث تسمعه في ذرى غضبه تخرج منه تعليقات مُضحكة، وهو ما ورثه ياسين ابن السيد أحمد عبد الجواد البكر. ولكن محفوظ كما يُضحك القارئ يُبكيه أيضاً، وهنا تكمن العبقرية في القدرة على عزف ألحان في مشاعر القارئ.
في الجزء الثاني "قصر الشوق"... يستمر نجيب محفوظ في سبر الأغوار النفسية لشخصيات روايته. وبالتالي إسقاط ما يحدث على بيئات المجتمع كافة مع إعطاء العامل السياسي في الرواية قدراً كبيراً بتعظيم شخصية كمال طفل الأسرة الأصغر. فكمال بطل هذا الجزء بلا منازع، نراه كغيره من الشباب وما يجيش في نفوسهم من قوة وحب ونزوع إلى الثورة والفكر والعقلانية.
فبعد تقديم محفوظ لشخصية ياسين الرجل الشهواني الذي لا يردعه عن الوصول لرغبته وقضاء وطره أي رادع، وبعد عرضه لنا لشخصية فهمي الابن الأوسط الثورية والتي كانت في ثورةٍ حقيقية تجاه الأب والمجتمع والمحتل. يقوم بعرض الشخصية المتزنة في أفعالها وتصرفاتها تجاه الحياة والأهل والحبيبة والمستقبل والعقل.
و من المعالجات الأجمل كانت في هذا الجزء على الرغم من قصرها، تغيُر كمال العقلي والفكري وانقلابه من ذلك الإنسان المُحافظ الذي يرفض شرب البيرة من يد محبوبته إلى شخصٍ جديد كلياً وُلد من رحم المُحافظة ملحداً، عقلانياً، علمياً، مليئاً بالحكم التي جادت عليه الحياة بها بانتقاله من التدين إلى الإلحاد. كما أن محفوظ قد عرّج على التطور وداروين، هذا الذي لم يكُن متوقعاً نهائياً في رواية أدبية عربية كتبت في منتصف القرن الماضي.
أما في الجزء الأخير المعنون "السكرية"... فعلى القارئ هنا أن يتجهّز لتراجيديا محفوظ. فهنا يبدأ في ختام روايته وختام شخصياته، فيتجرع القارئ الأحزان على فراقها ويتألم لما يعايشه من أحداث.
هنا محفوظ أيضاً يتطور في المعالجة للبانوراما السياسية للمجتمع إلى أعلى درجة ممكنة في رواية أدبية، فهو يعكس الأوجه السياسية للتيارات التي كانت سائدة آنذاك بقوة، ويعالجها ويترك للقارئ أن يقرر أيُ وجهٍ هو الصحيح وأيُ وجهٍ هو الخاطئ،، مع ملاحظة واحدة يتركها محفوظ في حديث أحمد الشاب الشيوعي ابن خديجة أخت كمال الكبرى مع خاله حيث يقول: " أنني أومن بالحياة وبالناس، وأرى نفسى مُلزماً باتباع مُثلهم العليا ما دُمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب. كما أرى نفسي مُلزماً بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل إذ النكوص عن ذلك خيانة"، وهو ما يتبدى لنا أنها خلاصة نجيب محفوظ الفكرية في هذه الحياة.